زُجَّ به في غياهب السجن؛ بسَببِ شعار الصرخة واستشهد في الحرب الخامسة: الشهيدُ المجاهد نصَّار مغلي.. الصوتُ الثائرُ في مواجهة السلطة الظالمة
المسيرة | أيمن قائد
اثنانِ وعشرون عاماً مضت على انطلاقِ شِعارِ “الصرخة في وجه المستكبِرين” والذي هتف به الشهيدُ القائدُ حسين بدر الدين الحوثي -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- ومعه ثُلَّةٌ من المجاهدين الأوائل عام 2002م.
كانت بدايةُ المُكَبِّـرِين الأوائل صعبةً جِـدًّا؛ نظراً للانزعَـاجِ الكبيرِ من قِبَلِ السلطة الحاكمة آنذاك من الشعار، حَيثُ كانت تتلقى الأوامرَ من البيت الأبيض؛ لإسكات هذه الأصوات الثائرة الحرة، والزج بها في غياهب السجون لتعانيَ الأمرَّين؛ جراء التعذيب الوحشي الذي لا مبرّر له.
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر؛ فمن قضى نحبَه، ولقي الله عزيزاً قد سجَّل مواقفَ عظيمة، ودروساً تاريخية في درب الجهاد والصدع بالحق في وجهِ الاستكبار والجبروت والطغيان، وقد تلقى الأعداءُ من بأسهم الويلَ الشديد، بعد أن تشبَّعوا بثقافة القرآن، ثم ارتوت الأرضُ من دمائهم الزكية ليجسِّدوا الصورةَ الواضحةَ في أن نعيشَ على الأرض أعزاءً أَو نسقط في ساحات القتال كرماءَ نرفُضُ الذُّلَّ والاستكانةَ لكل الطواغيت والمستكبرين، وما وصلنا إليه اليوم من عزةٍ وكرامة إلا ثمرةٌ من ثمار تضحيات أُولئك الرجال الذين انطلقوا مستبسلين في سبيل الله لنيل الحرية والاستقلال.
من ضمن هؤلاء الشهداء الذين استبسلوا وقدّموا مواقفَ مشرِّفة في طريق الحق ومقارعة الباطل، الشهيد نصَّار مغلي، وهو واحدٌ من أُولئك العظماء الذي التحقوا بالمسيرة القرآنية منذ الوهلة الأولى ومن المُكَبِّـرِين الأوائل الذين هتفوا بشعارِ الحرية والبراءة من أعداء الله.
اسمه نَصَّار أحمد أحمد ناصر مغلي، واسمُه الجهادي كميل، متزوِّجٌ ولديه ولد واحد وهو من أبناء مديرية حيدان محافظة صعدة.
نشأة الشهيد ومواقفه الجهادية:
نشأ الشهيد وترعرع في أحضان والدَيه في منطقة الهدى بمران صعدة اليمن، وعندما بلغ الخامسة عشرةَ من عمره انتقل إلى حَيثُ الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي ليتلقى الدروس القيمة، حَيثُ كان يستقبل ضيوف السيد حسين الذين كانوا يأتون من مناطقَ متعددة؛ لما كان عليه من مواصفات الإحسان والتواضع والأخلاق العالية، وقد انطبقت تلك الصفات في كُـلّ أفعاله وإحسانه إلى أُولئك الضيوف الوافدين، وكان أَيْـضاً ملازماً لأُولئك العظماء من أهل البيت -عليهم السلام- وقد اكتسب منهم المواقف القوية المشرفة والبطولية.
عندما سمع الشهيد نصار مغلي من الشهيد القائد وهو يتحدث عن اليهود “أمريكا وإسرائيل” وخطورتهم على العرب وظلمهم وقتلهم للعزل والأطفال والنساء وسعيهم في الأرض الفساد؛ لم يكن هو ذلك الذي يستمع دون أن تكون له مواقف تجاه أعداء الله، فانطلق إلى الجامع الكبير بصنعاء، وأعلن براءته من اليهود “أمريكا وإسرائيل”، وهناك في المسجد، ولم يكن يتوقع ما سيحصل له من السب والشتم والضرب من قبل الأمن السياسي التابع للسلطة العميلة التي نفذت آنذاك التوجيهات الأمريكية لمواجهة أبناء جلدتهم وإخوانهم المواطنين اليمنيين.
سجون السلطة الظالمة:
زُجَّ به في غياهب السجون هو ومن معه من الأحرار بدون ذنب أَو جريمة، إلا أنهم قالوا: رَبُّنا الله. وأعلنوا البراءة من أعدائه فقط لا غير؛ لذا كان الشهيد مغلي يتبسم ويضحك من ذلك الموقف؛ فحينما سئل: لماذا تضحك؟ أجابهم: “تذكرت مقولة للسيد حسين وهو يتحدث عن العرب (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) فقالوا له: ماذا تقصد بكلامك. فأسرَّها في نفسه ولم يُبْدِها لهم مرة أُخرى؛ وقال لهم: إنما أنتم إخوتنا، ونحن لا نعادي إلا أمريكا و”إسرائيل”، حتى إن بعض الجنود الذين أسروه كلموه بهمس: “إنما نحن مأمورون فلا حول لنا ولا قوة” فرد عليهم بالقرآن العظيم (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) وقال لهم أَيْـضاً: أنتم إخوتنا حتى لو ضربتمونا وسجنتمونا فلا يمكن أن يكون عداؤنا إلا لمن قال الله لنا فيهم: (مَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مّنْ خَيْرٍ مّن رّبّكُمْ) فكيف بمن يحسد الماء الذي ينزل عليك من السماء أن نكون إخوةً نحن وإياكم.
مكث الشهيد نصار في السجن لأكثر من ثلاثة أعوام وخمسة وسبعين يوماً؛ وقد مكث معه أَيْـضاً أخوه المجاهد أبو ياسين مغلي والذي سرد لصحيفة “المسيرة” جوانب من حياة أخيه ومن هذه القصة، حَيثُ وصف الحال الذي عاشوه في تلك السجون ومعاناتهم الشديدة وتعرضهم لأصناف التعذيب والابتزاز والجوع والحرب النفسية.
ويذكر أخو الشهيد أن أكبر ما كانت تمارسه السلطة العميلة حينها، استخدامهم الترغيب والترهيب بقولهم: ستخرجون اليوم ستخرجون غداً، ستخرجون بعد أسبوع وهكذا، حَيثُ كانت نفسية السجين عندما يبشر بالخروج لا سِـيَّـما بعد سنوات من القهر والتعذيب والجوع؛ يفرح فرحاً شديداً، حتى إن البعض يصيبه جلطة من شدة الفرح، ولكن هذا السجين الشهيد وإخوانه من سجناء الصرخة لم يكونوا يعرفون الوهن والضعف على الإطلاق، فقد كان يزداد إيماناً بما هو عليه؛ لأَنَّه كان ينظر بأن أمر الخروج ليس بأيديهم وأن المتحكم بسجنه هي أمريكا و”إسرائيل”، حَيثُ انتظر لنصر الله حتى أتى بعد ثلاثة أعوام وخمسة وسبعين يوماً (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ).
أما قصة الخروج من السجن فيصفها المجاهد أبو ياسين قائلاً: “كانت المفاجَأة العظيمة التي بكت لها حتى السماء وملائكة الله من الفرح بخروج أُولئك العظماء الذين سُجنوا ظلماً وعدواناً دون سبب إلا أنهم قالوا ربنا الله، بعدها تهاوت عروشُ الظالمين وتحطّم كيد الطغاة والمجرمين وكُسرت هيبة السجون وتهديدهم بها، فكم حاولوا تكميم الأفواه بالسجون والحروب، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون؛ فكان الفرح لا يتصور أبداً، والآباء والأُمهات يذرفون الدموع الممزوجة بالابتسامات كما يقولون دموعَ الفرح، فكان ذلك المشهد رهيباً، وهو يوم من أَيَّـام الله كتلك الفرحة التي فرح بها نبيَّا الله يعقوب ويوسف -عليهما السلام- عندَ ما التقيا بعد غربة طويلة”.
ويضيف “خرج ذلك السجين رافعًا هامته وهاتفًا بالبراءة من أعداء الله، خرج وكله عز وفخر للإسلام وأمة سيدنا محمد -صلوات الله عليه وعلى آله-، وكان في استقباله ابن رسول الله السيد عبد الملك -يحفظه الله- يستقبله بالابتسامة التي تشرح الصدور، وكما قال لنا ذلك الشهيد: (كنا نتصور أن تلك الصخرات والأشجار والتراب الذي هو عليه تبتسمُ مع ابتسامة السيد) وكنا نتصور استقبالَ رسول الله لأصحابه العظماء عندما يرجعون منتصرين في الغزوات لم يغب عنا إلا شخصه -صلوات الله عليهم-“.
ويواصل حديثه قائلاً: “بعدها جلسنا نحن وإياه وجلس يتبادل معنا الابتسامات واحداً تلو الآخر ومن ثم أعطاه السيد سلاحاً، وارتبط ذلك الشهيد بمشرف جبهة الفرش بعد زيارته إلى أبويه ليومين فقط، واستودعهم الله فدعوا له دعاء الفراق، وهم يبكون ويقولون: قد بعناك من الله فلا يمكن الرجوع، فخاض الشهيد غمار المعارك عقب الحرب الرابعة بكل مهارة واقتدار، وبعد أن هدأت الحرب طلب من أبيه الزواج، وكان يقول: إذَا استشهدت سيبقى لي أثر إذَا رزقني الله بالولد الصالح، فسبحان الله لم يستشهد إلَّا وقد حقّق الله له أمنيته، لم يستشهد ذلك البطل إلا وقد ترك له من يذكره باسمه، حَيثُ أوصاني الله في أهلي، وفي ولدي الذي ببطنها فكان يكنى بأبي كميل وقال: لا تعطي ابني اسماً إلا كميل ثم انطلق لمواجهة الأعداء”.
وصيةُ الشهيد:
نص الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، أوصي إخواني المجاهدين بتقوى الله وبالتواصي بالحق والتواصي بالصبر وأن يكونوا رحماءَ في ما بينهم، وأوصيهم بالتسليم المطلق للعَلَمِ من أهل البيت -عليهم السلام- وبالإحسان فيما بينهم وفي مواصلة نشر الهدي بين المجتمع، لكي يلتحقوا بهذه المسيرة القرآنية المباركة”.
قصةُ استشهاده:
في الحرب الخامسة التي شنتها السلطة الظالمة على المجاهدين، توجّـه العدوُّ بالدخول إلى منطقه يقال لها آل أبقور بزحف كبير؛ فتوجّـه الشهيد مغلي إلى ميدان المعركة هو ومجموعة من رفاقه لصد ذلك الزحف وهم لا يقلون عن ستة أفراد يواجهون الآلاف من مرتزِقة العدوان بدباباتهم ومدرعاتهم.
وخلال المواجهة الشرسة أُصيب الشهيد وصعدت روحُه الطاهرة ولقيَ اللهَ في أعظم المواقف بعد أن نكَّل بأعداء الله أشد تنكيل وصد الزحوف وولوا مدبرين، ومن حقد الأعداء وغيظهم على من قُتل منهم فقد ربطوا جثة الشهيد نصار وراء مدرعة تابعة لهم وأخذوا يجوبون شوارع وقرى آل أبقور؛ لكي يخوفوا أهل تلك القرى وأخذوا جثته وغيَّبوها عن أهله ما يقارب خمس سنوات حتى لا يُذكر له صرح ويشيد فيه؛ فسلام الله عليه يوم وُلد وسلام الله عليه يوم أعلن براءته من أعداء الله في الجامع الكبير وثبت في السجن ولم توهنه السلاسلُ والأغلال، ويوم ثبت في ميدان البطولة، ويوم ارتقت روحُه الطاهرة إلى بارئها، ومن جاهد فَــإنَّما يجاهد لنفسه؛ ولا عدوانَ إلا على الظالمين (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).