مجزرةُ الحجاج الكبرى
الزهراء العرجلي
ككل عام ما إن يحل موسم الحج حتى يتسابق الحجاج بحزم أمتعتهم وشد رحالهم بروح تملؤها اللهفة لرؤية بيت الله، تكاد تطير أرواحهم شوقًا لأداء فريضة الله، لا لأداء فريضة ألزموا بها، إنما حبًّا لله وحبًّا في التقرب إليه بأداء فرائضه.
وفي عام 1341هـ الموافق 1923م تجمع الحجاج بعد وداع أهليهم وذويهم، آملين اللقاءَ في القريب العاجل، فرحين بأنهم سيحلون ضيوفًا على الرحمن، لم يعلموا بالوحوش المفترسة التي تنتظرُهم لتنهشَ أجسادهم.
انطلقوا مهللين ومكبرين مشيًا على الأقدام غير آبهين بتعب الطريق فلقاء بيت الله وحلولهم ضيوفًا على الله ينسيهم تعب الطريق.
“طريق جبلية من صنعاء تنتهي بصعدة، صعدة تنتهي ببداية عسير وجبال عسير، تجتاز عسير أولًا من ظهران اليمن في جنوب عسير إلى أن تصل إلى أبها”.
محطات متعددة ورحلة طويلة كان لا بُـدَّ من اجتيازها للوصول إلى بيت الله الحرام.
موكب تملؤه الروحانية، ذكر وتهليل، سائلين الله أن يقبلهم زوارًا عنده، في نفس الوقت كان هناك من يحيك المكائد ويرسم الخطط لينقض عليهم، راصدًا تحَرّكاتهم، آملًا نجاحَ مجزرته ليكسب مرضاة أسياده!
وما إن بلغت القافلة أبها حتى سارع حاكمها عبد العزيز بن إبراهيم آل سعود باستقبالها مطمئنها أن الطريق إلى مكة سالكة وآمنة.
واصلت القافلة مسيرها وفي كُـلّ خطوة كانت تخطوها تسأل الله فيها أن تُقر أعينهم برؤية بيت الله، لم يكن يخطر لهم أنّ هناك ما سيعيق مسيرهم، هم ضيوف الرحمن ومن سيتجرأ على أن يعتدي على ضيوف الرحمن، هم حجاج بيت الله والله قال عن بيته بأنه آمنٌ للناس فما الذي حصل؟!
“الغطغط” جيش يقوده سلطان العتيبي يدين بولائه وطاعته للملك عبد العزيز آل سعود، لكنه لم يكن كأي جيش آخر إنما كان مكوناً من القتلة وقطاع الطرق.
تجهز “الغطغط” بكل قوة وعتاد لتنفيذ مجزرة بكت لوحشيتها الحجر الصماء، توزعت على الجبال وفي المرتفعات منتظرة بكل لهفة فريستها لتنقض عليها بكل وحشية، لكن هذه المرة لم تكن أية فريسة إنما كانوا حجاج بيت الله!
وادي تنومة بعسير من الأماكن المعتاد الاستراحة فيها سنويًا من مشقة الطريق، لكن هذه المرة لم يكن الوادي آمنًا لهم، فقد كان الغطغط محاصِرًا له من جميع الجهات كجزء أَسَاسي من مخطّطهم القذر.
وفي السابع عشر من ذي القعدة حط الحجاج رحالهم في الوادي، ومع تكبيرة أذان الظهر بدأ الهجوم عليهم من كُـلّ مكان لتبدأ مجزرة لا تبقي ولا تذر، لم يفرقوا بين كهل أَو صبي، المرأة والرجل، أرادوها مذبحة جماعية، أخذوا الطفل من حضن أمه، قتلوهم بالرصاص، ومن لم يمت برصاصة سيموت بسيف أَو خنجر.
أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمِئة حاج لم ينجُ منهم إلا بضع مئات، كانت وسيلة نجاتهم الوحيدة الانغماس بين الدماء متظاهرين بالموت.
تناثرت الجثث في الوادي لتأكلها النسور وتنهش منها الكلاب، أية وحشية وأي إجرام؟! أية جرأة تقودك لتعتدي على ضيوف الرحمن؟!
جريمتهم تعدت منطق الإجرام، وحشية لم يُرَ لها مثيلٌ، خرجت عن الإنسانية، لك أن تتصور بشاعة الأحداث بقدر ما تشاء فأحفاد معاوية لن يألوا جُهدًا في فعل أي شيء فيه غضب الرحمن ومرضاة الأنجاس!
جريمةٌ بكت لقساوتها الشجر والحجر، كادت أن تنهدَّ الجبال لبشاعتها؛ فأي عصر كان يعتدَى فيه على الحجاج وَأي شرع أحلَّ الغدر بالأبرياء؟!
بأي ذنب قُتلوا وما الأسباب التي تصوغ جريمتهم سوى أسباب سياسية وعقائدية تعبر عن حقدهم وحقارتهم؟!
طغى الحزن على الجميع وغرد الطائر الحزين بصوت كسير لرحيل الأحبة.
“ألا قم يا رسولي شل خطي
طلوع الفجر واعزم في البحينا
ألا يا ملقني واهتف وخبر
بهذا العيب ذي قد حَـلّ فينا
ألا يا ملقني مالك تهجس
وخلق الله قد هم راقدينا
على الحجاج ذي ساروا شهادة
وفي ساق الغراب حن الحنينا
عدو الله جاهم بالتهايت
وهم في وسط وادي طارحينا
وقام بالعيب الأسود والخيانة
على الحجاج ذي هم آمنينا
ويا غبني على شيبة وشبان
وهم وسط الهياج مجندلينا
ولا شيء به كفن أَو قبر مفتوح
والاملاك في السماء متفكرينَ
على ما قام عدو الله بفعله
عمل يغضب إله العالمينَ
وطير أخضر بصوته هو يلألي
ملاك من عند رب العالمينَ
حمام مكة تقول يا حزن قلبي
ويا دمع اهملي مثل الزَّنينا
على الحجاج ذي ساروا شهادة
وفي ساق الغراب حن الحنينا
وزمزم والحرم والركن الأدعم
من الفعلة بقى مكروب حزينا”
أرادوا التخلص من الجريمة وامتصاص غضب وسخط الأهالي فسارعوا بالاعتذار قائلين بأن القتلة ليسوا سوى قطاع طرق، لكن الله مخرج ما كانوا يكتمون.
قال الله في كتابه الكريم: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} لكن أعداء الله استغلوا الحج والحجاج لتنفيذ مخطّطاتهم القذرة ولو بأساليب وحشية، تنومة لم تكن المجزرة الوحيدة لكنها الأكثر وحشية، وهناك غيرها الكثير من الجرائم المرتكبة بحق الحجاج، 11 ألفًا بين قتلى وجرحى من عدة دول خلال قرن كانت حصيلة الجرائم التي ارتكبها أعداء الله بحق حجاج بيت الله.
لن ننسى تنومة، لن ننسى ما حدث فيها، ولن ننسى الدماء المسفوكة ظلمًا وعدوانًا وسنأخذ بثأرنا ولو بعد حين {وَسَيَعْلَـمُ الَّذِينَ ظَلَـمُوا أي مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.