مواكبةُ الإدارة الأمريكية جريمةَ الإبادة الجماعية.. المموِّلُ والذائد قاتِـــلٌ أيضاً
د/ عبد الرحمن المختار
جريمةُ الإبادةِ الجَماعية بحقِّ أبناء الشعب الفلسطيني في قِطاعِ غزةَ، تَقترَفُ أفعالَها عمدًا الإدارةُ الأمريكية، وما تزالُ حتى اليوم.
صحيحٌ أن الكيان الصهيوني في الواجهة، لكن ما كان لهذا الكيان المسخ أن يجرؤ على اقتراف هذه الجريمة لولا إصرار الإدارة الأمريكية عليها، وما كان الكيان الصهيوني ليجرؤ على ارتكابها لولا تغطية الإدارة الأمريكية سياسيًّا وإعلاميًّا وحقوقيًّا، ما كان هذا الكيان المجرم ليجرؤَ على ارتكابها لولا إمدَاد الإدارة الأمريكية له بأفتك أنوع الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة، وما كان له أن يجرؤَ على ارتكابها لولا التمويلُ الكبيرُ الذي استمرت الإدارة الأمريكية في تقديمه على مدى أكثر من ثمانية أشهر؛ ليستمرَّ الكيان الصهيوني المجرم في تنفيذ أفعال جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
وإذا ما تأكّـد لدينا من خلال المعطيات والمواقف السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية الواضحة للإدارة الأمريكية، استحالةُ ارتكاب الكيان الصهيوني لجريمة الإبادة الجماعية بدون الإسناد والإمدَاد، والغطاء والتمويل من جانب الإدارة الأمريكية، فَــإنَّه يمكن القول والحال هذه: إن الكيان الصهيوني هو مُجَـرّد أدَاة تنفيذ بيد الإدارة الأمريكية الداعم والمساند والمموِّل لتنفيذ جريمة الإبادة الجماعية، كما هو الحال تماماً بالنسبة لتحالف العدوان على شعبنا اليمني، الذي هو أَيْـضاً أدَاة بيد الإدارة الأمريكية، استخدمتها في القتل والتدمير لتحقّق أهدافها.
وليس في ما سبق أية مبالغة على الإطلاق، ويمكن لمن يريد أن يدقق في هذا الأمر أن يرجع إلى تصريح الجُبَير في يوم 17/3/ 2016م بعد أن أدرك حجم ورطة بلاده، والذي جاء فيه، أن الحل في اليمن لا يمكن أن يكون عسكريًّا، وأن الحل لا يمكن أن يكون إلا سلميًّا سياسيًّا؛ فخرج في مساء ذات اليوم متحدث البيت الأبيض، ليعلن بكل وقاحة أن الحل السياسي في اليمن لا يزال بعيد المنال؛ ليؤكّـد أن الكلمة الأخيرة في تقرير خيارات السلم والحرب هي للإدارة الأمريكية، وليس لأدواتها في المنطقة، ويؤكّـد استمرار هذه السياسة الإجرامية للإدارة الأمريكية ما ورد في تصريح مبعوثها ليندركيغ ونشرته “رويتر” في 3 إبريل 2024م وجاء فيه (أن نجاح مفاوضات السلام في اليمن بات مستحيلًا في الوقت الراهن) فما أشبه إبريل من هذا العام بمارس من عام 2016م.. إنها السياسة الإجرامية للإدارة الأمريكية التي لم ولن تغيرها ما لم تواجه تهديدًا حقيقيًّا حالًا ووشيكًا لمصالحها في المنطقة بأسرها!
ومثلما كان الهدف المعلَن من الحرب العدوانية على شعبنا اليمني، هو استعادة الشرعية، وتأمين الحدود الجنوبية للسعوديّة من خطر (الحوثيين)، حسب ما كان يُروَّجُ له في حينه، فَــإنَّ الهدفَ غيرَ المعلَن من هذه الحرب، هو خدمةُ أهداف الإدارة الأمريكية، التي تكشَّفت ولا تزال تتكشَّف تباعًا.
وإذا كان الأمر كذلك، والوقائع تؤكّـد ذلك، فَــإنَّه يمكن القول: إن لجريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء قطاع غزة هدفًا قريبًا مُعْلَنًا، وهدفًا بعيدًا غيرَ معلَن:-
أما الهدفُ القريب المعلَن، فهو القضاءُ على فصائل مقاومة الاحتلال، أَو ما يسمونهم بـ “الإرهابيين”، وإبعاد الخطر عن الكيان الصهيوني.
والهدفُ البعيدُ غير المعلن وهو الأهم، فلا يزال طي الكتمان في جعبة الإدارة الأمريكية وهو مرتبط بمصالحها بكل تأكيد، والأيّام كفيلة بكشفه؛ فالإدارة الأمريكية تضحّي بسُمعة الولايات المتحدة الدولية؛ وبسبب هذه التضحية، انكشف زيفها ومزاعمها وكذبها بشأن الديمقراطية، والدفاع عن حقوق الإنسان.
الواضح أن الإدارة الأمريكية قد وضعت كُـلّ ثقلها العسكري والسياسي والاقتصادي لتنفيذ جريمة القرن، جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وما كان للإدارة الأمريكية أن تغامر بسمعة الولايات المتحدة الدولية، ولا أن تضع كُـلّ ثقلها العسكري والسياسي والاقتصادي إلا لأَنَّ الهدف الذي تسعى جاهدة لتحقيقه يفوق كُـلّ التوقعات، ويستحق -من وجهة نظر هذه الإدارة- تلك المغامرة، ولن يظلَّ هذا الهدفُ طَيَّ الكتمان طويلًا، وسينكشف بكل تأكيد عما قريب، كما انكشفت قبله كُـلّ مزاعم وأكاذيب هذه الإدارة الموغلة في الإجرام.
وما توقيع رئيس الإدارة الأمريكية للقانون الذي أقرَّه الكنجرس الأمريكي، إلا تأكيد على إصرار هذه الإدارة المجرمة على استمرار تمويل تنفيذ بقية فصول جريمة الإبادة الجماعية التي اتخذت من رفح مسرحًا لها، وكذلك إلى جانب مسارحها الأُخرى في عموم قطاع غزة، وذلك التمويل الضخم الذي بلغ (95) مليار دولار، وإن تم ربط هذا التمويل بأوكرانيا وتايوان إلى جانب الكيان الصهيوني، غير أن هذا الربط لا يتعدى الجانب الشكلي، ليخرج القانون وفقًا لشكلية معيَّنة؛ تجنُّبًا لإثارة الرأي العام ضد الإدارة الأمريكية، لكن الحقيقة أن ذلك التمويل الضخم إنما هو لاستكمال تنفيذ فصول جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وما قد يطرأ عنها من مضاعفات، وهذا التوصيف ليس مُجَـرَّدَ تخمين، وإنما هو توصيفٌ مبنيٌّ على وقائعَ ملموسةٍ وثابتةٍ على أرض الواقع، ويمكن فقط مراجعة المواقف والبيانات والتصريحات، التي أطلقتها الإدارة الأمريكية حول وَهْمِ حَـلِّ الدولتَينِ، وحول قلق هذه الإدارة من تزايد أعداد الضحايا من المدنيين -حسب زعمها-، وحول ضرورة إدخَال المزيد من المساعدات الطبية والغذائية، غير أن الحقيقة الواضحة التي لا لبس فيها ولا غموض، هي أن الإدارة الأمريكية رفضت وَهْمَ حَـلِّ الدولتَينِ، وهو الوهمُ الذي صدّعت به رؤوسَ سكان الكرة الأرضية على مدى عقود من الزمن، ورغم عدم جدوى هذا الوهم للفلسطينيين، فقد انكشف زيفه، حين عبّرت الإدارة الأمريكية بكل وضوح عن موقفها الحقيقي في آخر اجتماع لمجلس الأمن الدولي، وكذلك إعلانات المتكرّرة لسفاحها الأول بايدن التي ربط فيها قيام دولة فلسطينية بموافقة الكيان الصهيوني!
وينطبقُ ذاتُ الوصف على مواقفِها الزائفة المعلَنة، بشأن قلقها العميق من تزايد أعداد الضحايا من المدنيين؛ نتيجة للحرب على الإرهابيين في قطاع غزة -حسب وصفها- وقد انكشف هذا الزيف والتضليل بمواقفها الحقيقية المتكرّرة في مجلس الأمن الدولي، حين أعاقت مشاريع القرارات، التي تدعو الكيانَ الصهيوني إلى وقف جريمة الإبادة الجماعية، بحق سكان قطاع غزة، وانكشفت مواقفها الحقيقية عبر وزير خارجيتها، وغيره من المتحدثين باسمها، الذين أكّـدوا تعليقًا على ما أثير أمام محكمة العدل الدولية من اتّهامات بارتكاب إبادة جماعية، بأن الإدارة الأمريكية لا ترى أيَّ أَسَاس قانوني أَو واقعي يؤكّـدُ ما يثارُ أمام محكمة العدل الدولية من اتّهامات بارتكاب أفعال إبادة جماعية في قطاع غزة، مُصرِّين على أن مثل هذا الاتّهام مبالَغٌ فيه! وأن الإدارة الأمريكية لا ترى أبدًا أية مؤشرات تؤيد ما يثار أمام محكمة العدل الدولية من اتّهامات، رغم أنها غالبًا ما تعلق على كُـلّ فعل من أفعال الإبادة الجماعية بأن ما حدث مروع وهو ذات التعليق حول ما حصل في رفح، لكن ذلك لا يتجاوز كونه مهدئًا وقتيًّا يزول بمضي أقل من ست ساعات!
وانكشف الموقف الحقيقي للإدارة الأمريكية في ما يتعلق بقلقها من تزايد أعداد الضحايا من المدنيين، من خلال تدفق شحنات القنابل شديدة التدمير، وغيرها من الأسلحة الفتاكة المستخدَمة في تنفيذ أفعال جريمة الإبادة الجماعية، بشكل يومي وعلى مدار الساعة؛ فـكيف يمكنُ تصديقُ ما تعلنُه الإدارةُ الأمريكية، أنها قلقةٌ من زيادة عدد الضحايا المدنيين -حسبَ زعمِها- وهي في ذات الوقت لا توقفُ شُحناتِ الأسلحة والمعدات العسكرية، التي تفتكُ بالمدنيين وتمزِّقُهم إلى أشلاء؟ كيف يمكنُ التصديقُ أن الإدارة الأمريكية ترغبُ بزيادة حجم المساعدات الطبية والغذائية لقطاع غزة، وهي تقفُ بالمرصاد لوكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين (الأونروا) وتضغطُ على الدول المانحة لوقفِ تمويلها، وتلفِّقُ لها تُهَمًا متعددةً؛ لِتَحُدَّ من دورها البسيط في إنقاذ حياة الأطفال والنساء والشيوخ من أبناء الشعب الفلسطيني، وكل ذلكَ بهَدفِ تفاقُمِ الحالة الإنسانية في قطاع غزة، باتساع دائرة المجاعة، وانتشار الأوبئة للفتك بمن أخطأتهم قنابلها وصواريخها وقذائفها من الأطفال والنساء والشيوخ؛ للتعجيل باستكمال فصول جريمة الإبادة الجماعية.
والواضحُ تماماً أنَّ الإدارةَ الأمريكيةَ استخدمت نفوذَها في العالم، وفي المنطقة العربية خُصُوصاً مع مَن يصفون أنفسَهم بأنهم حلفاؤها؛ للضغط باتّجاه توسيعِ دائرة التضليل حول جريمة الإبادة الجماعية؛ للحد من آثار التحَرُّكات الشعبيّة الواسعة في مختلف دول العالم؛ وليتضحَ -بحقٍّ، وبما لا يدعُ مجالًا للشك- أن ما تعرض له، وما يزال يتعرَّضُ له سُكَّانُ قطاع غزة، منذ أكثر ثمانية أشهر وإلى اليوم، يُمَثِّلُ جريمةَ إبادة جماعية، تنفِّذُها الإدارةُ الأمريكيةُ بأدَاة من أدواتها الإجرامية في المنطقة، بمواكبةٍ ومتابَعةٍ لأفعال الجريمة، وإسنادٍ وتمويلٍ، وحمايةٍ ورعايةٍ وتغطيةٍ كاملةٍ من جانب هذه الإدارةِ الموغِلةِ في الإجرام والتوحش.