انتهاكُ الدستور تحتَ عناوين الالتزام بأحكامه

المسيرة| د. عبدالرحمن المختار

مُسَمَّى “بنك عدن المركَزي” برَّرَ قراراتِه بشأنِ إجراءاتِ المعالجاتِ النقديةِ بالالتزام بالدستور، ومِن حَيثُ المبدأِ يُعَـــدُّ إسنادَ الأعمال الحكومية -ماليةً أَو اقتصاديةً أَو سياسيةً أَو غيرها- إلى الدستورِ أمرٌ إيجابيٌّ، وهو أمرٌ مطلوبٌ من كُـلِّ الفُرَقَاءِ على الساحة الوطنية، شريطةَ أن يكونَ هذا الإسنادُ التزامًا واقعيًّا بالدستور، ويُمَثِّـلُ تجسيدُ أحكامه على أرض الواقع أمرًا مُلِحًّا، خُصُوصاً في الظرفِ الراهنِ الحَرِجِ الذي يَمُـــرُّ به الوَطْنُ شمالُه وجنوبُه وشرقُه وغربُه، والسؤالُ المطروحُ هنا هو: ما مدى صحة ادِّعاء الالتزام بأحكام الدستور في ما تم اتِّخاذه مؤخّراً من إجراءات من جانب مسمى بنك عدن المركزي أَو ما سبق ذلك من إجراءات في مختلف الشؤون العامة من جانب مستويات سلطة عدن؟.

لكي نصل إلى إجَابَة موضوعية لهذا التساؤل لا بد من استرجاع عدد من الوقائع وعرضها على الدستور؛ لمعرفة مدى انسجامها مع أحكامه قبل عرض القرارات والإجراءات النقدية محل الجدل لمعرفة مدى صحة إسناد متخذيها لها إلى الدستور.

 

أوَّلًا: واقعةُ استقالة الحكومة ورئيس الدولة في يناير 2015:

لا أعتقد أن هذه الواقعة حظيت بقدر من الاهتمام في حينه أَو لاحقًا، رغم شدة حساسيتها وخطورتها على البلد، ونحن هنا لا نريد إثارة هذه الواقعة لذاتها، فقد انقضت وانقضى عليها عقد من الزمان، لكننا نريد ألَّا نقع في ذات التجاهل بالنسبة للوقاع الجديدة المثارة في الوقت الراهن، خُصُوصاً أن من صدرت عنه تلك الإجراءات يمتطي صهوة الدستور، لينطلق إلى الجمهور مسرعًا لإقناعه بما في جعبته من خطوات اتخذها أَو يعتزم اتِّخاذها! فإذا ما تحدثنا بداية عن الاستقالة فهي حق للحكومة ورئيس الدولة متى ما توافرت مبرّراتها، وَإذَا كانت الاستقالة حَقًّا للحكومة ولرئيس الدولة فما هي الإجراءات الواجب اتباعها والالتزام الصارم بها؟.

بعد إقرار الدستور في المادة (140) منه بحق الحكومة في الاستقالة، حدّد إجراءاتها بشكل دقيق، وأوجب الالتزام بها فنصت هذه المادة على أن (عنــــد استقالة الـــــوزارة أَو إقالتهــــا أَو سحـــب الثقـــة منهـا تُكَلَّفُ الوَزارةُ بتصريــف الشؤون العامــــة العاديــــة ما عــدا التعيـين والعـزل حتى تشكل الوزارة الجديدة) وواضحٌ أن حكم هذا النص لا لَبْسَ فيه بالنسبة لوجوب استمرارها بعد الاسقالة في أداء مهامها، بوصفها حكومةَ تصريف أعمال إلى أن يتم تشكيل حكومة بديلة، والحكمة من إلزام الحكومة بهذا الواجب تتجسد في منع حالة الفراغ الحكومي، وما يمكن أن يترتَّبَ عليها من مخاطرَ كبيرةً قد يتعرضُ لها البلد.

وعند تقديم الوزارة لاستقالتها فَــإنَّ هذه الاستقالة إما أن يقبلها رئيس الدولة بشكل صريح، ويكلفها بعد ذلك بتصريف الأعمال لحين تشكيل حكومة بديلة، وإما أن يرفض الاستقالة، وتعد الاستقالة والحال هذه كأن لم تكن، وتستمر الحكومة في أداء مهامها لحين موعد تشكيل حكومة بديلة أَو قبول استقالتها في مرحلة لاحقة خلال مدة ولايتها الدستورية، وهذا هو حكم الدستور الذي أقسم رئيس الحكومة وأعضاؤها على احترامه والالتزام به، ومعلومٌ للجميع أن رئيس الحكومة حين قدم استقالة حكومته في يناير 2015 التزم هو وبقية الوزراء منازلهم، وأدخلوا البلاد في حالة فراغ حكومي، وهذا التصرف لا يمكن تبريره بحالٍ من الأحول؛ باعتبَاره يُمَثِّلُ جريمة خرق للدستور، وهي من الجرائم التي تستوجب محاكمة مرتكبها، والاستقالة غير الإقالة؛ فالأولى اختيارية والثانية إجبارية، لكن في الحالتين لا يمكن للحكومة أبدًا التنصل عن واجباتها التالية لمرحلة قبول الاستقالة أَو الإقالة وهي مرحلة تصريف الأعمال، وهذه المرحلة وكما هو معلوم، تنصلت عنها الحكومة في ذلك الحين رغم مخاطر هذا التنصل على أمن البلد واستقراره! ولا يمكن للحكومة مطلقًا التذرع بالظروف السائدة في حينه؛ فتلك الظروف لم تترتب عليها إزاحة الحكومة بالقوة حتى يمكن تبرير حالة الفراغ الحكومي، التي دخلتها البلاد؛ بسَببِ استقالة الحكومة.

وقد لا يدرك البعض حجم المخاطر التي يمكن أن تترتَّبَ على الفراغ الحكومي، الناتجِ عن استقالة الحكومة والتزام رئيسها ووزرائها منازلَهم، وببساطة شديدة نشير إلى بعضها، فلو أن وزير الدفاع التزم منزله، وترك مهام وزارته لترتب على ذلك فوضى وزارية، قد تنتهي بانقسام المؤسّسة العسكرية، وهذا أمر في غاية الخطورة، وَإذَا ما التزم وزير الداخلية منزله فالأكيد أن الفوضى والانقسام سيسودان وزارته، وهذا أمر في غاية الخطورة أَيْـضاً، وينذر بفوضى عارمة، وكذلك الحال إذَا لزم وزراء الصحة المياه والكهرباء وغيرهم من الوزراء في الوزارات الخدمية منازلهم فذلك يعني انهيار الخدمات تماماً، ودخول المجتمع في حالة فوضى أولها معلوم وآخرها مجهول، ويعد التزام الحكومة المستقيلة في حال قبول استقالتها بأداء مهامها كحكومة تصريف أعمال واجبًا دستوريًّا يترتب على الاخلال به محاكمة رئيسها وأعضائها، بوصفهم مرتكبين لجريمة خرق الدستور؛ باعتبَار أن شغل المناصب العليا في الدولة تترتب عليه واجبات تجاه البلد، ومن يشغل منصبًا من هذه المناصب يجب أن يكون مدركًا لذلك، ومدركًا أنه يترتبُ على الإخلال بهذا الواجب تحمل مسؤولية التبعات الناتجة عن ذلك الإخلال.

وبالنسبة لاستقالة رئيس الدولة فلعل الجميع يتذكر جيِّدًا أنه تنصل في حينه عن واجباته الدستورية فلم يقبل استقالة الحكومة بشكل صريح، ويكلفها بتصريف الأعمال ولم يرفض تلك الاستقالة، بل إن ما فعله هو إعلان استقالته، ولا اعتراض بطبيعة الحال على حق رئيس الدولة في تقديم استقالته إلى مجلس النواب فهذا الحق مكفول بموجب المادة (115) من الدستور التي نصت على أن (يجـــوز لرئيــــس الجمهوريـــة أن يقـــدم استقالةً مسبَّبــةً إلى مجلــس النـواب، ويكــون قــرار مجلــس النواب بقبول الاستقالة بالأغلبيـــة المطلقـــة لعــدد أعضائه فإذا لم تقبل الاستقالة فمن حقـــه خـــلال ثلاثــة أشهر أن يقـــدم الاستقالة وعــلــى مجلــس النــــواب أن يقبلها).

والواضح من حكم نص المادة السابقة أن رئيس الدولة ملزم بتقديم استقالة مسببة إلى مجلس النواب، والواضح أَيْـضاً من هذا النص أن لمجلس النواب سلطة تقديريةً في قبول الاستقالة أَو رفضها في المرة الأولى؛ فإذا ما رفض مجلس النواب الاستقالة اعتُبرت كأن لم تكن ويستمرُّ رئيسُ الدولة في أداء مهام منصبه، وَإذَا قُبلت الاستقالة يلتزم كذلك رئيس الدولة بالاستمرار في أداء مهام منصبه لحين انتخاب أَو اختيار أَو تكليف من يتولى مهام منصب رئيس الدولة، أما التزام رئيس الدولة منزلَه بمُجَـرّد إعلان استقالته، فَتترتَّبُ على ذلك مخاطرُ جسيمةٌ يمكنُ أن تلحقَ بمؤسّسات الدولة والمجتمع على حَــدٍّ سواء؛ فمنصب رئاسة الدولة ليس ملكية خَاصَّة لشاغله بل هو واجب أقسم شاغله يمينًا مُغَلَّظَةً على الاضطلاع به؛ حفاظًا على أمن البلد وسلامة شعبه، كما ورد نص تلك اليمين في المادة (160) من الدستور، ومن ثم فَــإنَّ رئيس الدولة يكون وفقًا لما سبق قد أخلَّ إخلالًا جسيمًا بالواجبات الدستورية الملقاة على عاتقه، يكون بالنتيجة مرتكِبًا لجريمة خرق للدستور تستوجب محاكمته.

وليس لرئيس الدولة أن يتذرع بأي ظروف لتبرير إخلاله بواجباته الدستورية، خُصُوصاً أنه لم يزح بالقوة من منصبه، بل إنه هو من أعلن الاستقالة، والاستقالة كما هو معلوم مسألة اختيارية، وهي في ذات الوقت حق للرئيس شريطة الالتزام بما نص عليه الدستور من إجراءات واجبة الاتباع لأعمال حقه في تقديم استقالته، والجميع يدرك جيِّدًا أن رئيس الدولة قد التزم منزله في ذلك الحين، منذ لحظة إعلان استقالته، تاركًا الدولة في حالة فراغ رئاسي إلى جانب الفراغ الحكومي الناتج عن استقالة الحكومة والتزام رئيسها وأعضائها منازلَهم، وهو ما كان يمكن أن يترتب عليه انهيارٌ شاملٌ لمؤسّسات الدولة؛ فبماذا يمكن تفسير السلوك المتزامن لرئيس الحكومة ولرئيس الدولة المنتهك لأحكام الدستور؟

يمكن أن يتبادر إلى ذهن البعض أن ما تردّد في حينه من سيطرة لأنصار الله، وتحديدًا عقب نجاح ثورة 21 سبتمبر في طرد اللصوص والعملاء، يعد سببًا كافيًا لاستقالة الحكومة ورئيس الدولة؛ بسَببِ ما تعرضوا له من مضايقات! هذه الذريعة لا يمكن قبولها بحال من الأحوال؛ فأنصار الله لم يزيحوا عقب ثورة 21 سبتمبر الحكومة ورئيس الدولة من مناصبهم، لو كان هناك إجبار للحكومة ولرئيس الدولة على التخلي عن مناصبهم لكان الواجب على رئيس الدولة وعلى الحكومة تسليم السلطة إلى أنصار الله وفقًا للإجراءات المعتادة ليخلوا مسؤوليتهم، وليتحمل أنصار الله مسؤولية إدارة مؤسّسات الدولة بعد استلام السلطة بشكل رسمي ممن كانوا يشغلون مناصبَها العليا، لكن الأمر الواضح الذي يمكن لأي متابع منصف استخلاصه، هو أن سُلُوكَ الحكومة ورئيس الدولة المنتهك للدستور، سواءٌ أكان ذلك السلوك ذاتيًّا، أَو بناءً على إيعاز من جهات أُخرى، هدفُه إيجادُ حالة انهيار شامل لمؤسّسات الدولة، وإدخَال البلاد في حالة فوضى عامة، وتحميل الثورة مسؤولية تلك الحالة، ولا تفسير آخر لذلك السلوك!.

 

 ثانيًا: واقعةُ نقل عاصمة الجمهورية والبنك المركزي:

يدرك الجميع حجم الجهود محلية وخارجية (ظاهرًا) التي بُذلت لإقناع رئيس الدولة بالعودة لمزاولة مهام منصبه التي اعتزلها اختيارا، لكنه أصر على موقفه المنتهك لأحكام الدستور، وبمُجَـرّد نجاح عملية تهريبه خارج العاصمة صنعاء ووصوله إلى محافظة عدن، حينها أعلن تراجُعَه عن استقالته، واستدعاءَه قوىً خارجيةً لشن حرب عدوانية على البلد؛ بذريعةِ استعادة الشرعية من الانقلابيين!

وعقب ذلك أعلن نقل عاصمة الجمهورية إلى محافظة عدن تحت مسمى العاصمة المؤقتة، وظل الحال كذلك إلى أن تم تعيين مجلس بديل عنه تحت مسمى مجلس القيادة الرئاسي، ولم يكن هناك من سند دستوري يمنح لأَيٍّ كان صلاحية نقل عاصمة الجمهورية إلى أي نطاق جغرافي آخر في إقليم الدولة، فقد نصت المادة (157) من الدستور على أن (مدينة صنعاء هي عاصمة الجمهورية اليمنية) ووفقًا لحكم هذا النص يمتنعُ على أَيٍّ كان الزعمُ بنقل عاصمة الجمهورية إلى أي مكان آخر؛ باعتبَار أن تغيير العاصمة لا يتم إلَّا بتعديل الدستور ذاته، وهو ما يدرك الجميع أنه لم يحصل، ومن ثم يعد الإجراء الذي تم الإعلان عنه بنقل عاصمة الجمهورية خرقًا للدستور، وهذ الخرق يمثل جريمة دستورية توجب محاكمة مرتكبه.

وكذلك الحال بالنسبة لما سمي بقرار نقل المركز الرئيسي للبنك المركزي من العاصمة صنعاء يعد هذا الإجراء أَيْـضاً خرقًا للدستور؛ فالمعلوم أن رئيس الدولة وقبل أن يتولى مهام منصبه يقسم يمينًا دستورية يقر فيه باحترامه للدستور والقانون، وعلى فرض اعتبار هادي رئيسًا للدولة فَــإنَّ نقلَه للمركز الرئيسي للبنك المركزي من مدينة صنعاء إلى مدينة أُخرى يمثل حَنْثًا باليمن الدستورية الوارد النص عليها في المادة (160) من الدستور، ويمثل ذلك أَيْـضاً انتهاكًا لأحكام القانون النافذ الذي نص في المادة (4) منه على أن (يكون المركز الرئيسي للبنك مدينة صنعاء لتسيير أعماله داخل الجمهورية وخارجها وله أن يفتح فروعاً ووكالات ومكاتب ويتخذ له مراسلين بناءً على موافقة المجلس)، ولا يتم نقل المركز الرئيسي للبنك المركزي وفقًا لنص هذه المادَّة من مقرِّه المحدّد بنص القانون إلى مقر آخر إلَّا بتعديل قانوني، وهو ما لم يحدث، ومن ثم يعد قرار نقل البنك المركزي إلى محافظة عدن مخالِفًا لمبدأ المشروعية، الذي يقتضي احترام القانون النافذ من جانب الحكام والمحكومين.

 

ثالثًا: ما صدر عن مسمى البنك المركزي في عدن:

صدر عن مسمى البنك المركزي اليمني في محافظة عدن عددٌ من القرارات، تأتي حسب التبرير في سياق الاختصاصات الدستورية والقانونية للبنك، ومنها نقل المراكز الرئيسية للبنوك التجارية إلى العاصمة المؤقَّتة عدن، وسحب العملة الأصلية المتداولة قبل نقل وظائف المركز الرئيسي للبنك المركزي إلى عدن، واستبدلها بالعملة التي تم طباعتها عقب ذلك، وكذلك إيقاف التعامل مع البنوك التجارية المتواجدة مقراتها الرئيسية في العاصمة صنعاء، وقد جاء ضمن حيثيات هذه المعالجات أنها تأتي حمايةً للبنوك التجارية من مخاطر تجميد حساباتها؛ كونها تتعامل مع جماعة مصنَّفة “إرهابية”! وهنا تتضح اللمسات الخارجية في هذه المعالجات، والواضح أنها لا تخدم معالجة أوضاع الداخل، بل لخدمة أهداف الخارج؛ باعتبَار أن الخارج هو من صنَّفَ سلطةَ صنعاء بأنها “إرهابية”!

وبالنسبة لأولى الحيثيات التي استند إليها قرار المعالجات؛ فهي قانون البنك المركزي، ولو أن مُصدِرَ هذه المعالجات أمعن النظر في نصوص قانون البنك المركزي، لوجد أن نص المادة الرابعة يحدّد بشكل صريح مدينة صنعاء بوصفها المركز الرئيسي للبنك، وهذا التحديد لم يتغير لحد الآن بتعديل قانوني؛ وهو ما يعني أن المركز الرئيسي للبنك المركزي لا يزال في العاصمة صنعاء! وأن ما يجري في عدن لا يعدو عن كونه انتحالًا واستنساخًا.

وفي كُـلّ الأحوال لا يخرج سُلُوكُ المنتحلين عن كونه جرائمَ يعاقِبُ عليها القانون، الذي يتشدَّقون بالاستناد إليه في تصرفاتهم، وَإذَا كان نقلُ المركَزِ الرئيسي للبنك المركزي يُعَدُّ إجراءً مخالِفًا للقانون؛ فَــإنَّ ما ترتب عليه من إجراءات تعد كذلك مخالفةً للقانون، وتستوجب محاكمة مرتكِبيها.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com