الاختبار الحقيقي للعدالة الجنائية الدولية أمام السردية الصهيونية
القاضي علي عبد المغني*
ما يعانيه الكيانُ الصهيوني اليوم، بل ومنذ انطلاق معركة (طوفان الأقصى)، هو أنه فقد الصورةَ النمطية التي حفظها العالَــمُ (خَاصَّةً الغربَ) حول أنه نموذج “لدولةٍ ديمقراطيةٍ متطورة تنشد السلام لكنها محاطة بالأعداء”، أَو هكذا تروج، والملاحظ، طبقاً للتطورات والمتغيرات التي شهدها العالم منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، أن الرأي العام العالمي بدأ يتحَرّك ضد السردية الصهيونية الإسرائيلية بفعالية أكبر، وباتت التهم الموجهة للكيان أكثر وضوحاً بأنه يرتكب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين في قطاع غزة، وعلى هذا النحو بدت التصرفات الشعبيّة المناهضة للكيان المؤقت، في مدن وجامعات الغرب الأمريكي.
وعلاوةً على ذلك في 26 يناير من العام الجاري، أصدرت محكمة العدل الدولية، قرارها بشأن التدابير الاحترازية في الدعوى التي تقدمت بها جنوب إفريقيا ضد “إسرائيل” لانتهاكها اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وقد خلصت المحكمة في قرارها إلى وجود أسباب معقولة تدفع بالاعتقاد أن الكيان انتهك بالفعل الاتّفاقية؛ بمعنى أنه ترتكب جريمة الإبادة الجماعية ضد السكان في قطاع غزة خلال الحرب.
ورغم أنها خطوة جبارة وغير مسبوقة، كان لافتاً عدم اتّهام المدعي العام للمحكمة الجنائية القادة الصهاينة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، غير أنه استعاض عن ذلك باتّهامهم بارتكاب جريمة الإبادة والقتل ضمن الجرائم ضد الإنسانية، ولا يوجد تفسير واضح لعدم لجوء المدعي العام إلى اتّهام الكيان بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، رغم هول الكارثة في أرقام الضحايا البالغة حتى اليوم نحو 50 ألف شهيد ومفقود.
لكن يمكن الإشارة إلى أن الجرائم ضد الإنسانية -ويدخل ضمنها سلوك الإبادة والقتل- يتم ارتكابها في سياق هجوم واسع النطاق وقتل منهجي، وهو ما ركزت عليه الجنائية الدولية؛ إذ لا تتطلب إثبات وجود النية لارتكابها، بخلاف جريمة الإبادة الجماعية الذي تعد النية فيها ركناً أصيلاً في تحديد وقوعها من عدمه، مما يضع صعوبات كبيرة أمام إثبات وقوعها، وفي هذا السياق فَــإنَّه يمكن توقع عدم اتّهام المدعي العام للمحكمة القادة “الإسرائيليين” بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية عبر تفضيله فحص الانتهاكات الأُخرى التي تدخل ضمن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب كالقتل والتجويع وتعمد توجيه هجمات إلى المدنيين وغيرها.
أمام الضغط الدولي الناتج عن استمرار الكيان في ممارسة كُـلّ أنواع الانتهاكات الجسيمة بحق السكان العزل في قطاع غزة واستهدافه للمدنيين بشكلٍ مباشر ولليوم الـ242، وأمام الضغط أَيْـضاً الذي تمارسه المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية بشأن وقف الحرب والعمليات العسكرية، تبدو الأمور أكثر تعقيداً للكيان الصهيوني ولنتنياهو ووزرائه وضباطه.
ومن هذا المنطلق، تصب مخاوف الكيان الصهيوني في العناوين التالية -حتى وإن كانت شكلية-:
– إصدار مذكرات اعتقال يعني حصار المسؤولين الإسرائيليين، وتقييد تحَرّكاتهم وتواصلهم مع الخارج.
– مزيد من العزلة الدولية لنتنياهو وحكومته.
– فقدان لسبل الدفاع عن النفس الذي لم يعد له أي معنى سياسي ولا قانوني.
– أن تكون المحكمة الجنائية الدولية أدَاة ضغط أمريكية لمحاصرة نتنياهو وفرض شروط عليه وتقييد سياسته.
– تثبيت الإدانة الدولية المتناغمة مع الرأي العام العالمي خَاصَّة الغربي (أمريكي وأُورُوبي) الذي كسر جـدار الصمت وبدأ ينتقد “إسرائيل” بشكلٍ علني ودون تردّد.
– فقدان الصورة النمطية التي بنتها وأسست لها الصهيونية العالمية؛ مِن أجلِ تثبيت قاعدة أن كُـلّ من ينتقد “إسرائيل” هو معاد للسامية.
وعليه؛ فَــإنَّ تحَرّك الادِّعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية هو اختبار حقيقي للنظام الدولي، الذي يعيش مخاضاً كَبيراً اليوم ومتغيرات كثيرة أسقطت فيها كُـلّ الأقنعة المزيفة التي كان يتغنى أصحابها بالحقوق الإنسانية والحريات، وستبرز مدى قدرة المنظمات ومؤسّسات القضاء الدولي على مواجهة الضغوط والتهديدات الأمريكية، وعدم الانحراف على المسار القانوني المعتمد والمصادق عليه من قبل 124 دولة في العالم تمثل أغلبية مطلقة للمجتمع الدولي.
كما أنها ستكشف مدى قدرة المحكمة الجنائية الدولية على تجاوز مأزق ازدواجية المعايير في التعامل مع الكيان الصهيوني “كدولة مجرمة” -عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة- تنتهك بقوة كُـلّ القوانين والالتزامات الدولية، وتبقى هذه الخطوة محدودة، تتطلب حرصاً دوليًّا حقيقيًّا على محاسبة الكيان الصهيوني، وأما إذَا فشلت فهذا دليل أنّ مؤسّسات القضاء الدولي هي مؤسّسات مسيسة وغير مستقلة، والرهان على ما تبقى من الوقت.
* أمين عام مجلس الشورى