معركةُ (طوفان الأقصى) تدخُلُ شهرَها التاسع: مخاضٌ يبشِّرُ بولادة “فلسطين الحرة” من النهر إلى البحر (1-2)

المسيرة | خاص

بعد 76 عاماً من الاحتلال والمعاناة، وفشل أي أملٍ في التحرير والعودة لأكثر من 7 ملايين فلسطيني إلى ديارهم بعد النفي والتشرد، وبروز مخطّطات تصفية القضية الفلسطينية، وخطط التهويد والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، والتصاعد الاستفزازي للمستوطنين، وخطط الضم وتحقيق السيادة الإسرائيلية الكاملة على القدس والمقدسات، وطرد ما تبقى من الشعب وتهجيره من الضفة الغربية المحتلّة نهائيًّا.

وخروج مآسي آلاف الأسرى الفلسطينيين القابعون في سجون الاحتلال، وخَاصَّة بعد التنكيل البشع الذي تعرضوا له في ظل حكومة “نتنياهو وبن غفير”، والحصار الجائر على قطاع غزة لأكثر من 18 عاماً، في ظل عجز المجتمع الدولي وتواطؤ الدول الكبرى، وهرولة بعض الدول العربية إلى التطبيع مع الكيان، كان يتعين على الشعب الفلسطيني أن يتخذ موقفًا شجاعاً للدفاع عن أرضه وحقوقه ومقدساته، كحقٍ مكفولٍ في القانون الدولي والشرائع والأعراف البشرية.

ليستيقظ العالم صباح الـ7 من أُكتوبر 2023م، على عملية (طوفان الأقصى) البطولية، كخطوةٍ ضروريةٍ واستجابة طبيعية لمواجهة كُـلّ تلك المخطّطات الصهيونية الأمريكية الغربية، وكسر فيها المقاومون كُـلّ القيود والجمود، على طريق استعادة الحقوق المشروعة ودحر الاحتلال، وتحقيق الاستقلال والحرية للشعب الفلسطيني على غرار بقية شعوب العالم، وحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف.. اليوم ومع دخول هذه المعركة شهرها التاسع كان لا بُـدَّ من الوقوف أمام أبرز أحداثها التي لم تكتملْ فصولُها بعدُ.

 

طبيعةُ معركة (طوفان الأقصى) واستراتيجياتُها بين طرفَي القتال:

منذ اليوم الأول من الطوفان حتى اليوم؛ اختلفت طبيعة وحجم وزخم المعركة وتعددت الاستراتيجيات وتداخلت فيما بينها الأهداف، وذلك لعدة عوامل، بعضها من جانب قوات العدوّ، والآخر من جانب مجاهدي المقاومة، وجميعُها شكّل بيئةً جعلت طبيعة القتال الدائر مختلفة، منها على سبيل المثال:

 

حجمُ النيران ومبدأُ التأمين:

اعتمد العدوّ بشكلٍ مركزيّ في تحَرّك قواته على تأمينها بزخمٍ ناريّ هائل، ففي العودة لبداية المعركة، إلى الأيّام العشرين الأولى من القتال، والتي سبقت المناورة البرية، نرى كيف كنا أمام قصف سجادي غير مسبوق، نفّذ فيه العدوّ آلاف الغارات من الجو، وآلاف القذائف من القطع البحرية وقطع المدفعية، والتي تساوي ثلاث قنابل نووية -بحسب تقاريرَ أممية-.

جاء مستهدِفاً بشكلٍ أَسَاسي تسوية المناطق والأحياء التي ينوي التقدم إليها، وقد بدأ مثلاً، بتدمير أحياء كاملة مثل “حي الكرامة”، و”أبراج المخابرات” في منطقة غرب غزّة، والتي شكّلت منطقة الهجوم الرئيس للعدو في الجولة الأولى من المناورة البريّة، بقيادة الفرقة المعادية “162”، وقد استمر هذه النوع من التمهيد الناري طيلة أَيَّـام القتال في المرحلة الثانية.

هذا الزخم وتدريجيًّا أصبح أقل اليوم، نظراً لمشكلات فنية، مثل تقلص مخزون الذخيرة عند العدوّ؛ بسَببِ استهلاكه ذخيرة هائلة في الشهور الثلاثة الأولى من المعركة، ومشكلات سياسية من قبيل عدم احتمال الحالة السياسية الإقليمية والعالمية أن تكون المعارك بالدموية ذاتها التي كانت عليها في النصف الأول من أَيَّـام القتال.

وعلى الرغم من ذلك، ما يزال العدوّ متمسكاً بمبدأ التأمين؛ بسَببِ خشيته المفرطة من الخسائر، فهو أكثر جيش في العالم لديه حساسية من تعداد خسائره، خَاصَّة وأن قرار إرسال الجنود إلى جبهات القتال مرتهن بأُمهات المقاتلين، وهذا الأمر جعل جيشَ العدوّ ثقيلاً، لا يمتلك رشاقة المقاتلين من المقاومة الفلسطينية.

 

معنوياتُ المقاتلين:

عادةً ما يمتلك المهاجم معنوياتٍ عالية بطبيعة الحال، بيد أن العدوّ وفي انقلاب للمشهد، دخل هذه المعركة بمستوى معنويات منخفض؛ بسَببِ عجزه عن أداء المهمة، وطول أمد القتال بلا جدوى، وتوسع الشرخ المجتمعي الصهيوني يوماً اثر يوم، في المقابل، ومن الواضح أن أفراد المقاومة يمتلكون روحاً قتالية تعرُّضية أكثرَ بكثير من عناصر القوات المتوغلة، ويمكن أن نرى ذلك في الزخم القتالي العالي، والعمليات الدقيقة والكثيرة التي ينفذها أبطال الجهاد والمقاومة، والثبات الأُسطوري الذي يُبديه سكانُ القطاع.

هذه المعنويات العالية، والروح القتالية الجسورة، كسرت ما تبقى من هيبة الحرب عند المقاتلين، خَاصَّة بعد فشل العدوّ في كسر المشروع خلال المرحلة السابقة، وتجاوز مرحلة الخطر الوجودي (سيناريو التهجير وغيره)، ناهيك عن حالة التسابق على ميادين الاشتباك بشكلٍ مذهل، واصطفاف مقاتلو فصائل المقاومة المختلفة بجوار بعضهم بعضاً، كما كان اصطفاف السكان في كُـلّ القطاع إلى جانب أبطالهم وانخرط الكثير من الشباب في صفوفهم خلال هذه المعركة.

 

المرونة التكتيكية:

“حماس تقاتل كالحرباء”، هكذا يقول جنرال كبير في جيش كيان العدوّ، محاولاً توصيف قدرة المقاومة على تبديل تكتيكاتها وتغييرها بما يتلاءم مع طبيعة الميدان ومستجدات مسرح العمليات، وهذا ما شهدناه في أكثر من عملية، ومن إدخَال تكتيك البيوت المفخخة إلى مسرح العمليات، والذي لم يبرز بالقدر ذاته في المعركة الحالية، وكذلك على صعيد العمليات المركّبة؛ شاهدنا طبقات ومراحل بعضها فوق بعض، بالاستفادة من استثمار النجاح في كُـلّ طبقة، والمراكمة عليه، وهو ما أفرز نجاحاتٍ بارزة وحقّق إصابات قاتلة في القوات الغازية والمتوغلة في أكثر من محور.

 

العمى الاستخباري:

أعتاد العدوُّ الإسرائيلي الدخول في كُـلّ معاركهٍ بمخزون أهداف ثقيل، لكنه فقد جزءاً كَبيراً منه نتيجة استهلاكه في الغارات الكثيفة والعنيفة، وفقد القدرة على ترميم هذا المخزون نتيجة سلب المقاومة منه القدرة على ذلك لعدة أسباب:- منها تغيير طريقة عملها وقتالها وانتشارها في ميدان القتال، وكذلك إجراء تعديلات على منظومة الاتصال والتواصل، وتكتيكات القيادة والسيطرة.

وهذا ما أفقد العدوَّ جزءاً كَبيراً من خارطة الأهداف هذه نتيجة القصف المجنون، الذي غيّر ملامحَ البنية الحضرية للقطاع تغييراً جوهرياً، ما أفقده عناصره البشرية على الأرض، وأية تحضيرات فنية كانت تساعده في جمع المعلومات حول المقاومة، وهذا العمى، أدخل قوات العدوّ في معضلةٍ حقيقيةٍ في مسارح العمليات؛ وهو ما اضطرهم للتماس بغية إنتاج أهداف، على خلاف تكتيكه الذي يقوم على القتال بالأذرع الطويلة، خشية الوقوع فريسة الضربات القاصمة.

 

تجاوُزُ استراتيجية الاغتيالات:

طوالَ هذه الفترة ركَّزَ الاحتلالُ على استراتيجية الاغتيالات، غير أن المقاومة حافظت بشكلٍ كبير على مستوى مقدراتها العسكرية، وعلى مستوى القيادات أَيْـضاً، على الرغم من دخول العدوّ ومن بداية الطوفان، المعركة ببنك أهداف ثقيل، وتكتيكات حديثة، وأنظمة تقنية لم تكن المقاومة قد أحاطت بها بعدُ؛ ما جعله ينجح بالوصول إلى بعض قادة المقاومة، منهم قادة سياسيون وقادة عسكريون، واستطاع العدوّ الوصول إلى البعض منهم، في مناطقَ متفرقة من القطاع وخارجه.

وتركّزت الاغتيالات منذُ الشهر الأول، ثم انخفضت وتيرتها إلى مستوى متدني، وكأن المقاومة فهمت آلية عمل العدوّ، واكتشفت الثغرات التي لديها، فعملت بشكلٍ عاجلٍ على إجراء تعديلات جوهريّة على نظام تأمينها، وشبكة الاتصال والتواصل؛ الأمر الذي نجح وبشكلٍ سريع وفعّال في تقليل الوصول إلى أي من قادة الصف الأول والثاني في المقاومة.

 

المشهدُ القتالي العملياتي والتكتيكي للمقاومة ولجيش العدوّ الصهيوني:

ترى وسائل إعلام عبرية أن الجيش الإسرائيلي نجح بعض الشيء في تكييف نفسه مع حرب العصابات التي تقاتل المقاومة ضمن فلكها، وربما بات يقاتل مؤخّراً بشكل أقرب للعصابة منه للجيش النظامي، وشكل العمليّات التي ينفذها وطبيعة توغله قد تشي بذلك، غير أنه شنّ هجومه في معرض رده على عملية الطوفان مستنداً إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى؛ تضمنت الحملة الجوية، والتي هدفت إلى خلق حالة دمار شامل ومنهجي للبنية التحتية المدنية والاقتصادية والصحية ومنظومات الاتصالات والطرق والكهرباء وغيرها، خَاصَّة في النصف الشمالي للقطاع، وجعله غير قابل للحياة وذلك، تمهيداً لعملية التهجير الكبرى، وتحويله إلى منطقة عازلة خالية من السكان.

وتركزت المرحلة الثانية؛ من خلال العملية البرية، التي هدفت إلى تفكيك البنية التنظيمية والتحتية للمقاومة، ومثّـلت هذه المرحلة ذروة الحرب لما تضمنته من اعتماد على المناورة البرية الغاشمة والهجوم الواسع بقوام ست فرق قتالية، وألفي دبابة ومدرعة.

أما المرحلة الثالثة، فقد ارتكزت بشكلٍ أَسَاس على “العمليات الجراحية”، القائمة على استهدافات مركزة بناء على المعلومات الاستخباراتية، والتي من الواضح أنها لم تفلح في تحقيق أي شيء، بل استطاعت المقاومة خلالها ترميم قدراتها.

ومع تعدد محاور القتال، نفّذ جيش العدوّ الصهيوني عملياته في ثلاثة محاور مركزية؛ هي “الشمال وغزّة ورفح”، ونفذ هجومه هذا بعديد قتالي يصل إلى ثلاث فرق؛ هي “162” و”99″ و”98″، وهذا يذكّرنا بالعملية البريّة في المرحلة الثانية، فهي بدأت بنفس حجم القوات تقريبًا، وانخرطت فيها الفرق “162” و”252″ و”36″؛ أي بإضافة فرقتين، بحسب تقارير عبرية.

بينما اقتصدت المقاومة في عرض قواتها على مسارح العمليات، وبحسب مراقبين وخبراء؛ “فالقوة المنخرطة فعلياً في القتال لا تتجاوز حجم كتيبة واحدة في كُـلّ محورٍ قتالي داخل القطاع، ورغم ذلك نجد العدوّ يواجه قتالاً ضارياً بشكلٍ لم يسبق له مثيل”.

لكن وبالاستناد إلى ضراوة المعارك، وحجم الخسائر في قوات العدوّ، ومعطيات الميدان، ندرك أن هذا الحديث ليس سوى “بروباغندا” لصناعة نجاح موهوم، سواء في أوساط الجنود، أَو على صعيد الجبهة الداخلية للعدو، ولا يعدو كونه مراوحة للقوات في مكانها، واجترار للأهداف ذاتها.

 

اليومُ التالي للحرب:

ربما كان أكثر حديث شائع خلال المعركة، هو حديث “اليوم التالي للحرب”، تحديداً وأن الاحتلال الإسرائيلي لا يمتلك إجَابَة على هذا السؤال، على خلاف المقاومة، وهو ما عبّر عنه “نتنياهو” بالقول: “لا يوجد لديه فكرة حتى عن الصباح التالي”، في ظ غياب سيناريوهات المستقبل وضمن غياب أفق سياسي مطروح على الطاولة.

من جانبها، نجحت المقاومة نجاحاً باهراً في إجراء تعديلات على تكتيكاتها الدفاعية، وكانت تتحلى برشاقة ومرونة لا يمتلكها العدوّ؛ مَا منحها القدرةَ العالية على البقاء بهذا الزخم في ميدان القتال، وهذا يشي بمرونة تنظيمية عالية تستحق الدراسة والتأمل بعناية، في المقابل، يتحَرّك جيش العدوّ كالدب، جامداً بطيئاً، في استراتيجياته وتكتيكاته؛ مما يجعله يقع فريسة المراوحة في المكان، ويجعله يغرق في رمال غزّة.

كما أن المشكلة التي ظل يعاني منها العدوّ الإسرائيلي هي “غرور القوة”، وهو السبب ذاته الذي أعماه عن تخيّل هجوم بحجم السابع من أُكتوبر، ما جعله يخسر دفاعاته، ويفقد الإنذار، وبالتالي انهار لديه الردع والحسم، كما أن هناك معضلة أُخرى تتمثل بطبيعة تشكيل الجيش التي لا تناسب حروب العصابات، وهذه النقطة تحديداً هي ما حذر منها الجنرال الإسرائيلي المتقاعد “إسحاق بريك”، بحسب وسائل إعلام عبرية.

 

العدوُّ يراكمُ فشلَه وخسائرَه في الميدان على عكس المقاومة:

مع دخول معركة (طوفان الأقصى) شهرها التاسع في خضم معارك قتالية متواصلة مع جيش العدوّ الصهيوني، الذي راكم الفشل فوق الفشل، والهزيمة فوق الهزيمة، فحماس اليوم هي الجهة الأقوى بالنسبة لسكان القطاع، ولا ينازعها في ذلك أحد، وما زالت تحتفظ بـ 60-80 % من بنيتها التحتية، كما يقول الأمريكيون.

وبناءً على الأرقام التي أعلن عنها العدوّ، والمشكوك أصلاً في صحتها، “إنه قد قتل 12 ألف مقاتل من أصل 50 ألفاً”؛ ما يعني أنّ حماس ما زالت تحتفظ بـ 70 % من قوتها، وَأَيْـضاً أوردت صحيفة “الإيكونوميست” البريطانية عن جنرال إسرائيلي متقاعد قوله: “إن الحديث عن تفكيك كتائب حماس لا معنى له؛ فمقاتلوها لا يحتاجون لقادة للقتال”.

‏في السياق، يمكن القول بأن كيان العدوّ أدخل نفسه في حربٍ لا يمكن كسبها سياسيًّا، ولا يمكن حسمها عسكريًّا؛ فهو ما يزال يفشل في إخضاع المقاومة أَو كسرها، سواء على صعيد الحكم أَو على صعيد الجيش والعسكر، كما لم ينجح في تحرير أسراه، وتقريبًا، أصبحت دولته “دولة معزولة”.

وبحسب وسائل إعلام عالمية، فقد رجّحت القول: إن “إسرائيل فقدت طريقَها وشرعيتها، وتحولت إلى مُجَـرّد قاتل بلطجي أَو سكّير يقتل ويدمّـر كُـلّ شيء أمامه، في الوقت الذي يتعرض للضرب المميت”.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com