معركةُ (طوفان الأقصى) تدخُلُ شهرَها التاسع: مخاضٌ يبشِّرُ بولادة “فلسطينَ الحرة” من النهر إلى البحر (2-2)
المسيرة | خاص
ساهمت معركةُ (طوفان الأقصى) الملحمية، من خلال صمود وثبات أبطالها، إلى جانب الغباء السياسي والاستراتيجي لقادة الكيان، في إطالة أمد المعركة، ومنحها امتداداً قوياً في جغرافيا المنطقة والعالم؛ فما بعد الـ7 من أُكتوبر لا يشبه ما قبله، حَيثُ أعاد الأسئلة التي غفلت عنها “إسرائيل” والمتعلقة بوجودها في المنطقة وبمستقبلها وبمصيرها أصلاً، والذي لم يعد بأيديها في الواقع خَاصَّة بعد ذهاب جيشها المجرم إلى أقصى الجريمة في عدوانه على غزة، والتي تم تدميرها بالكامل وليس في ذلك انتصار للكيان الصهيوني بل هزيمة مدوية؛ ارتدت على الوجود الصهيوني برمته في الجغرافيا الخطأ.
إذ يشهد العالم اليوم تشكل وعي جديد أَو لنقل استفاقة ضمير واسعة لم تعد تصدّق الرواية الأُورُوبية الأمريكية الصهيونية، بل إن هذا الوعي قد أطاح بكل السرديات الكاذبة أمام هول الكارثة وأمام فظاعة الجريمة في غزة وفي كامل الأراضي الفلسطينية، وعي جديد لم يعد يقبل بأن يكون “شاهد زور” على “جرائم إبادة” تحت غطاء أمريكي يمولها دافعو الضرائب وقد أصبحوا بذلك شركاءَ في هذه الجريمة، وما كان لهم أن يدركوا هذا لولا ما صنعتهُ معركة (طوفان الأقصى).
طوفانُ الجامعات الأمريكية وتشكيلُ وعي مغاير لما تريده الصهيونية:
في الإطار، انتفض طلبة الجامعات في أمريكا وفي أُورُوبا؛ مِن أجلِ أنفسهم أولاً؛ ومن أجل عائلاتهم؛ حتى لا يكونوا شركاءَ في جرائم إبادة، ومن أجل الحق الفلسطيني الذي ضيعته السرديات الكاذبة وخذلته أنظمة التواطؤ العربي.
غضبٌ غير مسبوق اشتعل وامتدّ في كامل الجامعات الأمريكية اهتز له مجلس الحرب الإسرائيلي وسارعت السلطات الأمريكية لإطفائه بالقوة الأمنية عبر مشاهد عنف وقمع بوليسي يعكس أَو هو يعرّي زيف الديمقراطية الأمريكية ويهدم على الملإ كُـلّ السرديات المتعلقة بحقوق الإنسان بما في ذلك حق التنظيم وحق التعبير وحق التظاهر السلمي.
وهناك العديد من العوامل التي تستمد الجامعة الأمريكية ثقلها ويفسّر ارتباك إدارة الرئيس الأمريكي وخوفها من تشكّل وعي طلابي جديد بذاكرة جديدة تسقط كُـلّ “السرديات الإسرائيلية” التي انكشف زيفها أمام هول الجريمة في غزة، وقد سارع الرئيس “بايدن” برمي الطلبة وأساتذتهم بتلك “الوصمة المعلبّة” والمستهلكة؛ كونهم “معادين للسامية” وأن احتجاجاتهم تهدّد الطلبة اليهود في سلامتهم.
لقد دفعت معركة (طوفان الأقصى)؛ رغم هول المأساة في غزة، إلى إعادة تشكيل وعي المجتمع الدولي وفي ترميم ما انكسر من قيم إنسانية ومن تضامن بين الشعوب ونحن اليوم أمام وعي طلابي عالمي؛ يصرخ بصوت عالٍ؛ تنديداً بالجريمة الصهيونية؛ بحيث لم يعد لـ “إسرائيل” ولحكامها حصانة بعدما أن ارتدت الجريمة عليهم تماماً.
كما توسعت دائرة الغضب الطلابي من أمريكا مُرورًا بالجامعات الأُورُوبية ووصلت إلى مختلف الجامعات الأسيوية والإفريقية التي انتفضت بدورها، معلنة عن انتمائها لهذا الجيل الجديد من طلبة العالم وقد اتحدوا واجتمعوا؛ مِن أجلِ الحق الفلسطيني ومن أجل مطاردة نتنياهو وحكومته وجيشه في المحاكم الدولية.
شبحُ دعوى جنوب إفريقيا والتصنيف الأممي يطارد “إسرائيل”:
في خطوةٍ غير مسبوقة، اعتبرت الأمم المتحدة كيان الاحتلال الإسرائيلي “قاتل الأطفال”، وهذا هو التصنيف الذي أقرته الأمم المتحدة للكيان وجيشه؛ وهو ما أثار غضبًا صهيونياً عارماً، حَيثُ حذّر الإعلام العبري من تبعات هذا القرار على العلاقات بين الكيان ودول العالم.
وسبقها قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية على “إسرائيل”؛ بسَببِ حربها المُستمرّة على غزة، وتصاعدت خلال الأشهر القليلة الماضية من عمر (طوفان الأقصى)؛ إلى قضيةٍ عالميةٍ كبرى؛ بعد أن تقدمت مجموعة من الدول بطلب رسمي للانضمام لجنوب إفريقيا، أَو أعلنت عن نيتها القيام بذلك.
ومنذ صدور الأحكام الأولية، تقدمت عدة دول للتدخل في القضية باستخدام بند في النظام الأَسَاسي لمحكمة العدل الدولية يسمح لأطراف ثالثة بالانضمام إلى الإجراءات إذَا رأوا أن لديهم “مصلحة ذات طبيعة قانونية قد تتأثر بأي قرار في القضية”.
وكانت نيكاراغوا أول دولة تقدمت بطلب رسمي إلى المحكمة العليا للأمم المتحدة يوم 23 يناير؛ للحصول على إذن بالتدخل “كطرف” في القضية، كما ورد في بيان صدر عن المحكمة في الثامن من فبراير، ولاحقاً قدمت طلباً منفصلاً لرفع دعوى ضد ألمانيا، متهمة إياها بانتهاك التزاماتها بموجب اتّفاقية الإبادة الجماعية من خلال منح “إسرائيل” “الدعم السياسي والمالي والعسكري” ووقف تمويل وكالة (الأونروا).
وبعدها توجّـهت كولومبيا إلى محكمة العدل الدولية في إبريل الماضي طالبةً الإذن بالتدخل، وكانت الجزائر وليبيا قد قدمت إعلاناً إلى محكمة العدل الدولية في العاشر من مايو الفائت، وقالت في إعلانها: إن “تصرفات إسرائيل في غزة ذات طابع إبادة جماعية”.
كما أكّـدت كلٌّ من “جزر المالديف ومصر وتركيا وإيرلندا وبلجيكا وإسبانيا”، عن نيتها الانضمام إلى القضية المرفوعة ضد “إسرائيل”؛ لتشكل في مجملها هاجساً مقلقاً لها.
خريطةُ البلدان المعترفة بـ “دولة فلسطين”.. حقائقُ وأرقام:
هنا؛ ومع إعلان إسبانيا والنرويج وإيرلندا أنها ستعترف بدولة فلسطينية خلال أَيَّـام، عاد الحديث عن إمْكَانية قيام هذه الدولة، وهو ملف مفصلي في أزمة الشرق الأوسط المستعصية منذ عقود، وبالتالي تعترف نحو 144 دولة من بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وعددها 193 بلداً، بدولة فلسطين.
تقارير إعلامية أكّـدت أن معظم دول جنوب العالم إلى جانب وروسيا والصين والهند، معترفة بفلسطين دولة، وأن عددًا قليلًا فقط من الدول الأعضاء في الاتّحاد الأُورُوبي، وعددها 27، هي التي تعترف بفلسطين دولة، وأن أغلب هذه الدول شيوعية سابقة، إضافة إلى السويد وقبرص، مع الدول الثلاث الجديدة.
وفيما قالت دول أُخرى إنها تبحث القيام بذات الخطوة، منها بريطانيا وأستراليا ومالطا وسلوفينيا، تؤيد الولايات المتحدة حَـلّ الدولتين، لكنها ترفض الاعتراف “أحادي الجانب” بدولة فلسطين، وترى أن ذلك يجب أن يأتي عبر المفاوضات، وقالت فرنسا: إن “إقامة دولة فلسطينية ليس من المحرَّمات بالنسبة لها”، لكنها اعتبرت أن التوقيت الآن “ليس مناسبا”، كما شدّدت ألمانيا على أن هدفها على المدى البعيد هو التوصل إلى حَـلّ الدولتين، لكنها قالت: إنها ترى، مثل الولايات المتحدة، أن ذلك “لا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال الحوار”.
وينظر مراقبون إلى أن أهميّة قرار الاعتراف بدولة فلسطينية على الرغم من أنهُ رمزي في مجمله، لكنه يجعل “إسرائيل” تبدو أكثر عزلة على الساحة الدولية، ويمكن أن يكون للقرار أهميّة أَيْـضاً إذَا قرّرت دولٌ أُخرى، الاعترافَ بدولة فلسطينية.
مسارُ المفاوضات والخيارات الأمريكية لنهاية المعركة:
يعد إعلانُ الرئيس الأمريكي “بايدن” عن مقترح الخطة الإسرائيلية لمفاوضات الأسرى هو الأول من نوعه، وشكل مفاجأة للكثيرين حتى في “تل أبيب”، ومنذ بدء المفاوضات غير المباشرة بين حركة المقاومة الإسلامية “حماس” و”إسرائيل” حرصت الولايات المتحدة والوسطاء على عدم التطرق لتفاصيل أية مقترحات يجري التفاوض عليها.
ومع إعلان “بايدن” بدا وكأن واشنطن أخذت زمام المبادرة لتحل محل “تل أبيب” وتفاوض “حماس” على ما قد يطرح على الطاولة؛ لعلمها المسبق بأن هذا الإعلان وُلد ميتاً، كونها ترى وتتبنى فكرة أن أمام جيش العدوّ أربعة خيارات لنهاية هذه المعركة:- “1- الحكم العسكري 2- الفوضى (نموذج الصومال) 3- سلطة بديلة عن حماس 4- بقاء حماس”.
خيارُ الحكم العسكري:
يمكنُ القول بأن أكثر ما تخشاه الجيوش في الحروب غير المتناظرة، أن تقع فريسة معركة استنزاف طويلة ضدّ عصابة، وهو ما يعني بالضبط أن يتحول جيش الكيان إلى جهاز شرطة يلاحق المقاتلين في الخنادق والأزقة والأنفاق، ويكون مسؤولاً عن معاش الناس ورفاهيتهم؛ لذلك نجد وزير حرب الكيان، يقول بشكلٍ واضح: “إن أسوأ الخيارات هو الحكم العسكري”؛ الأمر الذي دعاه للخروج بمؤتمر صحفي في الـ16 من مايو الفائت، يطالب فيه “نتنياهو” أن يعلن بشكلٍ واضح؛ “لا حكمَ عسكريَّا لـ “إسرائيل” في قطاع غزّة”.
خيار تكريس الفوضى:
في هذا الإطار، حضر وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن”، اجتماعاً لمجلس حرب العدوّ، في الشهر السابع على الحرب، وأخبر فيه أعضاء المجلس، أنه في المسار الحالي ستبقى حماس في السلطة في غزّة، أَو ستكون هناك فوضى لن تؤدي إلا إلى خلق الظروف لمزيد من الإرهاب، حَــدّ تعبيره.
وبعد أن استمع نتنياهو لكلامه، ردّ معترفاً: “إذا حدث ذلك (الفراغ السياسي الذي سينتج الفوضى) فسننشغل بغزّة لعقود”؛ لذا، يمكن اعتبار هذا السيناريو صعب التحقّق بشكلٍ كبير.
خيارُ السلطة البديلة عن حماس:
في هذا يعترفُ “نتنياهو” بالفشل فيقول: “محاولتنا لدمج جهات محلية في إدارة قطاع غزّة فشلت؛ بسَببِ تهديد حماس لها واستهدافها لردع الآخرين”، مُضيفاً، أن “الحديث عن اليوم التالي للحرب في غزة فارغ من المضمون ما دامت حركة حماس قائمة”.
في السياق، رأى مراقبون أن “نتنياهو” كان محقاً بمواجهة خصومه ومنتقديه، بأن حماس قادرة على أن تمنع أي عبث في الساحة الفلسطينية، وستحسم عسكريًّا ضد كُـلّ من يأتي لحكم غزة على ظهر دبابة، وأكّـدوا أن الكتائب القادرة على صد عدوان جيش مكون من ست فرق، والصمود لثمانية شهور، ستكون هذه مهمة يسيرة بالنسبة لها.
وعليه، وبتحليل الخيارات السابقة، نجد أن الكيان أمام مأزق استراتيجي، ولا يمكنه بحالٍ من الأحوال، الانتصارُ في هذه المعركة دون واحد من الخيارين: “صفقة أسرى مع وقف إطلاق نار، أَو اتّفاق سياسي شامل”.
أما الخيار الأول، فهو اعتراف ببقاء حماس في السلطة؛ الأمر الذي يعني للاحتلال عدم تحقّق أهداف المعركة، واعتراف منه بأن “إسرائيل” في ذروة بطشها لم تتمكّن من القضاء على كيان صغير يتمركز في مساحة ضيقة لا تتجاوز الـ 400 كم2، وأما الخيار الثاني، فيعتبر خياراً أشد رعباً بالنسبة لقادة الكيان؛ فهو يفتح طريقاً لمنح الفلسطينيين دولةً بجميع استحقاقاتها، وهو الهدف الاستراتيجي الذي وضعه المقاومون عند ذهابهم لمعركة (طوفان الأقصى).