تشخيصُ الواقع بمعيارية قرآنية

عبدالرحمن مراد

القضية الوطنية والمشكل الأكبر في اليمن ليس في النظام الذي نادينا بسقوطه.. بل تكمن في الإشكالات التاريخية التي تحول دون إحداث انتقال في لحظتنا الوطنية؛ لأَنَّ الإشكالات أعادت إنتاج نفسها في نماذج وقوى تقليدية فاعلة كانت وما زالت تعيق عجلة التطور في اليمن، ولن يتحقّق التحديث والانتقال ولا الدولة المدنية الحديثة ولا الحكم الرشيد ما لم تحدث ثورة حقيقية في البنى الثقافية والاجتماعية، ونعمل جاهدين على تطوير المعيارية الاجتماعية الثابتة حتى تتناغم مع العصر والتمدن والتحديث، فالقضية الوطنية ليست في الهدم ولا في التفكيك بل في الوعي بالحالة من جوانبها المتعددة، فالذين ذهبوا إلى ساحات الاعتصام أغرتهم الانفعالات فتصوروا أن الذي يحدث ثورة ولم يكن يدر في خلدهم أنهم يصنعون أزمة تهدّد اليمن في وحدته وفي استقراره، ذلك أن الثائر الحقيقي يجب أن يمتلك وعياً قادراً على تشخيص الواقع ويملك مشروعاً بديلاً لما هو كائن أما الاستبدال فهو انقلاب تجاوزه منطق التاريخ ولذلك تحَرّك المجتمع كي يصنع ثورة 21 سبتمبر حتى تكون تعبيراً صادقاً عن تطلعاته.

والثورة حقيقية تستهدف البعد الثقافي والبعد الاجتماعي؛ مِن أجلِ إحداث انتقال فيهما وبالتالي نستطيع تحقيق التطور في البنية السياسية ونحدث ثورة حقيقية في واقع الناس وحياتهم المعيشية، وقبل كُـلّ ذلك علينا أن نفهم فهماً جيِّدًا أن السياسة إدارة مصالح وليس إدارة عداوات، ومن خلال هذا الفهم نؤسس لقيم جديدة تستوعب ولا تلغي وتعترف ولا تنفي؛ فالآخر موجود وأنت موجود وكلّ فرد أَو كيان يقدم نفسه كما يحب أن يراه الآخر والتاريخ مرآة للكل وهو الفيصل في التمايز وقول ما يجب أن يقال عن الكل من الكل.

لدينا ثورة 21سبتمبر 2014م كثورة حقيقية لكن العدوان على اليمن عطل الكثير من طاقاتها وصرفها عن المهام النظرية التي كانت تنتظرها، وهو يدرك خطورتها عليه ولذلك سعى بتحالف دولي إلى محاولة إجهاضها في مهدها، وحتى تستمر الثورة لا بُـدَّ أن تواكب المرحلة بحركة دائمة التجديد فنحن نمر بمرحلة تاريخية مفصلية وتحتاج هذه المرحلة إلى مهارات التفكير في تحليل وتشخيص المواقف الصعبة والتعامل معها، وتحتاج أَيْـضاً إلى مهارات إنسانية في العمل والفهم والتحفيز، وتحتاج إلى قدرة على التنفيذ بمعرفة متخصصة وخبرة فنية؛ إدراكاً أن الذي أعلن عدوانه على بلادنا وشعبنا يتعامل بتكنولوجيا المعلومات في مختلف أنشطته سواء أكانت عسكرية عملياتية أَو حتى الأنشطة الذهنية.. وليس بغافل عن بال أحد أن المعلومات في هذا الزمن أضحت هي المصدر الرئيس في الهيمنة، حتى الهيمنة الاقتصادية، فالتكنولوجيا حولت الاقتصاد العالمي من اقتصاد يحتاج إلى المعلومات إلى اقتصاد قوامه المعلومات.

وعلينا أن ندرك أن العدوان لن يتوقف بتوقف نشاطه العسكري على اليمن، بل سيستمر في استهداف العناصر والكوادر الوطنية والثقافية والعلمية والسياسية كما حدث في العراق، وهو ماضٍ في تفكيك القوى الوطنية التحرّرية، فاليمن سيكون مستهدفاً؛ باعتبَاره قوة تحمل قيماً تحرّرية -وفق توصيف استراتيجية راند- التي تسير على خطاها السياسة الدولية الحالية، لذلك ووفقاً لما هو متوافر لنا من معلومات لا يلزم السكوت والصمت بل التفكير والتخطيط والتنظيم والتوجيه لنكون وجوداً قوياً غير قابل للفناء أَو الإلغاء، ومثل ذلك يلزم الارتباط العضوي مع الحاجات الأَسَاسية للإنسان وفق أحدث النظريات الإنسانية التي ترى الحاجات الأَسَاسية هرماً تضيق قمته باتساع قاعدته، وبالتالي تقل عندها عوامل الصراع ومفرداته ويحدث الاستقرار، والاستقرار يجعل من الاستراتيجيات صخرة صلبة تتحطم عليها المؤامرات.

وفي ظني أننا أمام لحظة انتقال -نأمل أن تكون حقيقية- يتوجب فيها التأسيس لقيم أخلاقية بديلة، تحضر فيها مفردات الحرية والتعايش وتقدير الرموز، وأرباب التاريخ الوطني، نجعل لهم قدرهم ومنزلتهم –كما يؤكّـد عهد الإمام للأشتر– التي تليق بهم ونترك للتاريخ محاكمتهم، ومحاكمة مراحلهم التاريخية المختلفة، فالقوة -وهي نسبية ومائلة- إذَا منحتك سحرها وظللك بريقها عن استبصار الحقائق فلن تدرك ذلك إلا بعد أن تسلبك هي محاسن نفسها وتهبها غيرك، لذلك فالعاقل من يتعظ بعبر التاريخ ويحاول أن يضبط إيقاع المستقبل بما يخفف من حدة الصراع بين القوى ليؤسس لقيم إنسانية ومدنية بديلة لقيم الفناء والإقصاء، وفي القرآن الكريم بيان كاف لتفاصيل جمة لو أمعنا النظر.

فالقرآن كان وما يزال معجزة كُـلّ العصور والأزمنة، ولا بدَّ من قراءته وفق مفردات كُـلّ عصر وكلّ زمان فهو قادر على تفسير كُـلّ الظواهر من حولنا؛ كونه يحمل صفة الإعجاز في ذاته.

وما أشد حاجتنا إلى التغيير والتجديد حتى ننفض غبار الأزمنة ونعيش زماننا الذي نحن فيه، وتلك خطوة بدأها الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي، وهي بقدر فاعليتها لا بُـدَّ من تحَرّكها في فضاءات المعرفة والعلوم الحديثة حتى يكتمل المشروع القرآني وفق أسس ومنطلقات علمية معاصرة.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com