غزةُ الإباء والصمود والتضحية والفداء
د/ عبد الرحمن المختار
تواجِهُ غزةُ اليومَ القوى الاستعماريةَ الصهيوغربية؛ دفاعاً عن الأُمَّــة، بعزةٍ وشموخ، ليس لهما نظيرٌ، إنها غزةُ العزة، ولأنها كذلك، لم ترضخ، ولم تستكن ولم تستسلم، للوحشية البشرية، التي لا يمكن بحال من الأحوال مقارنتها بوحشية وحوش الغابة، ورغم تلك الوحشية ما زالت شامخة شموخَ الجبال الرواسي، لم تكسِرْ شموخَها أفعالُ جريمة الإبادة الجماعية، التي لم تستثنِ طفلاً صغيراً، ولا شيخاً مسناً، إنها غزة الصمود، رجالُها الأحرار جسَّدوا وصفَ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” للرجال الصابرين المحتسبين فهم من (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).
ولذلك فهي غزة الرجولة، التي جسّد أبناؤها -رجالاً ونساء، شيوخاً وشباباً وأطفالاً- أسمى معاني الإباء، بوقوفهم وصمودهم في وجه قوى الإجرام، كيف لا وهي غزة الإباء؛ ولأن ما تعرض له ولا يزال يتعرض له أبناؤها من عنف وإجرام ينوءُ بِالجبال، ويفوق كُـلّ احتمال، وكان صبرهم وما يزال إلى جانب السلاح سلاح؛ فهي غزة الصبر، المتصل بالرباط، فلا ريب أنها اليوم أرض الرباط، التي جسد أهلها أرقى أنموذج للجهاد في سبيل الله تعالى، فواجهوا ولا يزالون يواجهون أعداءَ الله بما هو متاح لديهم من وسائل المواجهة، بعزيمة وصبر وإصرار، إنها غزة الرباط.
ما بخلت أبداً بتقديم الآلاف من الشهداء من أبنائها في سبيل الله تعالى، وفي سبيل دينهم وإيمَـانهم بربهم، وحماية عرضهم، وتحرير أرضهم، وهم يواجهون أعداءَهم الموغلين في الإجرام، الذين لا يختلفُ حالُهم، عن حال أصحاب الأخدود من قال الله عنهم: (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) فهي غزة التضحية، التي تقدم اليوم بما يسطّره مجاهدوها الأحرار، أبلغ الدروس في الفداء في تاريخ الأُمَّــة المعاصر؛ لتستيقظَ من سباتها العميق.
ولولا هذه المدرسة الغزاوية، لما كان لأجيال الأُمَّــة أن تصحوَ أبداً، ولتمكَّنَ المجرمون من سحقها دون أن تحَرّك ساكناً، فهي غزة الفداء، ولأنها تُعلِّمُ جيلَ الأُمَّــة الاستبسالَ؛ كي لا يستسلم للأعداء مهما كان الثمن باهظاً، فالاستبسال هو جوهر وسبيل النجاة، وإن كان ظاهرُه ينذر بالهلاك، فهي غزة الاستبسال، الذي لا يتأتى إلا من شجاعة، وغزة اليوم مدرسة راقية تُقدم فيها أبلغَ دروس الشجاعة لأبناء الأُمَّــة، التي سبق للحكام أن ألبسوها ثوبَ الخزي والذل والمهانة؛ ولذلك فَــإنَّها وبلا منازع غزة الشجاعة، التي من أهم مقوماتها الثبات، فمن لم يتعلَّمْه اليومَ من أطفال غزة ونسائها وشيوخها وشبابها ومجاهديها، ويكُن في صفهم، فلن يجد الفرصة مطلقاً ليتعلم، إنها فرصة وَ(ترك الفرصة غصة) إنها غزة مدرسة الثبات.
ولا ثبات إلَّا بيقين، فما تتعرض له غزة من أهوال يُسقط الكثرةَ في براثن الذل والجبن والخوف، وفي المقابل لن تزيد تلك الأهوال القلة إلَّا يقيناً بعون الله وتأييده ونصره، ولسانُ حالها (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) فغزة مدرسة اليقين، الذي لا بدَّ أن يبنى على الصدق، وهي اليوم عنوان الصدق، وكلّ من يروج لنفسه أَو يرى فيها التميز بصدق القول والفعل، عليه أن يعرض بضاعتَه على مظلومية غزة، فإن انتظم قولُه وفعلُه في صف أهلها، فقد انسجم مع عنوانها وكان مع الصادقين.
ومن لم يكن كذلك، فلا مكانَ له إلا في صفوف المنافقين، بعيدًا عن غزة الصدق، الذي من أهمِّ أُسُسِه الانتماءُ الحقيقي الصاق إلى الدين والأمّة والأرض، فمن يزعم الانتماء للإسلام دين الله الخالص، ولأمة نبيه محمد -صلواتُ اللهِ عَلَيْهِ وعلى آله- وللأرض العربية، فَــإنَّ غزة والموقف مما يجري فيها عنوانُ الانتماء، ولا عنوانَ سواه، والانتماءُ يُورثُ الكرامة، وفي حضرة غزة يسقط كُـلُّ زيف، يسقط كُـلّ زعم وكلّ ادِّعاء، فمن لم يكن مع غزة ولغزة فداء، فلا صحة لمزعوم ادّعائه، وعليه أن يدُسَّ رأسَه في التراب كما النعامة، وليدرك أن غزة اليوم عنوان الكرامة، وهي شرف لمن يتصف بها، وغزة اليوم شرف الأُمَّــة، وهو عنوانٌ واضحٌ لا لَبْسَ فيه ولا غموض، فلا شرف إلا لمن شرفه الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” بموقف مناصر وداعم ومساند لغزة وأهلها.
ولا شرف لمن لا موقف له ينصرها، وينصر مظلومية أهلها، فهي غزة الشرف، فمن حازه فهو صاحبُ نخوة وغيرة وحمية، وفي غزة تحُطُّ الرحال، وتوزن الأقوال والأفعال، فمن ثقلت موازينُه فأكرِمْ بشهامته ونخوته وحميته وغيرته، ومن خفت موازينه، فلا حمية ولا غيرة ولا نخوة ولا شهامة له، وَفْـقًا لميزان غزة القضية، فلا قضيةَ للأُمَّـة اليوم والأمس القريب والغد المنظور، إلا غزة وما يجري فيها.
وإن لم تنهض الأُمَّــة لحمل هذه القضية فلن تنهضَ بعدها أبداً، ولن تقوم لها قائمة مطلقاً، فهي المحور، وكلّ الجهات والاتّجاهات روابطُ فرعية، وروافدُ إضافية، ولا أَسَاس لها إلا بغزة؛ فهي محورُها ونقطة ارتكازها وتمحورها، وبدونها تنتهي وتتلاشى؛ ولأنَّ غزة هي المحور، فلا بدَّ أن تكونَ هي الوِجهةَ للجميع، ومن لم تكن له غزة كذلك، فلا وجهةَ له ولا اتّجاه، ولن يختلف حاله عن حال من سبقوه من أصحاب التيه والضياع، بل سيكون أسوأ منهم بكثير.
ولذلك لا بدَّ أن تكون غزة هي الوجهة، وَإذَا ما تحدّدت الوجهة، تحدّد نحوها واجب الجهاد، وهي اليوم أرقى أنموذج للجهاد في سبيل الله، ومن لم ييمم وجهَه باتّجاهها -أنظمة وشعوباً وأفراداً- ويعد حاله وماله ليكون لها سنداً ومدداً، فلا جهاد له، ولا صلة له بقرآن ولا بدين، فغزة هي الجهاد، وبإطلاق ندائه فقد وجب، ووجبت النجدة على كُـلّ من علم، والكل علم، ولا نجدة لمنجد إلا إذَا كانت مباشرة وفاعلة ومساندة لغزة وأهلها، فإليها ولها وبها، يسمو من للنداء لبّوا، وهم دون غيرهم تنبض فيهم الحياة، فلا نبض لمن لا حياة فيه، ولا حياة لمن لم يكن لغزة مسانداً وناصراً ولأهلها مؤازراً، فهي مقياس نبض الحياة للأُمَّـة.
وفوق ذلك فهي الامتحان العسير، وكما يقال يوم الامتحان يكرم المرء أَو يهان، وما بعد التكريم في امتحان غزة من تكريم، وما بعد الإهانة في امتحان غزة من إهانة، فالتكريم في الدنيا يرفع عالياً شأن المكرمين، وأعظم من ذلك رفعة وقدراً، تكريم الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” في الآخرة، ومن لم يجتَزْ امتحانَ غزة اليوم، فقد خاب وخسر واختار الإهانة في الدنيا عن رضا وقناعة، والويل كُـلّ الويل ينتظرُه في الآخرة، فغزة امتحان.
وغزة اليوم ميدان الإقدام، الذي يمكن لكل من أراد إثبات أنه صاحب إقدام ومبادرة، فبهما يقيّم حالَه وحالَ هُــوِيَّته، ويفحص ويتفحص أصالتها ومدى ارتباطها بدينه ونبيه، فهذه غزة جهازُ فحص لا يكذب ولا يجامل ولا يداهن ولا يخادع، ونتيجته دقيقة تماماً، ومن وجد هواه ووِجدانه وحاله وماله مع غزة وأهلها، فهو في سلامة من دينه، ومن كان عكس ذلك فهو ساقط في وحل الخيانة والعمالة والتبعية، وَفْـقًا لمقياس غزة لتحديد الهُــوِيَّات، التي إذَا ما تحدّدت تحدّد بالنتيجة كُـلّ من هو مع غزة وأهلها بقول وفعل صريحَينِ لا التباسَ فيهما ولا تلبيس، ومن هو كذلك بَرِئَتْ ذمتُه من موالاة المجرمين.
ومن لم يكن له موقف صريح صحيح مناصر لغزة وأهلها، فَــإنَّه يُعَدُّ -والحالُ هذه- موالياً للمجرمين، ولن يفيدَه مزعومُ الحياد، بين طرفَي الصراع؛ فالصراع اليوم بين الحق والباطل، فإما أن يكون مع الحق، وإما أن يكون مع الباطل، ولا حياد بينهما، فغزة عنوان البراء والولاء، ومن تبرَّأ لدينه فقد حصّن بإسناد غزة إيمانَه؛ لأَنَّه لا إيمان لمن لم تكن مظلومية غزة قضيته، ولا إيمَـان لمن لم تكن نصرةُ أهلها غايتَه.
وكلّ من أعرض عن غزة ومظلوميتها، وإن كان يتقمص الإيمَـان، ويزعم الارتقاء في درجات الإحسان، فهو كاذب منافق، وإن تعلَّق بأستار الكعبة، فالحق جلي واضح والباطل مكشوف سافر، والفرز بينهما دقيق، فالأول تمثله غزة، الثاني تمثله قوى الإجرام الاستعمارية الصهيوغربية، ومن لم يكن في صف الحق الذي تمثله غزة ومن يساندها، فَــإنَّه بدون أدنى شك في صف الباطل، أعلن عن حاله أَو لم يعلنه، فمُجَـرّد انصرافِه عن صف الحق يجعلُه مباشرةً في صف الباطل.
ويلزمُ من وفّقه الله لصف الحق الوفاءُ بمقتضياته، ويعني ذلك صدق الوقوف إلى جانب غزة وإسنادها ونصرة أهلها، ليجسد الاستجابةَ العمليةَ لأمر الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”؛ وفاءً لرابطة الدين، التي هي سبب الأمر في قوله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) وكذلك الوفاء لرابطة الجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك، والوفاء للقيم الأخلاقية والإنسانية.
والذي يرى أنه لا تتوافر فيه أيٌّ من روابط الوفاء لإسناد غزة، والوقوف إلى جانب أهلها في مواجهة مجرمي العصر، ومقترفي جريمة القرن، فلا دين له ولا أخلاق ولا قيم، وَفْـقًا لمقياس غزة الوفاء، ذلك أن إسنادَها ونصرتها بداية صحوة الأُمَّــة وتحرُّرها ونهضتها، ونفض غُبار الذل والتبعية عنها، وبداية الطريق لطرد الغزاة وتخليصها من دنس ورجس احتلالهم، وخِذلانُ غزة يُمكِّنُ المجرمين من طمس معالمها، وإبادة أهلها.
وذلك -إن حصل لا قدر الله- يمثل بداية النهاية للأُمَّـة، التي لن تقومَ لها بعدها قائمة، وستكون في حالة استعباد دائمة من جانب الغزاة المستعمرين؛ فغزة تمثل البداية والنهاية، وتمثل المقدمة والمتن والخاتمة، فما يجري في غزة اليوم مقدمة لما يمكن أن تتعرض له الأُمَّــة بأسرها، إن استمرت حالةُ الخِذلان لأهلها، وغزة أشبه بمقدمة كتاب، يود قارئُه أن يتعرفَ من خلال هذه المقدمة على ما إذَا كان هذا الكتاب قيِّماً وجديراً ويستحقُّ عناءَ وجهدَ قراءته؟
ومن خلال هذه المقدمة يمكنُ للقارئ فعلاً أن يستخلصَ قيمةَ وأهميّة وفائدة الكتاب، فيباشر الغوص في أقسامه وأبوابه وفصوله وكلّ تفريعاته، دون أن يصيبه، الملل أَو يتسرب إلى ذهنه وجسده داء الكسل، وحالة غزة تمثل متن الكتاب لكل مَن يقرأ بعمق، وكلّ ما حولها هامش، يستفيد منه من لا علم له باللغة ومعانيها، والألفاظ ومدلولاتها، والأفعال وتصريفاتها، وغزة هي الخاتمة، التي فيها تحصد النتائج، ويربح المجاهدون الفائزون السابقون والمساندون بما سبق أن قدموا، ويخسر هنالك المتخلفون والمتخاذلون والمعرِضون والمثبِّطون، والمضللون والمارقون والمنافقون.
ولمن يعي فغزة المقدمة والمتن والخاتمة، ولمن يدرك فالأمةُ اليوم على مفترق طرق، ولا جامع يجمعها ويوحِّد صفها، ولا رابط يربط شمالَها بجنوبها وشرقَها بغربها إلا غزة؛ فالوقوفُ في صفها يعني توحيدَ الأُمَّــة، وتوثيق عُرَى روابطها؛ فغرة تمثل اليوم الأَسَاس لوَحدة الأُمَّــة، ومن لم يرَ فيها كُـلّ ما سبق فهو بعيدٌ عن الأُمَّــة، وبعيدٌ عن توحيد صفها، وإن كان فعلاً كذلك، فهو في صَفِّ أعدائها.