كربلاء.. مأساة وثورة عالمية
دينا الرميمة
ثمة صفحات في التأريخ الإسلامي لا تزال نازفة وغارقة بدماء أصحابها التي أريقت في سبيل الله ودينه وقيمه الزاكيات، التي حاول القرمة من أرباب الكفر والطغيان التطاول عليها وطمسها والتسلط على الأُمَّــة المحمدية بعد أن تركها النبي الكريم على المحجّـة البيضاء، في ظل عدالة دولة إسلامية عمل جاهداً على تأسيسها أزاحت دولة الكفر وقضت على كُـلّ أشكال الظلم الذي كان سائداً قبل بزوغ فجر الإسلام
ومع اكتمال أركانها بفتح مكة الذي على إثره لم يتبق أمام من بقي من فلول الشرك من قريش إلا إعلان إسلام نطقت به أفواههم في حين قلوبهم تكن له ولنبيه وآل بيته عواصف مدمّـرة من الحقد جعلتهم لا يتورعون عن انتظار فرصة تمكّنهم من النيل من النبي وقتله انتقاماً لأجدادهم الذين لقوا حتفهم في بدر، ولطالما تمنوا أن يأفل نجم هذا الدين الذي طغى على هيبتهم وساواهم بالعامة من الناس، حَيثُ لا فرق بينهم إلَّا بالعمل الصالح، عجزت أيديهم أن تقدم منه شيئاً أَو تنال شرف الأولوية في الثبات والصلاح!!
وثمة خيبة أصابتهم وهم يرون دولة الإسلام وأمته تزداد توسعاً وينتشر صيتها، نالوا منها شرف انتماء لم يكن إلا وبالاً على الإسلام وأمته!
ومع انتقال النبي الكريم إلى الرفيق الأعلى ومخالفة من بعده لمبدأ الولاية الضامن بقاء الدولة الإسلامية تحت أمانة الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ- وآل بيته وقعت الأُمَّــة في ضلال ووصل أمرها إلى يد الطلقاء من بني أمية، الذين وجدوا فيها الفرصة لتحقيق أهدافهم العدائية للإسلام وتحريف معالمه وأصوله بما يخدم سياستهم وتسلطوا على رقاب الناس، متخذين دين الله دغلاً وعباده خولاً وماله دولاً، وتحت أحاديث مكذوبة عن رسول الله تحرم الخروج عن الحاكم وإن قصم الظهر وهتك العرض ألجموا ألسنة الناس عن معارضتهم أَو الخروج عليهم، وجعلوا من كرسي الخلافة أمراً متوراثاً بينهم، ومعه توارثوا الحقد على الإسلام ومهمة القضاء على آل بيت النبي ومحو أثرهم حتى وصل إلى يزيد بن معاوية من قال عنه رسول الله (يزيد لا بارك الله في يزيد كأني إلى مصرعه ومدفنه) وهو الأشد حقداً على الإسلام والأكثر فجوراً وفسقاً، جعل من جسده خبية خمر لكثرة معاقرتها، في ظل خنوع من الأُمَّــة التي أجبرت على مبايعته وبات يحكمها بعقل غائب تحت استشارة يهودي!!
الأمر الذي أثار غيرة الإمام الحسين سبط رسول الله وريحانته رفضاً أن يعطيهم بيده إعطاء الذليل، وكيف لوارث النبي بعلمه وشجاعته والأحق بولايته في أمته أن يبايع مثل يزيد؟!
وبعد أن وضع بين السلة والذلة قرّر الخروج على يزيد بثورة بايعه عليها أهل الكوفة، أهدافها الحفاظ على القيم والمبادئ والأخلاق المحمدية تحت راية الجهاد التي اندثرت، يصلح فيها أمر أُمَّـة جده ويزيح الظلم والفسوق عن كاهلها، ويعيد للإسلام روحيته التي طغى عليها الإسلام الأموي.
فكانت ثورة شعارها هيهات منا الذلة فندت أكذوبة حرمة الخروج على الحاكم الظالم، بما حملت من قيم إنسانية سامية لتقويم المارقين ومجابهة كُـلّ الزيف والضلال الذي حَـلّ بالأمة.
ثورة قل فيها الناصر وكثر فيها المتشفي والحاقد، بعد أن خذله من خطوا إليه بأيديهم عهود النصرة وَالمبايعة على السمع والطاعة، وبين ليلة وضحاها تغيرت مواقفهم ليكونوا مع من نصبوا له العداء وسهام الحرب خشية عقاب السلطان أَو طمعاً في منصب ومال، متناسين عقاب الرحمن، وصموا آذانهم عن سماع ندائه «ألا من ناصر ينصرني» واستجابوا لنداء أهل الكفر.
ثورة انتصر فيها الدم على سهام الغدر التي انهالت على جسد الحسين وَالسيوف التي قطعت رأسه الشريف ورؤوس أهله وَأصحابه الذين قال عنهم: «فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي» وعلى أسنة السيوف حملوها ليستضيئوا بنورها في طريقهم المظلم، ويقدمونها قرابين رضا ليزيد ليشفي بها قلبه المجروح بنكاة بدر، وبها كتبوا لأنفسهم موتاً لا ينتهي، ووضعوها تحت سطوة الظلم وتحملت رقابهم إثم كُـلّ دم سفك في الطف، وكل دم يسفك حتى يومنا هذا؛ كونهم أسسوا لإمبراطورية داعشية قوامها الذبح وحز الرؤوس، على إثرها توالت الكربلائيات وعلى ذات السهم الذي هوى وَاخترق صدر عبدالله الرضيع في الطف إلى صدور آلاف الرضع في اليمن، التي فيها تعددت الكربلائيات وجسدت الطف بكل تفاصليها، ولا يزال يهوي مخترقاً صدور أطفال غزة المنادية بنداء الحسين بالنصرة؛ فواجهتها سهام الخذلان من أُمَّـة الملياري مسلم إلا ما رحم ربي ممن مثلوا أصحاب الحسين وانتهجوا نهج الحسين في مناصرتها.
وعلى الرغم من أن معظم التأريخ الذي وصل إلينا كتبته أيادي السلاطين الأمويين وبعض الأيادي المحايدة وغير الموالية لآل البيت، وكل من كان يحاول كتابة التأريخ الحقيقي من شيعة آل البيت فمصيرهم إما في زنانين بني أمية أَو مطاردين تلاحقهم سيوف القتل لطمس آثار ما اقترفته أيديهم بحق آل بيت النبي ممن زكاهم الله واصطفاهم وطهرهم من الرجس تطهيراً، إلا أن كربلاء الطف استطاعت أن تعبر السجون والزناين وتكسر القيود لتحلق عاليًا، وَتحط في أبواب التأريخ مخلدة معالم ثورة لم تندثر ومنهاجاً للمظلوم على الظالم ليس فقط لأبناء الأُمَّــة الإسلامية فحسب إنما انتهجها الكثير من المظلومين ممن أعجبوا بشخصية الإمام الحسين وآمنوا أنه ليس حكراً على المسلمين إنما للبشرية أجمع، وتمنى فلاسفتهم لو أن الحسين كان منهم ليجعلوا له رايات لا تسقط في كُـلّ أصقاع الأرض.