اليمن يراكمُ انتصارات “الفتح الموعود”
المسيرة | خاص:
على امتدادِ الأشهر الماضية ومن خلال ما تضمنته من مراحل تصعيد متتالية وناجحة ضد العدوِّ الصهيوني واشتباك فعَّالٍ ورادع مع القوات الأمريكية والبريطانية، بالإضافة إلى إحباط محاولة التصعيد السعوديِّ المساندة لـ”إسرائيل”، أثبتت صنعاء قدرة استثنائية كبيرة على فرض ومراكمة معادلات ردع واسعة ومتزامنة ترسِّخُ موقعَها الجديد كلاعب إقليمي كبير ووازن يمسك بالعديد من الخيوط الرئيسية التي تشكل مستقبل المنطقة؛ الأمر الذي لم يعد حتى الأعداء قادرين على التغطية عليه، في ظل تتابع إخفاقاتهم الفاضحة في كبح جماح الجبهة اليمنية التي لا يمكن وضع حدود لتوسع تأثيراتها.
لقد مَثَّلَ توصُّلُ صنعاءَ مؤخّراً إلى اتّفاق مع النظام السعوديّ؛ مِن أجلِ إلغاء قرارات التصعيد الاقتصادية ضد البنوك التجارية، وإعادة فتح مطار صنعاء مع إضافة وجهات ورحلات جديدة، انتصارًا كَبيراً ومحطة مهمة للغاية في مسار الإنجازات التراكمية للجبهة اليمنية المساندة لغزة، فالتصعيد الاقتصادي والإنساني لم يكن منفصلًا عن الصراع مع العدوّ الصهيوني، بل كان في الأَسَاس بمثابة هجوم من الجبهة الصهيونية على اليمن؛ لكبح استمراريتها وتفخيخ مسار تقدمها بخلق مشكلة داخلية كبيرة، ويمكن القول إن العدوّ الصهيوني والولايات المتحدة كانا يعولان كَثيراً على نتائج ذلك التصعيد؛ ولهذا فَــإنَّ إفشاله يمثل إخفاقًا مدويًا لا يقل أهميّة عن الإخفاق العسكري في البحر الأحمر.
ومما يجعل هذا الاتّفاق إنجازًا استراتيجيًّا مهمًّا هو أنه بُنِيَ على معادلة ردع هامة استطاعت صنعاء أن تراكم معطياتها وتثبتها طيلة سنوات العدوان ثم عززتها بإعلان الاستعداد للعودة إلى مواجهة النظام السعوديّ عسكريًّا بالتزامن مع مواجهة العدوّ الصهيوني والأمريكيين والبريطانيين، وبالتالي فَــإنَّه الاستجابة السعوديّة لإنذارات القيادة والشعب كانت تتويجًا هامًّا لهذه المعادلة الرادعة التي عنوانها “العين بالعين” مهما كانت الظروف وتعددت الجبهات المشتعلة.
وقد أكّـدت وكالة “بلومبرغ” هذا الأسبوع هذه الحقيقة، حَيثُ نقلت عن مصادر مطلعة قولها: إن النظام السعوديّ قام بإلغاء قرارات التصعيد الاقتصادي بدافع “خشيته” من الرد اليمني الذي حرص قائد الثورة بنفسه على تأكيد حتميته ونطاق تأثيراته الاقتصادية الواسعة بشكل صريح؛ وهو ما يعني أن اليمن قد استطاع أن يخلق لدى النظام السعوديّ إدراكًا واضحًا ومسبقًا بالعواقب الحتمية بالشكل الذي أجبره على إنهاء التصعيد قبل المخاطرة بتنفيذه، وهو التعريفُ الأوضح للردع.
وقد جاء ردع النظام السعوديّ عن التصعيد متوازيًا مع تثبيت معادلات ردع أوسعَ لا شك أنه كان لها دورٌ في توضيح الصورة أمام الرياض؛ فالمعركة التأريخية التي تخوضها صنعاء على مسرح بحري ممتد من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي قد تحولت إلى شاهد حي على أن اليمن صار محترفًا بشكل استثنائي في تثبيت معادلات لا يمكن زعزعتها بأية قوة، ويكفي إلقاء نظرة سريعة على قائمة الاعترافات الطويلة للضباط الأمريكيين والبريطانيين الذي عملوا في البحر الأحمر خلال الأشهر الماضية؛ للتأكّـد من أن اليمن لا يمكن ردعه، وَيكفي النظر إلى هروب حاملة الطائرات الأمريكية “آيزنهارو” وابتعاد بديلتها “روزفلت” عن منطقة العمليات اليمنية؛ للتأكّـد من أن اليمن هو من أصبح يفرض واقع الردع حتى على القوى التي تعتبر “عظمى” على مستوى العالم.
وقد جاء الاعتراف بذلك مؤخّراً من الجبهة الصهيونية نفسها على لسان وزير خارجيتها الذي أكّـد أن الغارات على اليمن لن تردع اليمنيين، وهو اعتراف نابع من قناعة منتشرة على نطاق واسع داخل الكيان الصهيوني نفسه، حَيثُ قال أحد المحللين الصهاينة في تصريحات نشرتها القناة العبرية الثانية عشرة قبل أَيَّـام: إن “إسرائيل” لا تُعتبر سوى حلقة في سلسلة مواجهات يخوضها اليمنيون على أكثر من جبهة، وبالتالي فَــإنَّ خيار القصف الجوي لا يمكن أن يحقّق أي ردع، فيما اعتبر محللون آخرون أن اليمن “عدو خطير للغاية” و”عنيد ومصمم” و”تصعب السيطرة عليه”.
وبالمحصلة، استطاعت صنعاء خلال عشرة أشهر أن تثبت قدراتها على تحقيق الردع وتثبيته في ثلاث جبهات رئيسية (تشكل في الواقع معسكرًا واحدًا) وهي الجبهة السعوديّة والجبهة الأمريكية البريطانية والجبهة الصهيونية، حَيثُ حاولت هذه الجبهات الثلاث أن توجّـه أقصى جهودها لفرض شيء واحد على اليمن: هو وقف العمليات المساندة لغزة، لكن النتيجة كانت هي اعتراف الجبهات الثلاث بالفشل، وفي المقابل أضاف اليمن معادلاتٍ ومكاسبَ جديدةً وانتزع المزيدَ من حقوقه، ولا يزال يتأهَّبُ لمراحل تصعيد ستثبِّتُ واقعَ الردع بشكل أكبر، وتضعُ كُـلّ الجبهات المعادية أمام حقيقة أن صعود اليمن كلاعِبٍ إقليمي رئيسي أصبح أمرًا واقعًا لا يمكن إلغاؤه.