محاولاتُ الترميم العبثية.. نهايتُها انهيارُ الصهيونية
د/ عبد الرحمن المختار
الإدارةُ الأمريكية وعلى مدى عام كامل من الدعم المتواصل بمختلف الطرق والوسائل لعميلها زيلنيسكي في مواجهة بوتين، لكنها مع ذلك مُنِيَت بخيبة كبيرة، ووجدت نفسَها في حرج شديد أمام ضربات الدُّبِّ الروسي المتتالية لعميلها الأُوكراني، الذي لم يتوقفْ عن إطلاق الاستغاثات للناتو وعلى رأسه الإدارة الأمريكية بالإسراع لنجدته من الهجمة الروسية، وبالمقابل فقد بدأ نفوذ هذه الإدارة في الشرق الأوسط يتلاشى شيئاً فشيئاً، وسُمعتها وهيبتها العسكرية تتهاوى على مستوى العالم، وصورتها الردعية بدأت تتهشم.
ولم يعد لها تلك الهالةُ الكبيرة من الهيبة المصطنعة؛ فالروس يواصلون السيطرة بشكل متتابع على أجزاء واسعة من الجغرافيا الأُوكرانية، ورئيسها يصرخ ويستغيث، ويعرّض بالمواقف الغربية عُمُـومًا والأمريكية خُصُوصاً، ويتوسل لحلف الناتو تفعيل جزء من قواته البحرية والجوية الضاربة المتواجدة بالجوار، لكن لا مجيب ولا مغيث، والإدارة الأمريكية كالنعامة تدس رأسها في الرمال مكتفية بالقول لن نترك أُوكرانيا بمفردها، وعمليًّا تقدم بعض الأموال والمعدات العسكرية المستهلكة، دونما تدخل جدي مباشر من جانبها في مجريات الحرب الدائرة هناك.
ولم يكن ذلك الموقف مرضياً لزيلنيسكي أُوكرانيا، الذي أوقعته عمالته للغرب في شراك الدب الروسي، خدمة لأجندة الإدارة الأمريكية، التي كان هدفها الاستراتيجي على ما يبدو استنزاف روسيا لإيصالها إلى حالة الانهيار، كما سبق لها أن فعلت ذلك مع الاتّحاد السوفيتي في أفغانستان ثمانينيات القرن الماضي، لكن الواضح أن الروس استفادوا بشكل كبير من التجربة السابقة، وبغرور وعنجهية حاولت الإدارة الأمريكية تكرار تلك التجربة، دون أن تأخذ في الاعتبار الظروف والمتغيرات في مختلف المجالات؛ وهو ما جعل الإدارة الأمريكية نفسها تواجه حالة استنزاف لقوتها ومكانتها وسمعتها الدولية.
واعتقدت الإدارة الأمريكية المجرمة، أن عملية (طوفان الأقصى) مثّلت فرصة لها، للهروب من ورطتها وخيبتها في أُوكرانيا، فتوجّـهت بقواتها إلى شرق البحر المتوسط لتستعرض عضلاتها في محيط عملائها من حكام الأنظمة العربية، واضعة في اعتبارها تعويض خسارتها، واستعادة جزء من هيبتها المهدرة في أُوكرانيا، وترميم صورتها المهشمة أمام الصين وروسيا، ووجدت في الشرق الأوسط مسرحاً مناسباً لفرد عضلاتها، واستعراض قوتها واستعادة ما فاتها من نفوذها في المنطقة، الذي بدأ في التأكل بفعل انصرافها وانشغالها بمِلفات أُخرى بعيدة عن هذه المنطقة، وحشدت إلى جانبها القوى الإجرامية الاستعمارية الغربية التقليدية، التي كان لها أَيْـضاً نصيبٌ من الخيبة والخسارة لحقتها أمام الروس في أُوكرانيا.
وبمُجَـرّد تواجد القوات العسكرية الأمريكية الغربية شرق المتوسط، أعلنت وبشكل حازم أن وجودها في المنطقة هدفه ردع أية قوى تفكر في التدخل في ما أسمته بالحرب التي تخوضها “إسرائيل” ضد المجموعات الإرهابية في قطاع غزة، وجندت إلى جانبها عملاءها في المنطقة، الذين هوَّلوا من شأن التواجد الأمريكي الغربي، وأعلنوا بشكل صريح تهيُّبَهم من تلك القوة الغربية الضاربة، بقيادة الإدارة الأمريكية، التي اعتقدت للوهلة الأولى أن حالة الردع قد تحقّقت، وأن رسائلها سوف تصل إلى روسيا والصين، وأنها بهذا التواجد القوي في منطقة الشرق الأوسط التي هي في الأَسَاس منطقة نفوذها، وأنه من موقعها في هذه المنطقة يمكنها محاصرة خصميها اللدودين الصين وروسيا.
وبينما الإدارة الأمريكية في حالة نشوتها، إذَا بحالة الردع التي اعتقدت أنها قد فرضتها كأمر واقع، تتصدع بفعل اشتعال جبهات الإسناد شمالًا وجنوبًا وشرقًا، وبشكل متزامن متسارع ومتصاعد في إجراءات هذه الجبهات الضاغطة وعملياتها المتنوعة، وأشدها تأثيراً من الجانب الاقتصادي إجراءات جبهة جنوب البحر الأحمر، التي قرّرت الإدارة الأمريكية مواجهتها بشكل مباشر وفوري، فأعلنت تشكيل ما سمي بتحالف “حارس الازدهار”؛ بهَدفِ فرض حالة ردع خَاصَّة على إجراءات هذه الجبهة.
وكان الهدف المعلَنُ لهذا التحالف تأمينَ طرق التجارة الدولية، غير أن الهدف الحقيقي هو تأمين الملاحة لسفن الكيان الصهيوني، والسفن المتجهة إلى موانئ الأراضي المحتلّة، في مضيق باب المندب والبحر الأحمر والبحر العربي وخليج عدن، وفي محاولة منها لشرعنة تحالفها قدمت الإدارة الأمريكية إلى مجلس الأمن الدولي، مشروع قرار يدين إجراءات من أسمتهم في مشروع قرارها “الحوثيين”، وتم تمرير مشروع هذا القرار، ولم تعترض عليه روسيا أَو الصين؛ رغبة منهما في توريط الإدارة الأمريكية في مزيد من الإشكاليات.
وما هي إلا أَيَّـام قلائل حتى وجد “تحالف الازدهار” نفسه في مأزِقٍ كبير، حَيثُ لم يتمكّن من توفير الحماية لسفن الكيان الصهيوني، والسفن المتجهة إلى موانئ الأراضي المحتلّة، وتوسعت دائرة استهداف القوات البحرية لبلادنا، لتشمل السفن التجارية لدول تحالف ما سمي بـ “حارس الازدهار”، خُصُوصاً السفن الأمريكية والبريطانية، التي أصبح قعرُ البحر مستقَرًّا لعدد منها، حين فقد “حارس الازهار” القدرة على حماية هذه السفن، ناهيك عن حمايته لسفن الكيان الصهيوني، وشمل استهداف قوات بلادنا السفن الحربية الأمريكية والبريطانية، بما فيها حاملة الطائرات (آيزنهاور) التي تكرّرت الهجمات الموجهة إليها بالصواريخ والطيران المسيَّر.
وخشية من مواجهة حاملة الطائرات الأمريكية لمصير السفن التي تم إغراقها، قرّرت الإدارة الأمريكية سحبها بعيدًا عن منطقة عمليات القوات المسلحة لبلادنا؛ تجنُّبًا لفضيحة مدوية، يمكن أن تتعرض لها لتصبح محلًّا لسخرية واستهزأ القوى المتربصة بها، وتحت مبرّر إعادة الانتشار لتنفيذ مهام أُخرى في مناطق أُخرى تم سحب (آيزنهاور) بعيدًا عن منطقة الخطر، بعد أن وسَّع جيشنا الوطني النطاق الجغرافي لعملياته العسكرية البحرية، ليشمل البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي والمحيط الهندي ولاحقًا البحر المتوسط.
وبدلاً عن فرض حالة ردع مفترضة ضد شعبنا وقيادتنا الثورية، انقلبت الصورة فأصبحت قوات مسمى تحالف الازدهار هي المردوعة، وعلى إثر ذلك تهاوت سُمعة الإدارة الأمريكية، وسقطت هيبتها، وتهشمت صورتها الردعية، التي كان الهدف الأَسَاس من تواجدها في منطقة الشرق الأوسط ترميمها، ففاق إخفاقها وفشلها، ما تعرضت له سابقًا في أُوكرانيا في مواجهة روسيا، ويعد ذلك أمرًا منطقيًّا ومعقولًا ومقبولًا؛ باعتبَار روسيا مصنَّفةً دولةً عُظمى، والأمر غير المنطقي وغير المعقول وغير المقبول بالنسبة للإدارة الأمريكية، هو أن تتعرَّضَ صورتُها لمزيد من التهشيم وهيبتُها وسُمعتُها العسكرية للتهاوي في منطقة نفوذها الخالصة، وفي مواجهة قوة ناشئة بسيطة مقارنة بقوتها العسكرية الضخمة، وهذه التأثيرات السلبية سيأخُذُها خصومها المتربِّصون بالحسبان.
والأشدُّ أثراً من كُـلّ ما سبق أن القوى الغربية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، لم تفلح في المحافظة على الصورة الردعية الصهيونية في المنطقة، التي تهشمت بدورها بشكل كبير في قطاع غزة وشمال الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وأصبح كاملُ النطاق الجغرافي للأراضي المحتلّة تحت مرمى الصواريخ والمسيّرات لجبهات إسناد المقاومة في الجنوب والشمال والشرق، والتي أثَّرت بشكل كبير وواضح على دولة الكيان الصهيوني وشركائه في جريمة الإبادة الجماعية، من القوى الإجرامية الاستعمارية الغربية.
ورغم التكالب الغربي والعربي إلا أن عشرة أشهر من الصمود الأُسطوري في قطاع غزة، والتصاعد الكبير للعمليات الضاغطة من جانب جبهات الإسناد، شمالاً وجنوباً وشرقاً، كان كفيلًا بإلحاق أضرار كبيرة بصورة الإدارة الأمريكية، والقوى الاستعمارية الإجرامية الغربية، وقاعدتها المتقدمة في المنطقة دولة الكيان الصهيوني، وفي محاولة منها لترميم ما تهشم من صورتها الردعية، واستعادة جزء من هيبتها المفقودة؛ بفعل صمود وثبات أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وفعالية عمليات جبهات محور المقاومة، قرّرت الإدارة الأمريكية وقبل الذهاب مرغمة لأي موقف جدي لوقف أفعال جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، العمل على حفظ ماء وجهها المهدور وكذلك كيانها الصهيوني المجرم من خلال عمليات عسكرية خاطفة متعددة موزعة على أراضي محور المقاومة، تكرس في ذهنية الرأي العام عُمُـومًا، والداخل الصهيوني والأمريكي خُصُوصاً، أن الضربة الأخيرة الموجعة كانت لصالح هذا الكيان المجرم.
وتنفيذاً لذلك المخطّط الإجرامي، تم قصف خزانات الوقود في ميناء الحديدة، ليرسم الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية بذلك الحريق الهائل، صورة وهمية للهيمنة العسكرية الصهيوأمريكية، وعملية أُخرى تم تنفيذها في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، استهدفت مساكنَ مدنية ومدنيين، وأحد قيادات المقاومة اللبنانية، والعملية الثالثة تم تنفيذها في العاصمة الإيرانية طهران، تمثلت تلك العملية في جريمة اغتيال رئيس حركة حماس، إسماعيل هنية، لتبدأ الإدارة الأمريكية الحديثَ بنبرة دبلوماسية مرتفعة عن نضج الظروف لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ووقف ما يحلو لها تسميتُه بالحرب على غزة، والإفراج عن الرهائن.
ودعت بشكل متكرّر ومُلِحٍّ إلى عدم التصعيد، وكذلك الضغوط الدبلوماسية من جانب الدول الغربية والدول العربية، لوضع حَــدٍّ للصراع، والمهمُّ لدى الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني والقوى الشريكة لهما، غربية وعربية، تثبيتُ الصورة على تلك العمليات الثلاث، التي تم تسويقها وسيتم تسويقها مستقبلاً على أنها مثّلت انتصارًا مهمًّا للكيان الصهيوني، غير أن لجبهات الإسناد في محور المقاومة رأياً آخرَ مفادُه أن محاولات الترميم العبثية للصورة المهشمة للكيان الصهيوني وشركائه في جريمة الإبادة الجماعية، نهايتُها الانهيارُ الشاملُ لهذا الكيان المجرم.