جريمةُ غزة وسقوطُ أنظمة الغرب في وَحْــلِ أكاذيب الحرب
د/ عبد الرحمن المختار
رَوَّجَتِ الأنظمةُ الغربيَّةُ -وعلى رأسها الإدارَةُ الأمريكية- لموقفِها إلى جانبِ كِيانِ الاحتلالِ الصهيونيِّ في ما أسمته بحربِه ضد “الجماعات الإرهابية”، وجاء التعبيرُ عن موقف الأنظمة الغربية على لسانِ رؤسائها ورؤساءِ حكوماتها ووزراء خارجياتها، وممثلي تكتُّلاتها السياسية.
فممثلةُ الاتّحاد الأُورُوبي عبَّرت -بشكل واضح وصريح- عن وقوفِ الاتّحادِ إلى جانب كيان الاحتلال الصهيوني، وكذلك الحالُ عبَّــرَ رؤساءُ الأنظمة الغربية ورؤساءُ حكوماتها بشكلٍ منفرِدٍ عن موقفِ أنظمتِهم، كُـلٌّ بشكلٍ منفردٍ أثناء تقاطُرِهم لزيارة عاصمةِ كيان الاحتلال الصهيوني، وذاتُ الموقف سبقهم إليه رئيسُ الإدارة الأمريكية ووزيرُ خارجيته، وأَتْبعت الأنظمةُ الغربيةُ مواقفَها المعلَنةَ بإرسالِ شُحناتٍ ضخمةٍ من الأسلحة الفَتَّاكةِ والمعدات العسكرية المتطورة زَوَّدَت بها جيشُ كِيانِ الاحتلال الصهيوني.
ولم تكتفِ الأنظمةُ الغربيةُ بذلكَ، بل إنها تواجدت بقواتِها العسكرية البحرية والجوية في المنطقة؛ لتوفير الحماية لكيان الاحتلال الصهيوني؛ تحت ذريعة منع توسع الحرب في المنطقة في حال تدخل أيةِ قوى أُخرى فيها، وعقب ترويجها لحالة الحرب في قطاع غزةَ، استمرت في الترويج لما أسمته الوساطة والمفاوضات لوقف إطلاق النار تمهيدًا لوقف الحرب في غزة، والهدفُ من الترويج لحالة الحرب هو تكريسُ هذه الحالة في الذهنية السياسية والإعلامية في المنطقة وفي العالم؛ لتبريرِ تورطها وشراكتِها للكيان الصهيوني في جريمة الإبادة الجماعية القائمة فعلًا في قطاع غزة؛ فمنذ عشرة أشهر اشتركت الأنظمةُ الغربية بصورٍ متعددة في اقترافِ هذه الجريمة.
ومعلومٌ أن قيامَ حالة الحرب -وَفْـقًا للقانون الدولي- لا يمنعُ الدولَ الأُخرى غيرَ الأطرافِ فيها من تزويد طرفَيها بالأسلحة والمعدات العسكرية؛ باعتبَار أن الإنتاج الحربي وتجارة السلاح سوقُه الرائجةُ النزاعاتُ المسلحة بين الدول؛ ولذلك لا يوجدُ مانعٌ قانوني أَو أخلاقي من بيع السلاح لأيٍّ من طرفَي النزاع المسلح، بل يعد الامتناعُ عن البيعِ لطرف دونَ الطرف الآخر انتهاكًا لحق هذا الطرف في الدفاعِ عن البلد وسيادته واستقلاله، خُصُوصاً إذَا كانت الحربُ عدوانيةً بالنسبة لأحد طرفَيها ودفاعيةً مشروعةً بالنسبة لأحد طرفَيها، وبالنسبة للدول الأُخرى غير الأطراف فيها التي تقدّم المساعداتِ أَو تبيع الأسلحةَ والمعدات العسكرية لطرفَي النِّزاع المسلح، وهذا المنطقُ متعارَفٌ عليه في حالات النزاعات المسلحة بين الدول، ووفقًا لهذا المنطق لا بُـدَّ أن يحصلَ كُـلُّ طرفٍ من أطراف النزاع المسلَّح على ما يحتاجُه من أسلحة ومعدات عسكرية واحتياجات إنسانية، مثلما يحصلُ على ذلك الطرفُ الآخرُ في النزاع تماماً.
إقناعُ الرأي العام بحالةِ الحرب في غزة:
والواضحُ -بالنسبة لحالة غزةَ- أن الأنظمةَ الغربيةَ قد تمكّنت فعلًا من إقناع الرأي العام أن الحالةَ القائمةَ في القطاع حالةُ حرب، وعلى هذا الأَسَاس تتعاطى الدولُ والمنظماتُ الدولية، وعلى رأسها منظمةُ الأمم المتحدة وفروعُها، وكذلك الحال بالنسبة للأنظمة العربية التي يسوِّقُ إعلامُها ليلًا ونهارًا لحالة الحرب على قطاع غزة، واستمر هذا التسويقُ بانخراط بعض الأنظمة العربية في ما سُمِّيَ بالوساطة لوقفِ إطلاق النار وتمهيدًا لوقفِ الحرب والإفراج عن المحتجزين في غزةَ.
ويبدو واضحًا وجليًّا مدى حرصِ الأنظمة الغربية على إقناع الرأي العام بحالةِ الحرب في قطاع غزة، وكان واضحًا كذلك منذ البداية حرصُ الكيان الصهيوني على تسويق حالة الحرب منذ اللحظة الأولى لتحَرُّكِه عقبَ عملية (طوفان الأقصى)، حين أعلن نتنياهو أن كيانَه في حالة حرب في مواجهة جماعات “إرهابية”، والهدفُ من هذا التسويق بطبيعة الحال تبريرُ الفظائع التي أضمَرَ كيانُ الاحتلال الصهيوني اقترافَها في قطاع غزةَ والتي اقترفها فعلاً على مدى العشرة الأشهر الماضية، وهو ذاتُ الهدف ِبالنسبة للأنظمة الغربية التي تُدرِكُ يقينًا أن شُحناتِ الأسلحة التي زوَّدت بها الكيانَ الصهيونيَّ، والدفعاتِ الماليةَ الكبيرةَ، والمواقفَ الغِطائيةَ في المحافل الدولية، جميعُها موجَّهةٌ لتنفيذ إبادة جماعية بحق سكان قطاع غزة؛ باعتبَار أن هذه الأنظمة تدركُ أن أسلحتَها لن توجَّـهَ لتدمير معسكرات أَو ثكنات عسكرية لجيش نظامي مواقعُه وتحَرّكاتُه معلومة، وكذلك الحال بالنسبة للأموالِ والمواقف الغِطائية في مختلف المحافل الدولية.
وإذا ما ناقشنا منطقَ الأنظمة الغربية المروِّجَ والمسوِّقَ لحالة الحرب والمسوِّغَ لتدخلها إلى جانب الكيان الصهيوني تحت ذريعة حقِّ الدفاع عن النفس، فَـإنَّ الاعترافَ بقيام حالة الحرب -وَفْـقًا لقواعد القانون الدولي- يقتضي أن تكونَ هذه الحالةُ بين دولتَينِ أَو أكثرَ يتوافرُ لكُلٍّ منهما كافةُ مقومات الدفاع عن النفس، وَإذَا ما تزوَّد أحدُ طرفي الحرب بوسائلَ تمكِّنُه من المواجهة فَـإنَّ من حق الطرف الآخر في النزاع المسلح أن يحصلَ أَيْـضاً على الوسائل التي تمكِّنُه من المواجهة، وعلى فرض أن غزةَ دولةٌ مستقلةٌ وذاتُ سيادة تملِكُ قواتٍ عسكريةً منظَّمة؛ فَـإنَّ من حقها الحصولَ على الوسائل اللازمة لتمكينها من الدفاع عن شعبها وعن سيادتها: إما عن طريقِ الشراء أَو المساعدات من دول أُخرى.
مواقفُ منسلِخةٌ عن القيم:
وإذا كانت غزةُ دولةً مستقلةً ذاتِ سيادةٍ تتوافرُ لها كافةُ مستلزمات الدفاع وهي طرف في نزاع مسلح ضد طرف أَو أطراف أُخرى؛ فالأصلُ -وَفْـقًا لقواعد القانون الدولي- أن تقتصرَ العملياتُ الحربيةُ للطرفَينِ على المواقع والثكنات والمعدات العسكرية لكلَيهما، لكن الأمر بالنسبة لغزة ليس كذلك فهي ليست دولةً ولا تمتلك جيشًا منظَّمًا ولا إمْكَانياتٍ عسكريةً تمكّنها من المواجهة؛ فغزة جزءٌ من أرض فلسطين العربية المحتلّة، ومع ذلك فالكيان الصهيوني والأنظمة الغربية ومعها عدد من الأنظمة العربية تحاصرُ غزة تماماً، ولا تسمحُ بدخول الغذاء والدواء، ناهيك عن سماحها بدخول وسائلِ الدفاع عن النفس، وبذلك فالأنظمةُ الغربية تُقِــــــرُّ بحقِّ الدفاع عن النفس لكيان الاحتلال الصهيوني، ولا تُقِــــــرُّ بهذا الحق للشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ وهو ما يعد انتهاكًا صارخًا لقواعد القانون الدولي، وهذا على فرض أن غزة دولة مستقلة ذات سيادة، أما وغزةُ جزءٌ من أرض فلسطين العربية المحتلّة، فموقف الأنظمة الغربية يعد انحطاطًا وسقوطًا أخلاقيًّا مدويًّا.
ولم تكتفِ الأنظمةُ الغربية بذلك الموقف المنسلخ من كُـلّ القيم الإنسانية والأخلاقية، بل الأسوأُ من ذلك أنها تواجِهُ بعدائية مفرطةٍ كُلَّ صوت وكُلَّ جهد مناصِرٍ ومساند لحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن النفس، وهذه الأنظمةُ تُقِــــــرُّ بدمويتها ووحشيتها وهمجيتها؛ فقد سبق لها أن روَّجت لحالة الحرب في قطاع غزة لإقناع الرأي العام بصوابية ومشروعية تدخلها فيها إلى جانب أحد طرفَيها وهو كيانُ الاحتلال الصهيوني، لكنها في المقابل حاولت ولا تزال تحاول جاهدةً منعَ أيِّ إسناد للطرف الآخر في هذه الحرب على فرض أنها حالةُ حرب، وَفْـقًا لسابِقِ تسويقِها وترويجِها لها.
ومع أنه يقعُ على عاتِقِ دولة الاحتلال الصهيوني التزاماتٌ قانونيةٌ دوليةٌ تجاهَ الشعب الفلسطيني، من أهم هذه الالتزاماتِ المقرة والمعترف بها دوليًّا عدمُ المساس بحق الشعب في مقاومة الاحتلال بكافة الوسائل المتاحة، وواجبُ الدول الأُخرى الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة -وَفْـقًا لقواعد القانون الدولي- مراقَبَةُ مدى مراعاة دولة الاحتلال لالتزاماتها القانونية الدولية، غير أن الأنظمة الغربية انخرطت مع كيان الاحتلال الصهيوني في شراكة كاملة في انتهاك الالتزامات القانونية الدولية تجاه الشعب الفلسطيني الذي يرزحُ تحتَ الاحتلال الصهيوني منذ ما يقرب من ثمانيةِ عقودٍ من الزمن.
وإذا ما افترضنا جدلًا قيامَ حالةِ الحرب، وَفْـقًا لترويج وتسويق الأنظمة الغربية، فَـإنَّ هذه الحالة تقتضي احترامَ قواعد القانون الدولي المتعلِّقة بحماية السُّكانِ المدنيين والأعيانِ المدنية، واعتبارَ استهدافهما انتهاكًا للقانون الدولي، ويمثِّلُ هذا الانتهاكُ جريمةَ حربٍ تُعَرِّضُ الدولةَ المنهِكةَ للمحاسَبةِ القانونية الدولية.
ورغم ذلك فالكيانُ الصهيوني والأنظمة الغربية انتهكوا بشكلٍ سافرٍ قواعدَ القانون الدولي المنظِّمةَ لسلوك الدول في حال النزاعات المسلحة، وتقتضي حالةُ الحرب القائمةُ بين الدول الامتناعَ عن تجويع المدنيين كأُسلُـوب من أساليب الحرب، وتعد الدولة المنتهكة لهذا الإلزام الدولي مرتكِبةً لجريمة حرب، الأصلُ أن تتظافَرَ جُهُودُ الدول الأُخرى مع المنظمة الدولية لمحاسبة الدولةِ المنتهِكة، لكن الكيان الصهيوني والأنظمة الغربية يعمُدُون لفرض حالة المجاعة في قطاع غزةَ شامِلةً الصغارَ والكبار والنساء والرجال، وكل ذلك بعلم المنظمة الدولية وجميع دول العالم، ويهدفُ الكيان الصهيوني والأنظمة الغربية من فرض حالة المجاعة في قطاع غزة لفرض خيارات استسلامية على فصائل المقاومة الشعبيّة، وفشل الكيان الصهيوني والأنظمةُ الغربية في تحقيقها باستخدامِ الآلة الحربية.
إضافةً لذلك فقد اتخذت الأنظمةُ الغربية من وَهْمِ الوساطة والمفاوضات وسيلةً لتحقيق تلك الأهداف، من خلال محاولات الضغط على فصائل المقاومة الشعبيّة الفلسطينية بتكرار جولات المفاوضات التي تبادر الإدارة الأمريكية بين الحين والآخر بالدعوة إليها، هذه الإدارة التي تروِّجُ لنفسها أنها وسيطٌ في المفاوضات لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، بالشراكة مع بعض الأنظمة العربية، والجميع يَضغَطُ على فصائل المقاومة، وكُلُّ بيده أوراقُ ضغط عليها، سواء تلك المتعلِّقة بالجوار، أَو بالاستضافة للجناح السياسي لحركة المقاومة الشعبيّة الفلسطينية (حماس)، لكن صلابة المقاومة، والموقف المساند لها من محور المقاومة حال -لحدِّ الآن- دونَ تحقيق الأنظمة الغربية لأَيٍّ من الأهداف المعلَنة من جانبها وجانب الكيان الصهيوني، باستثناء تحقيق سجلٍّ إجرامي ليس له في التاريخ مثيلٌ، وهذا السجل يمثل عِبْئًا أخلاقيًّا سيثقل كاهل الأنظمة الغربية.
وذلك السجلُّ الإجرامي نزع عن الأنظمة الغربية كُـلَّ رِداءٍ حاولت به سترَ سوءتِها؛ فخلالَ العقود الماضية تلبَّست الأنظمةُ الغربيةُ بلباس الإنسانية حين روَّجت للدفاع عن حقوق الإنسان، كذريعة لتدخلها السافر في الشؤون الداخلية للشعوب، خُصُوصاً العربية، وبعد جريمة غزة سقطت أنظمةُ الغرب المجرمة في وحل أكاذيب الحرب؛ لتبرّر تدخلها ليس للدفاع عن حقوق الإنسان، بل لإهدار أسمى حَقٍّ من حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة، وبذلك أصبحت الأنظمةُ الغربية أسوأَ مستنقع بشري تُنتهَكُ وتُهدَرُ فيه الإنسانيةُ وحقوقُ الإنسان؛ فليس بعد موقف الأنظمة الغربية مما يجري في قطاع غزة من موقف يمكن أن يقاسَ به ما لدى هذه الأنظمة من قيم إنسانية وأخلاقية.
وإذا كانت مقتضيات ومترتبات حالة الحرب -وَفْـقًا لقواعد القانون الدولي- منتفيةً في حالة قطاع غزةَ؛ فَـإنَّ ذلك يعني انتفاءَ حالة الحرب ذاتها، وَإذَا كان الأمر كذلك فلم يتبقَّ من وصف يمكن أن توصف به الحالة في قطاع غزة، سوى أنها جريمة إبادة جماعية مقصودة بذاتها ولذاتها من جانب كيان الاحتلال الصهيوني ومن جانب الأنظمة الغربية الشريكة له في الجريمة، وأنه لا قيمةَ لتسويقها وترويجها لحالة الحرب المبرِّرة لتدخلها؛ فذلك يندرجُ في إطار زيفها وتضليلها، وَإذَا كانت مقتضياتُ حالة الحرب لا تمنعُ -وَفْـقًا لقواعد القانون الدولي- الدولَ غيرَ الأطرافِ فيها تزويدَ طرفَيْها بالأسلحة وغيرها من الاحتياجات، فَـإنَّ جريمةَ الإبادة الجماعية المقترَفَةَ أفعالُها منذ عشرة أشهر في قطاع غزة، لا يجوزُ -وَفْـقًا لقواعد القانون الدولي- لأية دولةٍ تقديمُ أية مساعدة لمقترِف الجريمة، وأيةُ دولة تنتهكُ هذا الحظر تعد شريكًا للمباشِرِ لأفعال الجريمة في جريمتِه، وتتحمَّـــلُ ذاتَ التبعاتِ القانونية التي يتحمَّلُها الفاعل المباشر، سواءٌ أكانت المساعَدَةُ بالتحريض أَو التآمُــرِ أَو تقديمِ الوسيلة المستخدَمة في الجريمة، أَو المساعَدة في طمس أدلتها، أَو تغطية الجريمة بالموقف السياسي في المحافِلِ الدولية، وسواءٌ أكانت المساعَدَةُ سابِقةً أَو معاصِرةً أَو لاحِقةً لاقترافِ أفعالِ الجريمة.