لليوم الـ329 للعدوان الصهيوني على غزة: بالدموع وكثيرٍ من الألم والحسرة.. أطباءُ دوليون يروون فظائعَ الاحتلال في غزة
المسيرة | متابعات
“فظائعُ لا تفارق الذاكرة، ولم نتخيل نشاهدها في حياتنا”، لعلها الجملة الأبرز في شهادات جميع الأطباء الأجانب الذين يروون تباعاً بالدموع وكثير من الألم ما عاينوه من مآسٍ طبية وجرائم حرب أثناء تطوعهم للعمل في مستشفيات قطاع غزة المرهقة حَــدّ العجز عن مداواة جراح عشرات آلاف المصابين في إثر تهالك المنظومة الطبية وخروج 80 % منها عن الخدمة.
ووثّق الطبيب الأمريكي “أحمد يوسف” مشاهد نادرة من مستشفى “شهداء الأقصى”، وهو أحد المستشفيات القليلة التي لا تزال تعمل في قطاع غزة، يظهر فيها الآثار المروعة للحرب على المدنيين، خَاصَّة الأطفال، وعلى العاملين في المستشفى.
يقول اختصاصي الطب الباطني وطب الأطفال الذي قضى ثلاثة أسابيع في غزة في شهادة نقلتها صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية: إن “مستشفى شهداء الأقصى الذي وجه جيش الاحتلال أوامر إخلاء قسري في محيطه، يعمل بثلاثة أمثال طاقته سعيًا لعلاج أكبر عدد ممكن من المصابين الذين يتدفقون عليه مع استمرار القصف الإسرائيلي”.
ويضيف أنه ومع الضغط الكبير والمُستمرّ على المستشفى “يعالج الأطباء الأطفال على قطع من الورق المقوى، يرقدون عليها في طرقات المستشفى، في ظل نقصٍ حاد في المستلزمات الطبية مثل مواد التخدير ووحدات الدم، والنتيجة أن كَثيراً من المرضى ماتوا نتيجة إصاباتهم”.
ويروى “يوسف” بتأثر كيف عجزوا عن فعل أي شيء لسيدة (23 عامًا) وصلت إلى المشفى بحروق غطت جسدها، ليكتشفوا بعد ذلك أنها حامل، وقد لفظت وجنيها أنفاسهما بين يديهم.
ويصف الطبيب الأمريكي بأسى كيف استشهدت طفلة اسمها فرح (12 عامًا) على أرض المستشفى بين يديه؛ بسَببِ نقص الإمْكَانيات، وذكرته بابنته التي في نفس الحجم وعمرها 10 سنوات، مُشيراً إلى أنه لا يزال يشعر بيديها حول رقبته وهو يكتب يومياته عنها.
ومضى يوسف بالقول: “شاهدت كُـلّ ما درسته وتعلمته عن الحروق التي يعاني منها المرضى تحدث أمام عينيّ في يوم واحد. في كُـلّ مرة أفكر أن الوضع لا يمكن أن يكون أسوأ، يقع الأسوأ”، مُشيراً إلى أنه كلما قضى وقتاً أطول أدرك أن دوره لم يعد طبيباً فقط، بل تحول إلى “شاهد على فظائع حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة”.
وأكّـد يوسف أنه كان هناك مفاضلة بين المرضى والمصابين الذين يتوافدون بشكلٍ دوري على المستشفى؛ بسَببِ القصف الإسرائيلي المُستمرّ “كل ساعة نأخذ مثل هذه القرارات؛ من أولى أن يحصل على جهاز التنفس الصناعي ومن يحصل على نقل الدم، ومن يحصل على السرير في ظل وجود المرضى على الأرض”.
وقال: “السبب الذي يجعلنا نبكي ليس الحزن بعد الآن. بل الشعور بأننا لا نملك القدرة على حمل أقوى دولة في العالم على وقف القنابل”.
أشياءُ لا يمكن تصورها:
أما طبيبة طب الطوارئ الأمريكية “تامي أبو غنيم”، والتي ذهبت إلى غزة مرتين خلال الستة أشهر الماضية، فتؤكّـد أنها شهدت على معاناة كبيرة، “حاولنا علاج مئات الأطفال والنساء الذين أُصيبوا بجروح خطيرة؛ بسَببِ رصاص الجنود الإسرائيليين، والقنابل والشظايا وحطام المباني”.
وتوضح أن 60 إلى 70 % من المصابين القادمين من المنازل التي استهدفتها القنابل الإسرائيلية كانوا من الأطفال، مشيرة إلى أنه “خلال المهمة الأخيرة بين يوليو وأغسطُس، عملت في ظل ظروف صعبة للغاية بوجود جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي في خان يونس”.
ومضت أبو غنيم بالقول: إن “الأشياء التي رأيناها في غزة لا يمكن تصورها. فالأطفال لا يحصلون على التغذية الأَسَاسية. وكل طفل بحاجة إلى رعاية نفسية لن يتمكّن من الحصول عليها لفترة طويلة جداً”.
وتابعت الطبيبة، “لا أستطيع أن أخبركم كم هو محبط أن أعلم وأنا أقف أمام جريحة أسحب شظايا من جسدها، أن دولارات الضرائب التي أدفعها دفعت ثمن تلك الشظايا”.
وروت أنها شاهدت مدنيين وأطفالا يُستهدفهم جنود الاحتلال بشكلٍ متعمد، وأطفال مصابون بطلقات نارية في البطن والصدر، وألغامًا إسرائيلية تنفجر على أطفال يلعبون في المقبرة.
أطفال جرحى بلا عائلة:
طبيبة العناية المركزة للأطفال “تانيا الحاج حسن”، أبكت الحضور عند حديثها عما شهدته في غزة خلال مؤتمر الديمقراطيين في واشنطن.
ووصفت الطبيبة “تانيا” كيف أمسكت بأيدي الأطفال المحتضرين “وكانوا يلفظون أنفاسهم الأخيرة في غياب أي أسرة على قيد الحياة قادرة على مواساتهم”، معربة بأسف عن ظاهرة وصول الأطفال الجرحى وحدهم إلى المستشفى “إلى الحد الذي جعل هناك مصطلحاً طبيًّا يصفهم.. طفل جريح، لا أسرة له على قيد الحياة”.
وتقول: “تدربنا على حماية الحياة البشرية والحفاظ عليها، ولكن الحملة العسكرية الإسرائيلية تستهدف الحياة وكل ما يلزم لاستمرارها في غزة، وهذا يجعل عملنا كأطباء مستحيلاً”.
وتضيف الطبيبة الأمريكية، “أعمل مع أطباء بلا حدود، وفي الإبادة الجماعية في رواندا، قالوا: إن “الإبادة الجماعية تتطلب استجابة جذرية فورية، فلا يستطيع الأطباء وقف الإبادة الجماعية، وأعتقد أن الكثير منا يشعرون بنفس الطريقة، نحن مرعوبون للغاية مما نشهده، ويطاردنا في أحلامنا”.
أسلحة غير اعتيادية:
أما الجراح الأمريكي العائد مؤخّراً من قطاع غزة، “فيروز سيدهوا”، فأكّـد في شاهدته على تعمد جيش الاحتلال قتل الأطفال، واستخدامه لأسلحة غير اعتيادية في استهداف السكان والمنشآت.
وعن الفترة التي قضاها في غزة، قال “سيدهوا”: “عملت لأسبوعين في المستشفى الأُورُوبي في الربيع الماضي، كانت الأوضاع كارثية وكل يوم كنا نرى مجازر فيها إصابات جماعية، وأغلبيتهم من الأطفال الذين لديهم إصابات بليغة؛ بسَببِ القنابل التي تحصل عليها “إسرائيل” من الولايات المتحدة”.
وتحدث الطبيب الأمريكي، عن الأسلحة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي، فوصفها بأنها “غير اعتيادية” مثل القنابل التي تقذف شظايا فور ارتطامها بالهدف وتؤدي إلى إصابات بليغة.
وتكلم عن أشدّ مشهد علوقًا بذهنه، بقوله: “كان هناك طفل مصاب من القنابل ذات الشظايا المتطايرة، واضطررت لإجراء عملية صعبة له، وأثناء الجراحة حاولت إدخَال أنبوب صدر لكي أعالجه وحينها واست الوالدة طفلها وهذا ما شجعه على تحمل عمليته، فهي رفضت القضاء على كرامتها وحبها لأطفالها على الرغم من إصابتها البليغة هي أيضًا”.
نقص وإجهاد طبي:
وفي أبريل الماضي قال أُستاذ جراحة العظام بكلية طب “القصر العيني” في مصر “أحمد عبد العزيز”: إن “حجم المآسي في قطاع غزة لا تعكسه وسائل الإعلام، فلا توجد وسيلة متاحة الآن لرفع كميات ضخمة من ركام المباني، التي تحولت لمقابر جماعية لأسر بأكملها تحت أنقاضها”.
وأكّـد أن الفرق الطبية تعاني من النقص الشديد، وتتناقص؛ بسَببِ الاستشهاد واعتقال الكثير منهم، “والباقون يقومون بعمل رائع وغاية في الإتقان، لكنهم مرهقون جِـدًّا ويعملون على قدر الإمْكَانات المتاحة والتي تتلاشى مع مرور الوقت؛ لأَنَّ معظم الإصابات تصاحبها كسور في العظام وعضلات مكشوفة، وشرايين وأوتار مقطّعة”.
أما الطبيب الأردني “وصفي جعارة”، اختصاصي الجراحة العامة وجراحة المناظير، فيؤكّـد أن حجم الإصابات يفوق القدرة الاستيعابية للمستشفيات.
وبين الطبيب الذي تطوع في غزة في مارس الماضي، أن مستشفى غزة الأُورُوبي يتسع لمائتي سرير وفيه 900 مريض، وأغلبهم بعد الخروج يبقى في المستشفى؛ لأَنَّه ليس لديه مكان يذهب إليه؛ لأَنَّ بيوتهم قصفت، وبعد أن تمّ علاجهم يبقون الأمر الذي جعل المستشفى مكتظًا بأعداد كبيرة؛ بسَببِ أعداد المرضى وأهلهم الذي يملؤون الممرات وحرم المستشفى.
ولفت إلى ما يعاني الكادر الطبي من إرهاق وضغط نفسي كبير جِـدًّا، “كثير منهم توفي أقاربهم، يصلون عليهم ويعودون للعمل، وبعض الأطباء تواجد في المستشفى لأكثر من شهرين؛ لأَنَّه لا مكان يأوي إليه”.
قصص لا تنسى:
ويقر الدكتور “سام العطار” الذي تطوع في غزة في إبريل الماضي، أنه ترك جزءا من روحه في القطاع، “هذا الجزء هو الذي رأى المعاناة ولم يستطع الابتعاد عنها. الجزء الذي لا يمكن الآن أن ينسى”.
ويقول طبيب الجراحة: إنه “يرى وجوه الفلسطينيين الذين يعانون في غزة أينما ذهب، منهم أم فقدت طفلها، والذي كان بعمر 10 سنوات، كانت تحملق بنظرات تائهة وهي تقول إنه مات قبل 5 دقائق فقط، وبينما كان العاملون بالمستشفى يحاولون تغطية جثته، كانت هي تمنعهم؛ لأَنَّها تريد أن تقضي معه أطول وقت ممكن، حتى ولو كان وسط البكاء والدموع، استمر الأمر كذلك 20 دقيقة وهي لا تريد تركه”.
مثال آخر يتذكره الطبيب “سام”، قائلاً: إن “رجل في الخمسينات من عمره بترت ساقيه، فقد أطفاله وأحفاده ومنزله، لقد كان وحيدًا في ركن منعزل من المستشفى، جروحه ملوثة لدرجة أن الديدان تخرج منها وهو يصرخ من الألم”.
وَأَضَـافَ، “لا زلت أفكر في كُـلّ المصابين وكل الأطباء الذين بقوا هناك، وهناك شعور داخلي بالذنب؛ لأَنَّي رحلت رغم حاجتهم الشديدة لوجودي، ورغم ذلك اضطررت للرحيل”.
كما روى الطبيب الأمريكي “مارك بيرلموتر” العائد من غزة في مايو الماضي، بعض التفاصيل حول أهوال المجازر والجرائم الإسرائيلية المرتكبة في حق سكان القطاع، معتبرًا أنها “تفوق حجم ما شاهده طوال فترة خدمته في مختلف دول العالم”.
ويؤكّـد “بيرلموتر”، وهو جراح عظام دولي، إلى أن “جيش الاحتلال الإسرائيلي تَعمَّد استهداف الأطفال، “لقد رأيت عدداً كَبيراً من الأطفال المحترقين والممزقين في الأسبوع الأول فقط”.
وذكر الطبيب الأمريكي أنه شاهد أطفالاً بأجزاء مفقودة من أجسادهم، وآخرين سحقتهم المباني، وأُخرجَت من بعضهم شظايا قنابل كبيرة الحجم.
وَأَضَـافَ أنه شاهد أطفالاً استهدفهم رصاص قناصة حتى الموت، قائلاً: “لديّ صور لطفلين أُصيبا بالرصاص في صدريهما، ولم أتمكّن حينها من وضع السماعة على قلبيهما بدقة”.
ويجمع الأطباء الذي تطوعوا في غزة على انهيار البنية التحتية الصحية في القطاع، مما جعل العمليات الجراحية مستحيلة على الرغم من جلب الأطباء الوافدين لأطنان من الأدوات الطبية، لكنها تنفد بشكل متسارع؛ بسَببِ كثرة الجرحى.
ووفق معطيات وزارة الصحة، استشهد أكثر من 500 من العاملين في المجال الطبي في قطاع غزة الذي تعمل فيه 10 مستشفيات، بعضها بصورة جزئية، إثر الدمار الذي لحق بأجزاء واسعها منها، وذلك من أصل 36 مستشفى في القطاع، وسط تصاعد أنشطة جيش الاحتلال العسكرية التي قد تفضي إلى وقف المنشآت الصحية عن العمل أَو انعدام إمْكَانية الوصول إليها.
وبدعم أمريكي مطلق يشن جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أُكتوبر 2023م، حربًا مدمّـرة على غزة خلقت أكثر من 155 ألف شهيد وجريح ومفقود فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وسط دمار هائل ومجاعة قاتلة.