الإدارةُ الأمريكية: الترويجُ لجهود إخماد النار بصب الزيت
د/ عبد الرحمن المختار
لا تدَّخِرُ الإدارةُ الأمريكية وِسْعاً، ولا تفوِّتُ فُرصةً، إلا وتؤكّـدُ إسنادَها للكيان الصهيوني والتزامَها بأمنه والدفاع عنه، يأتي هذا التأكيدُ من أركان الإدارة الأمريكية جمهوريين أَو ديمقراطيين، أوجه خشنة أَو ناعمة؛ فها هي المرشحة لمنصب الرئاسة الأمريكية، للدورة الانتخابية المقبلة، كاميلا هاريس، تؤكّـد في مؤتمراتها الانتخابية أمام الجماهير المحتشدة، أنه لا تغيير في سياسة إرسال الأسلحة إلى “إسرائيل”؛ باعتبَار ذلك موقفاً ثابتاً لا يتغيَّرُ بتغيُّر المعبِّرِينِ عن الإدارة الأمريكية، سواءٌ أكانوا ديمقراطيين أَو جمهوريين، وسواءٌ جاء التعبيرُ عن هذا الموقف من الأوجه الخشنة كما الحال بالنسبة لترامب، أَو الناعمة كما هو الحال بالنسبة لكاميلا هاريس؛ فالسياسَةُ واحدة تجاه العرب، لا فرقَ في ذلك بين مرشح جمهوري أَو ديمقراطي، ولا فرق بين وجه ناعم أَو وجه خشن.
وفي مقابل موقفها المؤكّـد على إسناد الكيان الصهيوني، والالتزام بأمنه والدفاع عنه، واستمرار انسياب شحنات السلاح إليه، ذكرت المرشحة الرئاسية كاميلا هاريس في موقف آخر، أكّـدت فيه على أنها والرئيس بايدن يعملان على مدار الساعة لوقف النار في غزة، وتدرك المرشحة الرئاسية أن موقفها الأول متعلق بإرضاء اللوبي الصهيوني لكسبه إلى صفها في الانتخابات الرئاسية، وهو موقف واقعي وفعلي، وله تجسيد حقيقي على أرض الواقع، والموقف الآخر الذي تظاهرت به هاريس، هو لإرضاء الناخبين المسلمين ومن العرب وغيرهم، ومن والأمريكيين المعارضين لمشاركة الإدارة الأمريكية في جريمة الإبادة الجماعية التي يقترفها الكيان الصهيوني بحق أبناء قطاع غزة منذ عشرة أشهر.
والموقف الذي أعلنته المرشحة الرئاسية هو موقف زائف وكاذب ومخادع ومضلل، وهي بهذا الموقف لم تأتِ بجديد، بل سارت على نهج من سبقها من المرشحين للرئاسة الأمريكية، سواء فازوا بالمنصب أم خسروا؛ فجميعُهم تحدثوا مطوَّلًا عن ضرورة تطبيق حَـلّ الدولتين على أرض الواقع، وبمُجَـرّد وصولهم إلى البيت الأبيض يبدؤون باستخدام الفيتو في مجلس الأمن الدولي في مواجهة أي مشروع يشير إلى موضوع حَـلّ الدولتين، ومع أن هذا النفاق مفضوح ومكرّر، إلا أن الفائزين بمنصب الرئاسة الأمريكية لا يجدون أي حرج في تكرار الكذب والزيف والتضليل بخصوص حَـلّ الدولتين، وهم يفعلون ذلك لأَنَّهم مطمئنون إلى أن الأنظمة العربية لن تجرؤ حتى على مُجَـرّد التذكير لشاغلي منصب الرئاسة في الإدارة الأمريكية، بالوعود السابقة أثناء الحملات الانتخابات، ناهيك أن تعترضَ هذه الأنظمة على وقوف الإدارة الأمريكية ضد أي مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي متعلق بالاعتراف بالدولة الفلسطينية!
ويرجع السبب في ذلك إلى تبعية وخنوع الأنظمة العربية؛ الأمر الذي شجّع المرشحين للرئاسة الأمريكية على الاستمرار في سياسة تضليل الناخبين العرب للحصول على أصواتهم في الانتخابات الرئاسية، ثم يجري العمل على عكس تلك الوعود الزائفة، ومع أن المرشحة الرئاسية كاميلا هاريس تحدثت في جملة واحدة عن أمرَينِ متناقضين في آن واحد، إلا أنها مع ذلك لم تقم أيُّ اعتبار لهذا التناقض، وما يمكنُ أن يترتَّبَ عليه من آثار سلبية داخلية وخارجية، فلا هي أقامت الاعتبار للناخبين المسلمين من العرب وغيرهم، عند إعلان موقفها الثابت تجاه الكيان الصهيوني، وموقفها الزائف المخادع والمضلل تجاه أبناء الشعب الفلسطيني، ولم تقم أَيْـضاً أي اعتبار للأنظمة العربية والإسلامية ولا للشعوب كذلك؛ لأَنَّها بكل بساطة مطمئنة بأن تضليلها للناخبين لن يؤثر على توجّـههم، وبالنسبة للأنظمة والشعوب الإسلامية، فهي مطمئنة تماماً أن القائمين على رأس تلك الأنظمة تحت الرغبة الأمريكية، وأما الشعوب فهي في حالة سبات عميق.
ولكل ذلك فالموقف -سواء بالنسبة للداخل أَو الخارج- لا يعدو عن كونه فقرةً أَو بندًا ضمن برنامج الدعاية الانتخابية، والحديث أثناء المؤتمرات الانتخابية إسقاط واجب حتى لا يقال إن المرشحة الرئاسية لم تتطرق لما يجري في قطاع غزة، ورغم أنه لم يصدر عنها إدانة لجرائم الكيان الصهيوني، أَو إشارة إليها لا من قريب ولا من بعيد، وانحصر ما تحدثت عنه حول جهودها هي والرئيس لوقف النار في غزة وإطلاق الرهائن، وكأن أفعال جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة المُستمرّة منذ عشرة أشهر عبارة عن مُجَـرّد تناولات إعلامية ليس لها أَسَاسٌ على أرض الواقع.
وعندما تحدثت المرشحة الرئاسية عن موقفها المتناقض من هذين الأمرين، الأول: استمرار تدفق شحنات السلاح، والثاني: جهود وقف إطلاق النار، حالها وهي تتحدث عنهما كحال من يزعم أنه يحاول إطفاء حريق كبير مستخدماً لذلك مادة البنزين، فهي حين تحدثت عن جهودها والرئيس بايدن، لوقف إطلاق النار فهذا الحديث كاذب ومخادع ومضلل، وهذه الجهود المزعومة لا يمكن أن تكون لها أية جدوى طالما وشحنات السلاح التي تمثل وقود الجريمة مُستمرّة في التدفق إلى كيان الاحتلال الصهيوني، وهذا السلاح هو مادة البنزين، التي تزعم هاريس أنها هي ورئيسها يحاولان بها إخماد الحريق المشتعل في غزة منذ عشرة أشهر، ولو كانت لحديثها أية جدوى أَو جدية أَو مصداقية، لكان قد تم وقف النار في الأسبوع الأول، أَو الأسبوع الثالث، أَو في الشهر الأول أَو الشهر الثالث، لكن لأَنَّ حديثها كحديث غيرها من أركان الإدارة الأمريكية كذب وزيف وتضليل، فإطلاق النار لم يتوقف رغم أن مزعوم الجهود معلن عنها منذ الشهر الأول، ونحن الآن في الشهر العاشر والنار تزداد اشتعالاً، وضحاياها بمئات الآلاف ما بين قتلى وجرحى ومشردين ومهجرين.
فهل يمكن لعاقل أن يصدق أن النار المشتعلة يمكن أن يتوقف لهيبها واشتعالها وتمددها، مهما كان حجم مزاعم الجهود المبذولة لإخمادها، إذَا كان السائل الذي يصب عليها هو ذاته المستخدم أَسَاساً مادة لإشعالها؟ لكن هذا هو حال القابعين في أقبية البيت الأبيض، الممسكين بزمام السلطة فيه، أَو العابرين عبر الانتخابات إليه للامساك بزمامها، فلن يتغير هذا الحال أبدًا ما لم يحدث تغير على أرض الواقع من جانب الأنظمة والشعوب العربية والإسلامية، ويتبلور موقف واضح وصريح من شأنه إجبار الإدارة الأمريكية على الكَفِّ عن السخرية والاستهزاء بالمسلمين حُكَّاماً ومحكومين.
ولا أعتقد أن أحداً يمكنه أن ينكر أن الخلل ليس لدى الإدارة الأمريكية أَو غيرها من الأنظمة الغربية الشريكة للكيان الصهيوني في جريمة الإبادة الجماعية، وأن الخلل لدى الأنظمة الحاكمة، التي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها أنظمة عميلة ومرتهنة في مواقفها للقوى الاستعمارية الغربية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، ولو لم يكن الخلل في هذه الأنظمة لكان الموقف مما يجري في قطاع غزة والضفة الغربية مختلفًا تماماً، ولكان الحد الأدنى لهذا الموقف استدعاء الأنظمة الحاكمة لسفرائها لدى الدول الشريكة للكيان الصهيوني في جريمة الإبادة الجماعية، ولأعلنت هذه الأنظمة موقفًا واضحًا وصريحاً من شراكة القوى الغربية في الجريمة، ولكان لهذا الموقف أثره المباشر الفاعل والملموس في وقف آلة الإجرام الصهيوغربية عن الفتك بأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ولو أن شعوب الأُمَّــة الإسلامية -وخُصُوصاً العربية منها- أدركت واجبها تجاه ما يتعرضُ له إخوانُها من إبادة جماعية، خُصُوصاً في ظل تنصل الأنظمة الحاكمة، لكان موقف هذه الشعوب على غير الحالة التي هو عليها اليوم، هذه الحالة التي تجسد الضعف والخزي والهوان والخنوع والانحطاط؛ فالشعوب إذَا كانت حية فَــإنَّ الأنظمة الحاكمة ستعمل لها ألف حساب، لكن المؤسف أن الحكام تمكّنوا من تدجين هذه الشعوب وتخديرها وعزلها عن واقعها، كما فعل الغربُ تماماً بهؤلاء الحكام الخونة، حين عزَلَهم عن شعوبهم وعن واقعها واستعملهم فقط في ما يحقّقُ مصالحَه وأهدافَه الإجرامية.
ولا يتسع الحديث في هذا المقام بشكل مطوِّلٍ عن مواقف المرشحين للرئاسة الأمريكية، فالمرشح الجمهوري ترامب أبدى أسفه لضيق المساحة الجغرافية لدولة “إسرائيل” حسب تعبيره، وهو الذي سبق له نقلُ سفارة بلاده إلى القدس، وهو من سبق له منح الكيان الصهيوني صَكَّ تمليك الجولان السورية العربية المحتلّة، وهو اليوم في سباقه الانتخابي في هذه الدورة مع المرشحة المنافسة الديمقراطية كاميلا هاريس، يفكر بكل تأكيد في الكيفية التي يمكنه بها توسيع جغرافية كيان الاحتلال الصهيوني، وحقيقة يمكنه أن يجسد ذلك على أرض الواقع في ظل حالة الجمود والتخاذل العربي، ولن تجرؤ الأنظمة على الاعتراض عليه، وستلجأ إلى الوشاية ببعضها، بل وتقديم الرشاوى المالية الضخمة لتمويل عملية التوسع المرتقبة لدولة الاحتلال الصهيوني في حال فاز ترامب بمنصب الرئاسة الأمريكية في هذه الدورة الانتخابية، فهل ستصحو الشعوب من غفلتها قبل فوات الأوان؟!