نورٌ يطمسُ ظلامَ الجهل
البتول المحطوري
قبل آلاف السنوات كانت الأرض شبيهةً بصحراء قاحلة لا زاد فيها ولا ماء يرويها ولا شجر يُحيطُها، وكأن هناك وباءً قد حَـلّ عليها، أَو لعنةً قد حلَّت على كُـلّ جزء فيها، ليصبح ساكنوها كالوحوش المفترسة كلما اشتمت فريسة قريبة كشَّرت عن أنيابها وهمَّت بالتهامه، لا تميِّزُ مخالبُها الضعيفَ من القوي، وكأنَّ قانون الغابة هو السائد.
لم يكن يوجد شيءٌ يسمى حقوق أَو أحقيَّات، والعارُ وسوادُ الوجه لمن رزقه الله بأنثى، والمهمش من لم يخضع لأصنام الرذيلة؛ فذاك يهمُّ بدفنها حيه؛ ليظل وجهُه أبيضَ، والآخر يركع حتى تتشقَّقَ قدماه؛ ليكون من الزاهدين ليأمر لا يُؤمر كما يتخيل، أما الرباء كان كالوِشاح الذي يتلبس معاملاتهم المالية وتجارتهم، والفجور والسفور آنذاك حاضرًا وبقوة؛ فالنساء كالدمى لا ميراث ولا حقوق لهن، يتزوج بهن الرجال من غير تحديد، والطواف عراة حول البيت الحرام طقوسٌ معتادة لا يجرؤ أحد أن يوقفها، وشرب الخمر والرقص واللهو مؤنسهم، فتقسم المجتمعُ إلى طبقات يُحترم ويُقدس ويُمجد الأغنياء، ويُدهس ويُحتقر ويُهان الفقراء، فلم يشأِ اللهُ أن يبقى الوضع كما هو فأخرج من عمق ذلك الظلام نورًا ينير للناس طريقَهم بعد الظلمات؛ قد اجتمع الأنبياء وبشّروا بظهوره والكتب السابقة قد خطت اسمَه وعلاماته كما تحدث الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)، فكان كالمنقذ لهم مما قد حَـلّ عليهم من العذاب الذي جنوه؛ بفعلهم وعِصيانهم.
كان اليهودُ آنذاك يشتغلون في البحث عنه كما يشتغل النظامُ الفدرالي حَـاليًّا؛ لجعله ملِكًا يسودُ العالم ويُخضِعَ العرب تحت سلطتهم؛ فهم ينظرون للعرب نظرةَ استصغار، فكانت التغيرات التي حصلت حين ولادته في الأرض لم تكن في الحسبان؛ فقد خرج نورٌ أضاء المشرق والمغرب في الثاني عشر من ربيع الأول كالسحب التي تحمل الخير في جوفها، وسقطت الأصنام التي أحاطت بالبيت العتيق وكأنها أوراق شجرٍ هشة لم تصنع من الحجارة، وتكسَّر ديوان كسرى؛ ليعلم بأن الملك لله لا لسواه، ولم يبقَ سريرُ ملك من ملوك الدنيا إلا وانكسر، وانطفأت نيرانُ فارس، وانتزع علمُ الكهنة وبَطَلَ سحرُ السحرة؛ ليولد نبي الرحمة مُكمِّلُ الأخلاق وباعثها للعالم كما وصفه القرآن الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، فكان كالقشة التي قسمت ظهرَ البعير بالنسبة لليهود، والرحمة للعرب وللعالم كحدٍّ سواء، قريب منهم ومن أنفسهم، يعرفهم ويعرفون أخلاقه كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفسكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
يحمل في رسالته الرحمةَ لهم ولنا والحرص عليهم وعلينا، فاتبعوا وصيةَ إمامكم علي فهو وزيره وباب علمه حين قال: “واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضلُ الهدي، واستنُّوا بسُنته فإنها أهدى السنن”.
فأهلًا وسهلًا بنور الله وكلمته العليا، قلوبُنا بحبك قد فاضت، لو اجتمعت أقلام الأرض لن تكفيَ لوصفك فأنت الكمال الذي لا حدَّ لوصفه.