كيف هُزمت أمريكا في اليمن؟ وما مستقبلُ الفوضى الخلّاقة؟
المسيرة- إبراهيم العنسي:
هل سيتوقف الحوثيون؟ سأل أحدُ الصحفيين، فرد “بايدن”: لا. هل سيستمرُّون؟ أجابه: “نعم”.
هكذا يختصر الرئيس الأمريكي بايدن المواجهة البحرية مع اليمن في كلمتين، لكنه لم يكمل الحديث، أن اليمن قد توقف حصار العدوّ، واستهداف سفن تحالف دعم “إسرائيل” في حال تم إيقاف العدوان والحصار على قطاع غزة.
وإذا كان اليمن لن يتوقف عن استهداف السفن المرتبطة بموانئ “إسرائيل”، فهذا يفترض أن تتعامل أمريكا مع مطلب العالم بوقف الحرب والعدوان على غزة، بجدية وفعل حقيقي لا مراوغة فيه.
الحقائق الماثلة أمام العالم اليوم أن أمريكا تتعرض لانتكاسات متوالية منذ عقود، لكن وتيرة الانتكاس اليوم أكبر وأسرع.
في البدء كان التحدي اليمني بملاحقة السفن الإسرائيلية أكثر جدية من جدية الحماية الأمريكية لتلك السفن، لكن بعد أَيَّـام من إعلان اليمن ملاحقة سفن كيان العدوّ، كانت القوات المسلحة اليمنية قد احتجزت سفينة “غالاكسي” الإسرائيلية في 19 نوفمبر.
ومع شَنِّ واشنطن ولندن العدوانَ على اليمن، يناير2024، كانت اليمنُ أكثرَ إصرارًا على استهداف السفن الإسرائيلية أكثر، ومعها استهداف السفن الأمريكية البريطانية تجارية كانت أم حربية.
وفي ظل التصعيد، والاستهداف الأمريكي للأراضي اليمنية ازدادت وتيرة الاستهداف اليمني لسفن العدوّ، فاتسع المدى نحو خليج عدن، ثم البحر العربي، فالمحيط الهندي، وُصُـولاً إلى البحر الأبيض المتوسط، وتعززت صورة اليمن أنه الخصم القوي العنيد.
اليمن ومخطّط الشرق الجديد:
لقد كان التحَرّك العسكري اليمني أكثر نضجاً، وأكثر تأثيراً من التحَرّك الأمريكي الأُورُوبي في المواجهات البحرية.
أمام هذا نجحت اليمن في إظهار الكثير من الضعف الأمريكي على مستوى بناء التحالفات، ومستوى القوة والفاعلية والتأثير، متراكمًا مع سجل إخفاق أمريكي غير مسبوق منذ حرب فيتنام، في مقابل الكثير من الحنكة والقدرة والكفاءة اليمنية في المواجهات البحرية الساخنة.
في العراق، وأفغانستان، وحرب أوكرانيا روسيا، نجحت واشنطن في بناء تحالفات للقتال بالوكالة عنها، لكنها في اليمن تعرضت للانتكاسة الأولى، بمُجَـرّد الفشل في توليف دول لتحالف الحرب، تلاها التعرض لهزائم المياه اليمنية على نحو أزعج أمريكا مضاعفاً، وُصُـولاً إلى هزائمها في حماية السفن في المحيط الهندي والبحر المتوسط.
ففي أجواء الحديث الأمريكي عن تشكيل تحالف بحري باسم “الازدهار”، كان كلام الأمريكيين يدور عن 100 دولة ستنضم معهم في الحرب البحرية أمام اليمن، لكن ما تم إعلانه كان أقربَ لإعلان الفشل والهزيمة من إعلان تحالف يستعد لخوض مغامرة في مواجهة البلد صاحبة الأرض.
فقط 10 دول، مَثَّلَت تحالفاً لبعض الإنجلوسكسونيين، ومعهم جزيرتان إحداهما “البحرين”، من انضوت في حلف أمريكا البحري، فيما كانت دول كبرى كفرنسا وألمانيا وإيطاليا تنأى بنفسها كما أعلنت، أَو تفضّل خوضَ مغامرة منفصلة عن قيادة أمريكا ضمن تحالف “أسبيدس”، وإن ساقت حججاً من مثل حماية سفنها في المياه الإقليمية لليمن، أَو دول عربية كَثيراً ما تصدرت مشاهد الاعتداء على اليمن، لكنها توارت عن مشهد العدوان الجديد، وفقاً لتصور “المصلحة والحذر”.
في المجمل كان إخفاق واشنطن والغرب في تشكيل تحالفات شبيهة بما كان في عقود ماضية، ضربة موجعة لواشنطن والغرب، في نفس الوقت مؤشراً على انحسار النفوذ والتأثير الأمريكي على أنظمة المنطقة الحليفة.
هذا ما ظهر في مواقف بعض دول الخليج “السعوديّة والإمارات” وإن بقيت التحالفات الخفية تعمل، بالمثل فيما يخص أُورُوبا “فرنسا” التي رفضت العمل تحت قيادة أمريكا و”إسبانيا” التي أعلنت أنها لم تكن ضمن تحالف أمريكا المعلن، بعد ذكرها بالاسم.
الأكيد أن جدية وفاعلية القوات المسلحة اليمنية في التصدي للأمريكيين قبل تشكيل التحالف، قد أوصل رسالة قوية وواضحة أن اليمن قادر على المواجهة والتحدي بقوة، وأنه لن يستهدف سوى من يعاديه، ويصر على حماية سفن “إسرائيل”؛ لهذا سارعت دولٌ أُورُوبية لفتح نافذة تواصل مع صنعاء للنأي بنفسها عن جنون أمريكا، وإن لجأت للمراوغة في حضور تحالفها الأُورُوبي الهُــوِيَّة “أسبيدس”، وهذا ما مثّل صفعة أولى للنفوذ الأمريكي، ومثّل موقفاً مريحاً للقوى العالمية الصاعدة التي من مصلحتها التعامل مع القوة اليمنية الصاعدة، وحتى لأُورُوبا التي تعود تياراتُها القومية إلى الواجهة، حَيثُ تفترض التخلص من التبعية لواشنطن القاسية.
عجزٌ أمريكي مزدوج:
وفي ظلِّ إصرارِ واشنطن على المضي في حماية “إسرائيل”، كانت الانتكاسة الثانية في فشل أمريكا في حماية سفن الموانئ الإسرائيلية أن توسّع الفشل، انطلاقاً من البحر الأحمر نحو مياه اليمن الجنوبية والشرقية، وُصُـولاً إلى المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط.
لقد ظهر العجز الأمريكي مزدوجاً؛ فشل في حماية سفن الكيان، وفشل في حماية سفنها التجارية والحربية، ومعها سفن المتحالفين معها.
ومع بوادر الإخفاق الأمريكي البحري في أولى المواجهات مع اليمن، ظلت التساؤلات قائمة عما دفع أمريكا للاستمرار في خوض مواجهات حكم عليها بالفشل منذ البداية، رغم أن الطريق الأسهل، كان وقف حرب غزة، لتجاوز الأمر، والإتيان بسردية جديدة تعالج حالة الإخفاق، ونقاش العجز الأمريكي في الغرف المغلقة، دون إحداث جلبة كما هو حاصل اليوم.
ويُنظَرُ إلى هزيمة واشنطن في اليمن، على أنها خطوة ستقود إلى تجرؤ الكثير من الدول خَاصَّة الدول البحرية على مواجهة النفوذ، والتأثير الأمريكي.
لكن تحَرّك الولايات المتحدة الأمريكية محكومٌ بخطط وروئً معدة سلفاً.
وراء كُـلّ هذه الفوضى هي مخطّطاتُ الفوضى الخلاقة، والشرق الأوسط الجديد، والتي بشَّرت بها عجوزة أمريكا ومستشارة الأمن القومي الأمريكي بعهد جورج دبليو بوش، وَما عُرف بالشرق الأوسط الجديد، والذي كان من ضمنه، تصفيةُ القضية الفلسطينية، وإحداثُ تغيير في خريطة المنطقة العربية والإسلامية على وجه الخصوص، وهذا يعني أن العدوان على غزة والإبادةُ الجماعية كخيار ثانٍ للفلسطينيين، مقابل التهجير المرفوض شعبيًّا وسياسيًّا، جزء أصيل من المخطّط، وهذا ما يفسر الإصرار الأمريكي على المضي في تنفيد المخطّط، مع كُـلّ ما فيه من دموية، حَيثُ تبدو فيه واشنطن مرغمة ومحمولة على الاستجابة للمخطّط اليهودي الفوضوي بكل الأحوال.
ومع التوجّـه الأمريكي والحضور الصهيوني والإجرام الإسرائيلي الذي يقوده جناح اليمين اليهودي المتطرف، وتوسيع العدوان بعد غزة نحو الضفة الغربية، ينظر صانع السياسة الأمريكي بأن التنظيم الصهيوني يقود واشنطن نحو هاوية سحيقة، مع الإصرار على استمرار حرب الإبادة بحق الفلسطينيين، على أمل أن هذا التوسع في الدموية سيقود إلى التصفية الفعلية للقضية الفلسطينية، غير أن التجربة العسكرية الأمريكية في المياه اليمنية عطلت المشروع الشيطاني فعليًّا، وإن صاحب ذلك نوعٌ من التعتيم الإعلامي الأمريكي الغربي الخليجي، بعد كسر شوكة أمريكا باستهداف أحدث ترسانتها البحرية الكبرى، وإحالة حاملات الطائرات إلى زمن الماضي، مع كُـلّ ما ظهر من عيوبٍ في ترسانة أمريكا العظمى، وفي أول تجربة مواجهة لها منذ ثمانين عاماً تقريبًا.
وكما حصل مع أمريكا حصل كذلك مع أُورُوبا التي أثبتت قواتُ اليمن البحرية والجوية أنها تعيشُ في زمن الماضي، حَيثُ تتعالى الانتقاداتُ والدعواتُ لإنقاذ أُورُوبا من التفكك والتراجع، بعيدًا عن أي طموح استعماري لم يعد الظرف مهيأً لها.
فما فعلته الصواريخ، والزوارقُ والمُسيَّراتُ البحرية اليمنية، بات يشكل انقلابًا في كُـلّ المعايير والنظريات العسكرية البحرية المتداولة، منذ مئة عام، وتدرس في الأكاديميات الغربية، ويؤسِّس لنظريات جديدة تتبلور بشَكلٍ متسارعٍ هذه الأيّام؛ فبينما يُكلّف بناء حاملات الطّائرات، والبوارج مِليارات الدّولارات، فَــإنَّ صاروخًا يمنيًّا لا يكلّف تصنيعه إلّا بضعة آلاف يستطيع إعطابَها في ثوانٍ معدودة، وهنا تكمُنُ المعضلةُ الأمريكيّةُ الغربية غيرُ المتوقعة، والتي على ضوئها يمكنُ قياسُ شكل ونتائج أية مواجهات لأمريكا والغرب مع الصين وَروسيا وكوريا الشمالية، والمحور المقاوم.