البحرُ يضعُ صنعاءَ في محور بكين موسكو طهران.. هل خسرت أمريكا النفوذ؟
طالب الحسني
في الأشهر الثلاثة الأخيرة، أجرت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة تغييرات كبيرة لتموضع “تحالف حماية الازدهار” في البحر الأحمر لجهة تقليص القطع البحرية. حدث ذلك منذ أن سحبت واشنطن حاملة الطائرات “يو إس إس آيزنهاور” من المنطقة (عللت ذلك بإجراء صيانة ضرورية)، وأكّـدت صنعاء أن الانسحاب كان إجباريًّا بعد 3 عمليات هجومية نفذتها القوات المشتركة البحرية والصاروخية اليمنية مستهدفةً “آيزنهاور”.
ما يجعل السردية الأمريكية غير دقيقة أن القيادة المركزية والقوات البحرية الأمريكيتين قالتا في وقت متزامن إن حاملة الطائرات روزفلت ستنتقل للانتشار في البحر الأحمر دون تحديد التوقيت لفعل ذلك، ودون الإشارة إلى عدم وجود قرار أمريكي بإرسال أَو وقف إرسال أية حاملة طائرات في الوقت “الراهن على الأقل” إلى البحر الأحمر.
الأمر لا يتعلّق بتضارب الروايات، فالأهم أن ذلك انعكاس لصراع قفز من فشل تحالف عسكري بحري متعدد الجنسيات تقوده الولايات المتحدة الأمريكية لحماية الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر وباب المندب إلى بدء انحسار النفوذ الأمريكي في واحدة من أهم الممرات البحرية، وهو مؤشر له دلالات كثيرة.
أواخر أغسطُس/آب المنصرم، نشر موقع “أكسيوس” الأمريكي خارطة تكشف خلو البحر الأحمر من أية قطعة بحرية أمريكية. حدث ذلك لأول مرة منذ العام 2001، والدلالة التي نقلتها الصورة الخارطة أن انسحاباً أمريكيًّا بحريًّا يجري من منطقة “مصنفة” كمنطقة نفوذ أمريكية “سهلة”؛ إذ إن جميع الدول المطلة على البحر الأحمر والعربي حليفة للولايات المتحدة الأمريكية.
هناك ثلاثة أسباب تدعم تفضيل قرار الانسحاب:
الأول: اليقين الأمريكي بأن قدرة صنعاء، وقبل ذلك وجود قرار باستهداف حاملة الطائرات (لا فرق هنا أكانت أيزنهاور أم روزفلت)، وتعريضها لأضرار “محرجة”، هو “احتمال مرتفع جداً”. إن وقع ذلك سيكون بمنزلة ضربة قاسية لسمعة الولايات المتحدة الأمريكية التي تقدم نفسها بصفتها “أكبر قوة بحرية في العالم”.
ما يعزز وجود هذه القناعة هو ما نقله موقع Ward Carroll على يوتيوب عن قائد حاملة الطائرات أيزنهاور كريستوفر تشوداه هيل بأن الحاملة كانت معرضة للهجوم المكثّـف بالصواريخ البالستية، بما جعلنا نفقد الأمان، علاوة على الضغوط النفسية التي واجهتها طواقم العمل.
السبب الثاني: أن مهمة التحالف الذي تقوده واشنطن لحماية الملاحة الإسرائيلية أَو الملاحة المرتبطة بها عبر باب المندب والبحر الأحمر من الهجمات اليمنية فشلت مثلما فشلت الهجمات الجوية الثنائية المشتركة الأمريكية البريطانية، وبالتالي فقد التحالف القدرة على الردع مثلما كان مخطّطاً.
السبب الثالث: العودة إلى الاعتماد على الوجود الأمريكي العسكري التقليدي المتموضع في الضفة الأفريقية للبحر الأحمر من جنوب السودان وأرتيريا والصومال، وفي العمق تشاد وأفريقيا الوسطى، وُصُـولاً إلى كينيا وسيشل وأوغندا ضمن تجمع (أفريكوم)، فضلاً عن قاعدة ليمونيير العسكرية الأهم للولايات المتحدة الأمريكية في جيبوتي.
انهيار “تحالف حماية الازدهار” أم النفوذ الأمريكي في منطقة البحر الأحمر؟
المقاربة الأمريكية، وحتى الإقليمية والدولية، تؤمن بأن عمليات اليمن في البحر الأحمر والعربي وحظر الملاحة من وإلى كيان العدوّ الإسرائيلي هي مرحلة آنية تنتهي بتوقف العدوان والحصار على غزة. ومع أن ذلك صحيح، لكنْ ثمة متغير مهم لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية تجاهله، وهو أن الحركة الثورية في اليمن المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية تملك قابلية كبيرة برهنتها عسكريًّا وسياسيًّا بالانتقال التدرجي السريع نحو التصرف كقوة إقليمية مؤثرة في التمدد الجيوسياسي والجيوقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية، وغير قابل أَيْـضاً للاحتواء.
سيزداد الأمر تعقيداً في ما إذَا نجحت صنعاء في توظيف التطورات الأخيرة لمصلحة مد جسور لعلاقة مع موسكو وبكين، ما يمنع هذه العلاقة ليس سوى حسابات لدى روسيا والصين مرتبطة بمصالح البلدين مع دول إقليمية مجاورة لليمن، من بينها السعوديّة. يعني ذلك – لا يوجد تقاطع استراتيجي مع صنعاء بنظامها الثوري الحالي – على العكس تقود العقيدة العسكرية الروسية التي وقعها الرئيس فلادمير بوتين في العام 2022 إلى ضرورة “تمدد الوجود” العسكري الروسي بحريًّا إلى البحر الأحمر لحماية المصالح الروسية وتحقيق الحضور كقوة.
ولهذا، تعود موسكو للتفكير في المقولة الشهيرة: “لا بد من صنعاء ولو طال السفر”. إحدى الطرق الفعّالة لذلك هي وجود علاقة بين موسكو وصنعاء تتجاوز التواصل القائم، والتقدير أن ذلك لن يتأخر، بينما يتطلب من صنعاء كذلك استثمار ثلاث نقاط يمكنها أن تلعب لمصلحتها للانتقال إلى تحالفات إقليمية ودولية وتبدأ من:
– توظيف الإنجازات التي تمكّنت من تحقيقها على الصعيد العسكري والسياسي كنتاج لنجاح عملياتها البحرية.
– استغلال الوضع الإقليمي والدولي والصراع الروسي الغربي والصيني الأمريكي المتنامي.
– وضع خطط للاستفادة من الانعكاسات التي يحملها محور المقاومة المتجه حتماً نحو تحقيق انتصار استراتيجي على “إسرائيل” وحماتها الدوليين.
بحسب تقرير نشرته “بلومبرغ”، فَــإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية في معركة البحر الأحمر أمام “شبه دولة”، في إشارة إلى صنعاء. التقرير ألمح إلى المستقبل كتحدٍ سيواجه أية إدارة أمريكية قادمة.
هو تحوّل توقعته الولايات المتحدة الأمريكية عندما انهارت جهودها مع دول أُخرى لتركيب نظام بديل لنظام حليفها السابق علي عبد الله صالح بعد العام 2011، لكن واشنطن لم تكن تتوقع أن تكون بهذه القوة المتنامية، بما يجعلها تهديداً لنفوذ أمريكي اعتمد على بناء تحالفات وثيقة مع جميع الدول التي تطل على البحر الأحمر والعربي، إضافة إلى شبكة القواعد العسكرية الأمريكية المحيطة.
“عرض” إسقاط مركز “التهديد”:
في الداخل اليمني -ويمتد خليجياً- جدل دائم يتعلق بالخطط التي تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع الفشل السلبي أمام الحركة الثورية الحاكمة في صنعاء وتداعيته على “الجبهة العسكرية والسياسية” المنضوية في “حكومة المنفى”. يشعر هؤلاء بأن ذلك جلب فشلاً ثانيًّا لحق بهم بعد فشل ما يسمى “التحالف العربي”، بعدما كانوا قد وضعوا رهاناً يتكئ على أن خصومهم في صنعاء وضعوا أنفسهم بعمليات البحر الأحمر في “فم الوحش”.
من الواضح أن البيت الأبيض تجنب الدخول إلى مقامرة عسكرية واسعة مع صنعاء حتى مع إشراك واستخدام القوى المحلية اليمنية التي تعمل مع السعوديّة.
العرض الذي قدم لواشنطن خلال لقاءات متعددة مع السفير الأمريكي المقيم في السعوديّة استفن فاجن والمبعوث الأمريكي لليمن لينركينغ يضع الاستعداد للانتقال إلى مرحلة جديدة تتعلق بالحرب؛ بهَدفِ العودة إلى الحكم وإعادة اليمن مرة أُخرى إلى مربع النفوذ الأمريكي.
إسقاط “الحوثيين” وتحالفاتهم كتهديد – هذه المعادلة متعثرة منذ عقد:
وعلى الرغم أنه عرض “مغرٍ” يعيد الحرب في الداخل اليمني، بدلاً عن العمليات البحرية والجوية التي تقوم بها صنعاء، فَــإنَّ البيت الأبيض قابله بكمية محدودة من الحماسة، وبالطبع من دون رفضه، إذ إن القصور ليس في العرض، إنما في “القوى” التي ستنفذه، فهي نفسها التي فشلت طوال 9 سنوات من الحرب، ولا يغير من الأمر إن بدت بنسخ معدلة.
ما أضيف لاحقاً أن الرياض كبحت حماس تلك “القوى لأسباب تتعلق بمخاوفها من عودة الحرب مجدداً”. واستند موقف السعوديّة إلى تقديرها أن عودة الحرب مع اليمن ستكون مدمّـرة، وأنها لن تقتصر على القوى المحلية، بل ستشملها؛ لأَنَّها جزء من أية حرب مقبلة.
اكتفت واشنطن عند هذه الحالة بتجميد خارطة طريق كانت نتاج حوار صنعاء الرياض، ولا تزال تفضل استخدام كُـلّ الطرق التي تعتقد بإمْكَانية أن تؤدي إلى التقليل من التهديد الذي سيشكله اليمن في حال استمرت الحركة الثورية في الحكم والتجذر ضمن محور المقاومة، وربما لاحقاً المحور الصيني الروسي، وهو بحث يطول.