كيف تمكّن اليمنُ من نقل المعركة إلى عمق الكيان الإسرائيلي؟
منصور البكالي
للإجَابَة على هذا التساؤل المهم في هذه المرحلة المفصلية من تأريخ الأُمَّــة، نحتاج إلى قراءة متمعنة لفكر المشروع القرآني ومفاهيمه وأسسه، والموقف اليمني منذ أول يوم لتحَرّك عجلة هذا المشروع الرائد بقيادة الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي “رضوانُ الله عليه” واستمرار المسيرة القرآنية تحت راية أخيه السيد القائد عبد الملك بدرالدين الحوثي “يحفظه الله”، وإلى اليوم.
الفكر القرآني ومشروع المسيرة القرآنية ينطلق من رسالة سماوية أَسَاسها القرآن الكريم وقرنائه من أعلام الهدى، عرفت في بدايات ظهورها بالشباب المؤمن، الرافعين لشعار الصرخة المكون من عبارات تقول “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، كترجمة حقيقة لقناعاتهم الإيمانية في كيفية ترجمة موجهات الرسالة المحمدية إلى أعمال على ميدان الواقع، وكيفية النهوض بالأمة من المستنقع التي وصلت إليه، خَاصَّة بعد مكيدة تفجيرات 11 سبتمبر 2001م، في أمريكا، وهنا نهض الشهيد القائد “عليه السلام” لإعداد جيل قادر على التصدي للمشروع الأمريكي، ونصرة المستضعفين، ومقارعة المستكبرين والطغاة، في هذا العصر.
هنا أعاد الوعي اليمني ترتيب أولوياته واستشعار مسؤولياته التأريخية والدينية والإيمانية في رفع راية الإسلام عاليًا، وانطلق من يوم القدس العالمي -قبل أكثر من 22 عامًا- كمحرك ودينمو، تتوافق حوله كُـلّ وجهات النظر السياسية والثقافية والمذهبية في اليمن، فحشدت كُـلّ الطاقات والقدرات والإمْكَانيات لحملة هذا المشروع رغم قلة عددهم، في هذا الصدد، ورغم ما تلقوه من تحديات وعراقيل وحروب 6 شنت على محافظة صعدة التي تحَرّكوا منها، إضافة إلى ما تلاها من إرهاصات، قبل وأثناء ثورة 21 سبتمبر الفتية، وعدوان سعوديّ أمريكي بعدها، ضم خلفه تحالفات واسعة من الدول الوظيفية، إلا أن الموقف اليمني ظل ثابتاً وراسخاً ومُستمرًّا، وينمو بكل عزم وإرادَة نحو نقل المعركة إلى عمق الكيان وخوض الحرب المباشرة وجهاً لوجه ضد الوجود الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة.
وما إن جاءت معركة “سيف القدس” التي شكلت نقطة تحوّل للمقاومة الفلسطينية، ومهدت لوحدة ساحاتها الداخلية، تلتها وحدة ساحات محور المقامة، حينها أعلن السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي، استعداد القوات المسلحة اليمنية المشاركة في هذه المعركة ضد الكيان الغاصب، وعزز العلاقات بحركات المقاومة الفلسطينية، وغيرها في المنطقة، وقال: إن أي عدوان إسرائيلي قادم يستهدف الأقصى أَو غزة أَو لبنان أَو أي مكون من محور المقاومة فَــإنَّ الشعب اليمني وقيادته العسكرية جاهزة للمشاركة في الرد.
حينها تم تداول تلك التصريحات بنوع من السخرية، والاستهزاء، وما إن دشّـنت معركة طوفان الأقصى يوم 7 أُكتوبر حتى أثبت اليمن موقفه، ومثل نقطة تحول استراتيجية وحجر زاوية في قوى محور المقاومة، معلناً عن “معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس”، بمراحلها الخمس المتدرجة بمستويات وعمليات متوالية بحراً وجواً في الدفاع عن غزة، ومساندة أهلها.
وخلال عام كامل من العدوان الإسرائيلي على غزة، قدم اليمن أنموذجًا فريداً في مساندة المقاومة الفلسطينية، وخوض المعركة، وأفشل في سبيل ذلك ما سمي بـ “تحالف الازدهار” المشكل من أمريكا بريطانيا وأكثر من عشر دول المعلنة عن مشاركتها، وغيرها من الدول المشاركة سراً، وأجبر المدمّـرات والبارجات والفرقاطات الأمريكية على الفرار من المنطقة بعد تعرضها لضربات مؤلمة، كما هو حال شركات النقل البحري وسفنها التي كانت تتعامل مع موانئ الكيان، واستمرار الحصار البحري في الأحمر والعربي والمتوسط والمحيط الهادي، وضرب عمقه بصواريخ وطائرات بالستية وآخرها ضربة يافا المسيَّرة وصاروخ فرط صوتي فلسطين 2.
هذه المواقف ومعها الخروج الشعبي الأسبوعي نصرة للشعب الفلسطيني، مثلت تحولاً استراتيجياً على مختلف المستويات تؤكّـد أن اليمن يخوض المعركة وينقلها تدريجياً إلى عمق الكيان، ويعد لمفاجآت برية تتغلب على العوائق الجغرافية وحدود الدول العميلة.
استراتيجية كهذه تم اتِّخاذها بشكل مدروس ونابع عن تجربة وخبرة عالية جِـدًّا، صقلتها التحديات والمعوقات والعراقيل التي كان يقف خلفها العدوّ الصهيوني والأمريكي، ما جعل هذه الاستراتيجية على دراية كاملة بخطط واستراتيجيات العدوّ الإسرائيلي الأمريكي ومن يقف معه، ووفقاً لمعطيات وأسس عسكرية مدروسة بعناية ودقة ومدعومة بشواهد ومدلولات قرآنية تبخرت وفشلت أمامها مختلف الخطط والدراسات والعلوم والمفاهيم والأبجديات والمعادلات العسكرية الكلاسيكية والحديثة، خلال المراحل الماضية وعلى مر التاريخ.
الخطوات اليمنية التي تمضي اليوم بثبات، وتسارع ملحوظ، في هذا الاتّجاه، أربكت كُـلّ حسابات الأعداء وأدواتهم، وأدهشت الخبراء والباحثين الاستراتيجيين، والعسكريين في مختلف الأكاديميات الدولية للأعداء والأصدقاء.
ومما يدلل على ذلك ويؤكّـده، تعمد القيادة اليمنية، تحييد واحتواء الأذرع المحلية والإقليمية وتأجيل جل الملفات معها، التي استمر العدوّ في استثمارها لعقود ودمّـر بها المنطقة خدمة لأجندته ومؤامراته الخبيثة ضد الأُمَّــة وشعوبها، ويحاول بين الحين والآخر إعادة تحريكها بشكل مكشوف وساذج.
إضافة إلى القدرة العالية في امتصاص صنعاء للاستفزازات المتكرّرة من قبل الرياض وأخواتها، وتهدئة الجبهات الداخلية وفتح الأبواب لكل من يراجع حساباته، وعدم الالتفات لتحَرّكات الكروت المحروقة بلهب ثورة 21 سبتمبر، مع التركيز عسكريًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا على توجيه بوصلة العداء والمواجهة صوب العدوّ الإسرائيلي الأمريكي، وتسخير كُـلّ الإمْكَانيات والقدرات لنصرة الشعب الفلسطيني، ونقل المعركة إلى عمق الكيان.