الترويجُ للحرية ووقاحةُ منطق الإدارة الأمريكية
د/ عبد الرحمن المختار
منطقُ الإدارة الأمريكية تجاوَزَ في وقاحته كُـلَّ وقاحة يمكنُ تصوُّرُها في ما مضى من زمن وما هو آتٍ في تاريخ البشرية، الإدارة الأمريكية وعلى كُـلّ مستوياتها سبق لها خلال العقد الماضي التشنيع على إيران بعناوينَ متعددة، منها -حسب وصفها- تزويد الحوثيين بشحنات من متنوعة من الأسلحة، وكذلك تزويد حزب الله في لبنان والفصائل الفلسطينية في فلسطين المحتلّة، وفصائل المقاومة في العراق، وتعاطت مع هذه الوقاحة أنظمة غربية وعربية، ويقتضي المنطق الوقح للإدارة الأمريكية أن على من يتعرضون للعدوان أن يمتنعوا عن استخدام السلاح في وجه المعتدي، وعلى الدول الأُخرى الامتناع عن تزويد المعتدى عليه بأية وسيلة تمكّنه من الدفاع عن نفسه في مواجهة المعتدي.
ومع أنّ الشعب الفلسطيني تعرض وما يزال يتعرض للقمع والتنكيل من جانب كيان الاحتلال الصهيوني، الذي تزوده الإدارة الأمريكية بكافة أنواع الأسلحة الفتاكة المستخدمة في القتل الجماعي لأبناء الشعب الفلسطيني، ورغم أنّ حق الدفاع عن النفس من أهم المبادئ التي ورد التأكيد عليها في أحكام القانون الدولي، إلّا أنّ المنطق الوقح للإدارة الأمريكية لا يقيم أي اعتبار لأحكام القانون الدولي، فلقد تفاخرت الإدارة الأمريكية خلال العقد الماضي بالترويج لمصادرة شحنات إيرانية من الأسلحة كانت -حسب زعمها- متجهة إلى الحوثيين.
ولأن المنطق الوقح للإدارة الأمريكية لا يقيم أي اعتبار للقيم الإنسانية التي تضمنها ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي، فهو منطق يهدف إلى فرض العبودية على الشعوب لتتمكّن الإدارة الأمريكية بشكل مباشر وبشكل غير مباشر من الاستحواذ على مواردها واستعباد أبنائها، من خلال تجريدهم من أية وسيلة للدفاع عن أنفسهم وعن بلدهم، وفرض القيود الصارمة على الدول الأُخرى لمنعها من بيع وسائل الدفاع لتلك الشعوب أَو مساعدتها على مواجهة قوى العدوان.
ومع أنّ أحكامَ القانون الدولي تكفل حَقَّ الشعوب المحتلّة في مقاومة الاحتلال بكافة الوسائل المتاحة، فَــإنَّ كفالة القانون الدولي لهذا الحق تقتضي امتلاك أفراد الشعب لوسائل مواجهة ومقاومة الاحتلال، سواءٌ أكان إنتاجُ هذه الوسائل محليًّا أَو الحصول عليها من دول أُخرى عن طريق الشراء أَو في شكل مساعدات، وبامتلاك الشعب لوسائل الدفاع عن نفسه، يتحقّق بذلك ما ورد النص عليه في القانون الدولي من كفالة لحقوق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في مقاومته لتتمكّن به من التحرّر وطرد المحتلّ، وبدون امتلاك الشعوب المحتلّة وسائل الدفاع بأية طريقة كانت، تصبح كفالة القانون الدولي لحقها في مقارعة الاحتلال مُجَـرّد وَهْمٍ لا وجودَ له على أرض الواقع.
وكذلك الحال بالنسبة لرد العدوان فقد كفل القانونُ الدولي لكل الشعوب والأمم صغيرها وكبيرها حقَّ الدفاع عن النفس، وهذا الحق لا يتجسد على أرض الواقع إلّا بامتلاك الشعوب لوسائل الدفاع بأية طريقة كانت لرد وردع العدوان، والواجب على الدول التي تمتلك تقنية إنتاج وسائل الدفاع أن تزود بها الشعوب التي تتعرض للعدوان من جانب قوى الاستكبار، وفوق ذلك فقد أوجب ميثاق الأمم المتحدة على مجلس الأمن الدولي استخدامَ ما خوَّله الميثاقُ من صلاحيات إسناد الشعوب التي تتعرض للعدوان، وذلك من خلال قمع الدولة أَو الدول المعتدية عسكريًّا إذَا لم تُجْدِ العقوباتُ الدبلوماسية والاقتصادية.
ومع كُـلّ ذلك تُنكِرُ الإدارة الأمريكية بمنطقها الوقح حقَّ الشعوب في الدفاع عن نفسها، ومقتضى هذا الإنكار مطالبة الشعوب بالاستسلام لقوى العدوان والإجرام، ويعد هذا الإنكار بحد ذاته جريمةً دوليةً تقترفُها الإدارةُ الأمريكية، ناهيك عن سلوكها الإجرامي المتمثل في محاولة منع الشعوب من امتلاك وسائل الدفاع عن النفس، وفرض العقوبات على الدول التي تساعد الشعوب المعتدى عليها ببيعها وسائل دفاعية بسيطة أَو مساعدتها على إنتاجها.
ومؤخّراً تحدث نائب المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن مطولاً عن موضوع تزويد إيران لروسيا بصواريخ بالستية، وما سبق ذلك من تزويدها بطائرات مُسيَّرة إيرانية -حسب زعمه-، وقد يفهم غير المطلع وغير المتابع للوهلة الأولى أنّ الإدارة الأمريكية بسلوكها هذا في مجلس الأمن الدولي، إنما تريد الحد من النزاعات الدولية المسلحة من خلال منع وصول وسائل اشتعالها إلى الدول، لكن المتتبع لسلوك الإدارة الأمريكية المجرمة، سيجد أنها هي من تعمل على إشعال النزاعات المسلحة، بل تعمل جاهدة؛ مِن أجلِ التحكم فيها، والسيطرة على آلة القتل واحتكارها بيدها وحدَها دون غيرها.
ويؤكّـد هذه الحقيقة ما سبق لهذه الإدارة المجرمة أن زوَّدت به كيانَ الاحتلال الصهيوني خلال العقود الماضية بعشرات الآلاف من الأطنان من الأسلحة الفتاكة، التي أزهقت حياة مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، واشتراكها مع الكيان الصهيوني وعلى مدى عشرة أشهر بشكل مباشر في جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة؛ ولأنه لا حدودَ لوقاحة الإدارة الأمريكية فَــإنَّها لم تعد تخشى تناقض منطقها الوقح مع معطيات الواقع، الذي يؤكّـد أنّ روسيا دولة صناعية كبرى تنتج مختلف أنواع الأسلحة، لكن هذه الإدارة المجرمة ترغب في تبرير إخفاقاتها وإخفاقات غيرها من القوى الاستعمارية الغربية، باستدعاء أطراف أُخرى وإقحامها في النزاع الذي مُنِيَتْ في بالإخفاق والهزيمة.
ومثلما سبق لها أن تذرعت بإيران لتبرير فشلها وفشل أدواتها في حربها العدوانية الإجرامية على بلادنا على مدى عقد من الزمان؛ فها هي اليوم تتذرع بذات الذريعة لتبرّر فشلها وإخفاقها في حربها الهجينة مع روسيا، وتريد أن تقنع الآخرين أنه لولا المسيَّرات الإيرانية والصواريخ البالستية لكانت قد أسقطت موسكو؛ ولذلك فَــإنَّها تتذرع بمنطقها الوقح لفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران، بمبرّر تزويدها لروسيا بالمسيَّرات والصواريخ البالستية، رغم أنها تزود ومعها حلف الأطلسي أوكرانيا بمختلف أنواع العتاد الحربي.
ذلك هو منطقُ الإدارة الأمريكية الوقحُ تريدُ من خلاله لخصومها أن يكونوا مُجَـرّدين من أية وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس، بل تريدُهم أن يكونوا مكبَّلين؛ لترتكبَ بحقهم أبشع الجرائم وهم في حالة سكون لا يتحَرّكون، إنها الإدارة الأمريكية التي روجت لعقود طويلة للحرية ولحقوق الإنسان، إنها اليوم في حالة انكشاف وفضيحة مدوية، فلم يكن للإدارة الأمريكية علاقة حقيقية بالحرية، ولم يكن لها علاقة حقيقية بحقوق الإنسان، كُـلّ ذلك الترويج كان عبارة عن زيف وخداع وتضليل، وكُلّ ما أجادته وتجيده هذه الإدارة المجرمة من سلوكيات لا تخرج عن الوقاحة والاستبداد والوحشية والهمجية، وعن الحقوق التي زعمت وروجت زيفاً وتضليلاً الدفاع عنها؛ فالواقع يؤكّـد أنه لا يؤمن بهذه الحقوق من ينكرها على الآخرين، أما عن الحرية التي تكلفت وتصنعت تلك الإدارةُ المجرمة كَثيراً في تزيين وجهها المشوَّه القبيح بها؛ فالواقعُ يؤكّـدُ أَيْـضاً أنه لا حرية لمن لا ينشُدُ الحريةَ لخصمه.