القوى الاستعمارية ودبلوماسيةُ الدمار والدم
د/ عبد الرحمن المختار
عامٌ كاملٌ أوشك على الانقضاء منذ اقتراف الفعلِ الأولِ من أفعال جريمة الإبادة الجماعية في قطاعِ غزةَ، هذه الجريمةُ التي تَعَدَّدَتْ أفعالُها، تَعَدَّدَ فاعلوها، واتَّسَعَ نطاقُ مسرحِ اقترافها؛ ليشمَلَ أنظمةَ الكُرة الأرضية بأسرها، وباستثناء عدد محدود منها لا يتجاوز عدد أصابع اليد، وإلا فالجميع بين فاعل مباشر وشريك ومتمالئ ومتآمِر ومساعد ومموِّل ومتنصِّل عن الواجبات القانونية والإنسانية، وهذه الجريمة صح وصفها بأنها جريمة القرن ومظلومية العصر، وكانت القوى الاستعمارية الغربية هي مَن مهَّد مسرح الجريمة في أربعينيات القرن الماضي حين زَرَعَ مسمَّى دولة “إسرائيل” في قلب الجغرافيا العربية، وباسم الإرادَة الدولية المتمثلة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تعاطت بقرارها (181) لسنة 1947 القاضي بسلب الأرض العربية من أصحابها لإنشاء دولة الكيان الصهيوني، خلافًا لما هو متعارفٌ عليه في نشأة الدول.
فقد أوجدت القوى الاستعمارية سلطة الاحتلال أوَّلًا، ثم اقتطعت لها الأرض العربية ثانيًّا، ثم جلبت لها الشعب من أصقاع الاض، وهذه الولادة المشوهة ليس لها نظير بين دول العالم؛ فجميع الدول نشأت بشكل طبيعي حين اتحد سكان كُـلّ دولة ليشكلوا بما يتوافر بينهم من الروابط والأواصر والمصالح المشتركة، والآمال والتطلعات الموحدة شعب الدولة على الأرض التي يقطنونها ويرتبطون بها منذ ميلادهم، ومن قبلهم آباؤهم وأجدادهم، ولتنظيم شأنهم يتفقون في ما بينهم على اختيار من يمثل سلطتهم السياسية، لإدارة وتسيير وتنظيم شؤونهم العامة.
وهكذا وبهذا الترتيب نشأت الدول، أما دولة الكيان الصهيوني التي أنشأتها القوى الاستعمارية الغربية مستخدمة الجمعية العامة للأمم المتحدة كوعاء غير شرعي، لتنمو فيه تلك النبتة الشيطانية، المتمثلة في سلطة الاحتلال الصهيوني ليتم نقلها بعد أن أخذت دورتها في حاضنتها الأممية في شكل شجرة خبيثة تمت زراعتها على الأرض العربية المغتصبة، أما سكان الدولة الوليدة المسماة “إسرائيل” الذين يمثلون شعبها، فليسوا من سكان الأرض المرتبطين بها منذ ولادتهم، ولا هم امتداد لآبائهم وأجدادهم، وإنما هم لفيف غير متجانس جلبتهم القوى الاستعماريةُ الغربية من مختلف أصقاع الأرض ليستوطنوا الأرض العربية التي لا تربطهم بها أية رابطة ولا يرتبطون ببعضهم بأية روابط، وإنما تجمعهم النوازع الإجرامية لا غير، وهذا الكيان المزروع في الجغرافيا العربية، لا يمثل دولة حقيقية، بل هو كيان وظيفي يقوم على أَسَاس تحقيق أهداف القوى الاستعمارية الغربية وحماية مصالحها غير المشروعة في المنطقة، وقاعدة متقدمة لتعزيز استمرار تواجدها في بداية الأمر بشكل غير مباشر على الأرض العربية، قبل أن تتواجد عسكريًّا في معظم النطاق الجغرافي لشعوب الأُمَّــة العربية تحت عناوين متعددة، منها التعاون والتحالف والتدريب والتأهيل، والاستضافة ومكافحة الإرهاب، وأخيرًا حماية المصالح القومية، التي تقترف في سبيلها مئات الجرائم بحق الشعوب العربية.
وجريمة غزة المقترفة أفعالها منذ عام ليست إلا واحدة من جرائم القوى الاستعمارية الصهيوغربية التي تُقترف بحق أبناء الشعب العربي الفلسطيني منذ أربعينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم تعمد القوى الإجرامية الاستعمارية الصهيوغربية إلى ترويج حَـلّ الدولتين المتجاورتين عربية وإسرائيلية، عقب كُـلّ جريمة إبادة تقترفها وبمُجَـرّد تمرير تضليلها وزيفها وخداعها تتنصل عن سابق ترويجها لحل الدولتين، وما إن تبدأ أفعال جريمة إبادة جماعية جديدة حتى تعود القوى الاستعمارية الغربية إلى ترديد تضليلها وزيفها وخداعها المكشوف، وتسايرها وتسير على نهجها التضليلي الأنظمة العربية، التي ساهمت ولا تزال تساهم بشكل فعال في طمس معالم كُـلّ إبادة تقترفها هذه القوى الإجرامية من خلال أداتها وقاعدتها المتقدمة في المنطقة المسماة دولة “إسرائيل”.
وإذا ما راجعنا حجم الزيف والتضليل والخداع خلال عام مضى على بدء جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لوجدنا أن ذلك الزيف والتضليل تنوء بحمله ووصفه أُمهات الكتب؛ فمنذ أول فعل من أفعال جريمة القرن انطلق متزامنًا معها حراك دبلوماسي نشط متعدد الأطراف تحت مسمى الوسطاء جابوا جغرافيا المنطقة وما حولها في جولات مكوكية متسارعة ومتتابعة، لكن محصلة هذه الجولات دمارٌ هائلٌ وأنهارٌ من الدماء المسفوكة، وَإذَا كانت الدبلوماسية تعني بكل بساطة الحيلولةَ دون تصعيد المنازعات إلى نزاعات مسلحة، والحد من تفاقمها عند حدوثها، فَــإنَّ دبلوماسية القوى الاستعمارية الصهيوغربية وأدواتها في المنطقة عكس ذلك تماماً، فهي تجسيدٌ مشوَّهٌ لمعنى الدبلوماسية وكما هو الحال بالنسبة لذلك التشوه الذي تحدثنا عنه آنفًا بالنسبة للنشأة المشوهة لمسمى دولة “إسرائيل” التي لا مثيل لهذه النشأة بين الدول في العصر الحديث.
ولن يجد المتابع أية صعوبة في حصر العناوين العريضة للجولات الدبلوماسية المكوكية لممثلي القوى الاستعمارية، سواء في نطاق جغرافيا المنطقة العربية أَو في نطاق الجغرافيا الأوسع، ودون حاجة للخوض في تفاصيل تلك الجولات، ولن يجد المتابع كذلك صعوبة في استخلاص نتائج تلك الجولات، فجميعها لم تكن نتائجها فشلًا لجهود حقيقية، وإنما كانت عبارة عن جهود حقيقية هدفها إنتاج الفشل بحد ذاته، أما ما ترتب على تلك الجولات سواء عند بدء كُـلّ جولة أَو أثناء انعقادها أَو بعد انتهائها؛ فالدمار شامل وأفعال إبادة مُستمرّة ومتتابعة، وكأن نجاح كُـلّ جولة من تلك الجولات التي تم الترويج لها يتجسد في المزيد من الدمار، والمزيد من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، وهو ما تم فعلًا بشراكة عربية فاعلة!
وقد أثَّرت دبلوماسية القوى الاستعمارية الغربية بمفهومها المشوه على مختلف الفعاليات الدولية التي سارت خلف الترويج لتلك الدبلوماسية؛ فالجمعية العامة للأمم المتحدة ظلت في حالة انتظار لنتائج جهود الدبلوماسية الغربية، تشيد بها وتمتدحها باستمرار، كما عطَّلت دبلوماسية القوى الاستعمارية الغربية ستة مشاريع قرارات تمت مناقشتها في مجلس الأمن الدولي بشأن غزة وما يجري فيها من إبادة جماعية، وعطَّلت أَيْـضاً دبلوماسيةُ القوى الاستعمارية الغربية محكمتَي العدل والجنائية الدولية، فلم تتمكّن أيٌّ منهما من تفعيل اختصاصاتها بشأن ما يقترف من جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، وتحول التناول الإعلامي إلى آثار العقوبات التي يمكن أن تطال قضاة المحكمتين من جانب القوى الاستعمارية الغربية، بدلًا عن تناول ما يمكن أن تقضيَ به هاتان المحكمتان من عقوبات بحق المجرمين، وهنا الأمر مشوه تماماً وهو لا يختلف عن تشويه القوى الاستعمارية الغربية لمفهوم الدبلوماسية، في نتائجها وآثارها.
ويمكن أن يتساءل البعض: لماذا نتحدث عن القوى الاستعمارية الغربية بهذه الحدة رغم أن ظاهر الأمر يوحي بأن هناك جهودًا حثيثة تبذل وهذه القوى؛ إذ تبذل الجهود فهي ليست معنية بتحقيق النتائج المرجوة؟ ولتوضيح ذلك نقول: إن القوى الاستعمارية الغربية -وعلى رأسها الإدارة الأمريكية- تمارس الكذب والزيف والتضليل حين تزعم أنها تبذل جهودًا دبلوماسية لاحتواء الصراع ومنع توسعه! هي تفعل ذلك؛ لأَنَّها بكل بساطة تريد حسم نتيجة الصراع القائم لمصلحتها! كيف ذلك؟ ولماذا لمصلحتها وهي تؤدي دور الوساطة في الظاهر؟ نعم لمصلحتها؛ لأَنَّها ببساطة طرف في الصراع، بل طرف أَسَاسٌ في الجريمة، وهي تسعى من خلال دبلوماسيتها المزعومة إلى إفقاد الضحية أية قدرة على الحركة؛ لأَنَّ دولة الكيان الصهيوني، جزء من بنية وتكوين القوى الاستعمارية الغربية، وهذا الجزء وإن كان في نطاق جغرافي بعيد عن جغرافيتها، إلا أنها في حقيقة الأمر ستكون في حالة سيئة بدونه، وتتأثر سلبًا إن تعرَّضَ لأية إشكاليات؛ ولذلك فهي تتقمَّصُ دورَ الوسيط حينما لا يكون للصراع القائم مخاطرُ وجوديةٌ على هذا الجزء الذي يعد من مكوناتها الأَسَاسية، أما إذَا كانت مخاطر الصراع فوق ذلك، فَــإنَّها لن تتردّد في المبادرة بالأفعال العنيفة المباشرة لمنع ولقمع مصدر الخطر.
وإذا كانت جريمة الإبادة المقترفة في غزة على مدى عام تقريبًا من جانب هذه القوى مثالًا صارخًا على انكشاف تضليلها وزيفها، وفضح تقمصها لدور الوسيط، وترويجها لتبني الحلول الدبلوماسية إلا أن النتيجة الواضحة وضوح الشمس أن ذلك الترويج لم يكن سوى تمديد للمساحات الزمنية التي تتمكّن من خلالها من تحقيق أهدافها في بسط سيطرتها ونفوذها، وإخضاع خصومها ليس بالدبلوماسية وإنما بالدمار والدم، وما مزعوم الدبلوماسية سوى وسيلة لتغطية جريمتها التي امتد نطاقها الزمني والجغرافي؛ فجغرافيًّا ومنذ ما يقرب من عشرة أَيَّـام امتدت أفعال جريمة الإبادة الجماعية إلى الضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية بيروت، كما هو حال تلك الأفعال في قطاع غزة، وبالتزامن مع ذلك روجت القوى الاستعمارية الصهيوغربية لجهود دبلوماسية دولية لاحتواء التوتر على الحدود، لكن ومع كُـلّ ذلك الترويج تتابعت أفعال الإبادة الجماعية والدمار الشامل، والاغتيالات لقيادات حزب الله التي جاءت كثمرة لتعاون استخباري استعماري غربي عربي على مدى سنوات، وكان آخر تلك الجرائم جريمة اغتيال أمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، لتعلن بعدها القوى الاستعمارية على رأسها الإدارة الأمريكية والحكومة الفرنسية، فشل الجهود الدبلوماسية، وساعدتها الأنظمة العربية في ترويج الزيف والتضليل، فقبل جريمة الاغتيال أعلن وزير الخارجية السعوديّ بن فرحان عن التحالف الإسلامي الأُورُوبي لإقامة الدولة الفلسطينية!؛ للإيهام بوجود جهود دولية في هذا المسار، وحقيقة أن ذلك لا يعدو عن كونه مساهمة من الأنظمة العربية في تمديد المساحات الزمنية الإضافية اللازمة لتحقيق القوى الاستعمارية الغربية للمزيد من المكاسب الإجرامية القائمة على دبلوماسية الدمار والدم!
وها هي الإدارة الأمريكية تبحث مسألة إرسال المزيد من القوات العسكرية إلى المنطقة لمواجهة أية ردود فعل انتقامية، وها هي فرنسا تحذر حزب الله وتحذر إيران من الرد على جريمة الاغتيال وتطالب بالتهدئة، بل ها هي القاعدة المتقدمة للقوى الاستعمارية في المنطقة تطالب صراحة بإرسال المزيد من القوات لمواجهة أي رد محتمل من جانب إيران؛ فإلى متى تظل الشعوب العربية مُجَـرّد متلقٍّ لمسلسل التضليل والزيف الذي تؤدي فيه الإدارة الأمريكية أدوار البطولة إلى جانب غيرها من القوى الاستعمارية الغربية؟ وإلى متى تظل الشعوب العربية متقبلة لدور الكومبارس من جانب أنظمتها العميلة المرتهنة لهذه القوى الإجرامية، التي تجرع الشعوب مفهومَها المشوه للدبلوماسية القائم على الدمار والدم؟!