كيانٌ وظيفي وليس دولة

د/ عبدالرحمن المختار

لا ينطبقُ على مُسَمَّى دولة “إسرائيل” ما ذكره فلاسفةُ الغرب في شأن التأصيل لنشأة الدول، فقد قيل: إن نشأةَ الدولة ارتبطت بلحظة انقسام المجتمع إلى حُكَّام ومحكومين. وقيل: إن هذه النشأة ارتبطت ببلوغ الجماعة السياسية درجةً عاليةً من النضج. وقيل كذلك: إن نشأة الدولة ارتبطت بتبلور أركانها الثلاثة:- الشعب والإقليم والسلطة السياسية.

ويقتضي التطبيقُ العملي لهذه الأقوال، تواجُدَ مجموعة بشرية على رقعة جغرافية محدّدة، انقسمت هذه المجموعة في مرحلة نشأةِ الدولة إلى حكام ومحكومين، بحيث تميز الحكام بشكل واضح ومحدّد عن بقية فئات المجتمع، وهذا وفقًا للقول الأول، وينطبق ذات الأمر على القول الثاني الذي انتهى إلى ربطِ نَشْــأَةِ الدولة ببلوغ الجماعة السياسية درجة عالية من النضج، مكنتها من تنظيم وإدارة الشؤون العامة لمجتمعها، وكذلك الحال بالنسبة للقول الثالث الذي ربط نَشْــأَة الدولة بتبلور أركانها الثلاثة الشعب والإقليم والسلطة السياسية، بشكل واضح ومحدّد.

وما سبق يقتضي وجود جماعة بشرية تقطن بصفة مُستمرّة رقعة جغرافية محدّدة ترتبط في ما بينها بعدد من الروابط والمصالح المشتركة؛ وبسبب رغبتها في تنظيم شؤونها العامة ترتضي وجود سلطة سياسية تمثلها وتعمل على تنظيم شؤونها في مختلف المجالات، ويقتضي التطور التدريجي لنَشْــأَة الدولة ترتيب أركانها، الشعب، الإقليم، السلطة السياسية، فتوجد المجموعة البشرية المكونة لركن الشعب، وتحوز الرقعة الجغرافية المكونة لركن الإقليم، ثم السلطة السياسية التي يقبل أفراد الشعب بالخضوع لها؛ رغبة منهم في تنظيم شؤونهم العامة، وَإذَا ما اكتفينا بمناقشة القول الثالث بوصفه أكثرَ الأقوال انطباقًا على نَشْــأَةِ الدول في العصر الحديث، وَإذَا ما أسقطنا مضمون هذا القول على نَشْــأَةِ دولة الكيان الصهيوني لما انطبق على هذه النشأة، ولما انطبق عليها أيٌّ من القولَينِ السابقين؛ فنشأة دولة الكيان الصهيوني فريدة من نوعها ومختلفة تماماً عما هو متعارف عليه في نشأة الدول.

فدوَلُ العالم نشأت بفعل ذاتي في نطاق جغرافي محدّد تقطنه جماعة بشرية معينة، دون تدخل خارجي، فشعب الدولة الذي يقطن الرقعة الجغرافية المحدّدة ويرتبط في ما بينه بمجموعة من الروابط والمصالح المشتركة تدفعه إلى العمل على إيجاد سلطة أَو القبول بسلطة تتولى تنظيم شؤونه؛ تحقيقًا للمصلحة العامة لجميع الأفراد، ولا يتحقّق لركن الشعب الانسجامُ إلَّا بوجود روابطَ ومصالحَ مشتركة بين جميع أفراده على الرقعة الجغرافية الواحدة، وهو ما يعني أن الأصل قبل أن يتحدّد ركن الشعب أن يتواجد جميع أفراده على رقعة جغرافية واحدة، وَإذَا ما أسقطنا مفهوم ركن الشعب على مسمى دولة “إسرائيل “، فَــإنَّ هذا الركن لا ينطبق على نشأتها؛ باعتبَار أن الأفراد الذين يمثّلون ركن الشعب لمسمى هذه الدولة لم يكونوا متواجدين على رُقعة جغرافية واحدة تمثل ركن الإقليم تجمعهم روابطُ محدّدة ومصالحُ مشتركة.

 

مُسَمَّى دولة إسرائيل:

والواضح والمعلوم أن شعب (مسمى دولة إسرائيل) قد تم جلبه لاحقًا من عدد من دول العالم، عقب الإعلان من جهات خارجية عن نَشْــأَةِ هذه الدولة، ولا تربطهم أيةُ روابط أَو تجمعهم مصالح مشتركة قائمة فعلًا في الواقع، وسابقة لإعلان نشأة الدولة؛ فالدولة كما ذكرنا آنفًا تنشأ بشكل تلقائي بمُجَـرّد تبلور أركانها الثلاثة:- الشعب والإقليم والسلطة السياسية، أما في حالة (مسمى دولة إسرائيل) فقد أوجدت القوى الاستعمارية السلطة أولًا والتي يأتي ترتيبها في الوضع الطبيعي لنشأة الدول في المرحلة الأخيرة، وبعد صناعة القوى الاستعمارية لركن السلطة السياسية أوجدت الإقليم، الذي يمثّل الركن الثاني من أركان الدولة، وذلك باقتطاعها لأرض فلسطين العربية، ثم عملت القوى الاستعمارية الغربية على جلب شعب هذه الدولة من أصقاع الأرض، والذي يمثل الركن الأول، وهذا الترتيب الذي أتت به القوى الاستعمارية الغربية مخالفٌ ومختلفٌ تماماً عن ترتيب أركان الدولة في حالة النشأة الطبيعية للدول والتي تنشأ وتكون أمر واقع بتبلور أركانها دونما تدخل خارجي، ووفقًا لهذا الترتيب المقلوب أَو المعكوس لإنشاء القوى الاستعمارية الغربية لمسمى (دولة إسرائيل) فقد نشأ مسمى هذه الدولة بشكل غير طبيعي، وبفعل تدخل خارجي حين استخدمت الدولُ الاستعمارية الغربية منظمةَ الأمم المتحدة، التي أصدرت جمعيتها العامة قرارَها رقم (181) لسنة 1947م الذي قضى دون وجه حقٍّ بتقسيم أرض فلسطين العربية إلى قسمَينِ:- قسمٍ يُقام عليه مسمى (دولة إسرائيل) وقسمٍ تقام عليه دولة عربية فلسطينية، وفي وقت متزامن.

ومنذ قرار التقسيم المشؤوم وإلى اليوم لم تنشأ دولةٌ فلسطينية كما نص على ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولو كان هذا القرار موضوعيًّا وله ما يبرّره من الواقع والقانون لنشأتِ الدولة الفلسطينية، وتعثرت الدولة الصهيونية، أَو نشأت الدولة الفلسطينية أولًا؛ باعتبَار أن شعبها الذي يمثل الركن الأول للدولة هو الذي يحوز الأرض ويرتبط بها، ولنشأتِ الدولة الصهيونية لاحقًا؛ ولكي لا يُفهم أن هذا الاستخلاص ينطوي على نوع من التعصب للذات، فالحد الأدنى الذي يمكن أن يمثل شيئًا من موضوعية قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، هو وعلى أقل تقدير أن تنشأ الدولتان معًا في وقت متزامن كما ورد في نص القرار؛ لكن ولأن هذا القرار لم تكن غايته إنشاء دولة حقيقية، رغم أن الدولَ لا تنشأ بقرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة! بل إن غاية القرار إنشاء كيان وظيفي يخدم أهداف القوى الاستعمارية الغربية ويرعى مصالحها غير المشروعة في المنطقة؛ ولأنَّ الأمر كذلك لم تسمح هذه القوى بإنشاء دولة فلسطينية إلى جانب كيانها الوظيفي المسمى (دولة إسرائيل)؛ فقد اعتمدت هذه القوى الإجرامية سياسة التهجير القسري والإبادة الجماعية لسكان فلسطين العربية، لتستحوذ من خلال كيانها الوظيفي على كامل النطاق الجغرافي لفلسطين العربية، وليمثل هذا النطاق قاعدة انطلاق لهذه القوى لالتهام المزيد من الأراضي العربية المجاورة، وهذا ما هو مشاهَدٌ اليوم وملموسٌ على أرض الواقع!

 

تواجُـــدٌ غيرُ مشروع:

ورغم ذلك لم تتمكّن القوى الاستعماريةُ الغربية -على مدى ما يقرب من ثمانية عقود من الزمن- من القضاء على السكان الأصليين أَو تهجيرهم قسريًّا؛ بسَببِ قوة تمسكهم بأرضهم ودفاعهم عنها وإصرارهم على البقاء فيها، وقد عملت هذه القوى على مدى العقود الماضية على استكمال سيطرتها على الأرض العربية لصالح كيانها الوظيفي المسمى (دولة إسرائيل)؛ ولأجل ذلك ارتكبت جرائم إبادة جماعية، آخرها جريمة غزة وامتداداتها إلى الضفة الغربية والضاحية الجنوبية في العاصمة اللبنانية بيروت؛ رَدًّا على إصرار أبناء الشعب الفلسطيني على الاستمرار في مواجهة الاحتلال الصهيوغربي؛ والأمر الواقع الذي فرضته القوى الاستعمارية، ولو كان مسمى (إسرائيل) دولة حقيقية قائمة بذاتها لها استقلالها عن القوى الغربية، لما هرعت هذه القوى إلى المنطقة لمُجَـرّد عملية من جانب المقاومة الإسلامية الفلسطينية في 7 أُكتوبر الماضي؛ لتعلنَ في الظاهر وقوفَها ودعمَها وإسنادَها والتزامَها المطلَقَ بأمن كيانها الوظيفي المسمى دولة “إسرائيل”!

فتلك العمليةُ -مهما كان حجمُها وأثرُها- لم تكن لتبرّر ذلك التواجد العسكري المهول للقوى الاستعمارية الغربية شرق البحر المتوسط، ليشمل لاحقًا نطاقًا أوسَعَ من جغرافية المنطقة عُمُـومًا، ولم تكن تلك العملية لتبرّر كُـلّ ذلك الاستنفار، فمسمى دولة “إسرائيل” لم تتعرض لهجوم مباغت من جانب تحالف إقليمي في المنطقة لتهب القوى الاستعمارية لنجدتها! ولم تتعرض كذلك لهجوم عسكري من جانب دولة لها وزنها في المنطقة! كُلُّ ما تعرضت له كان عبارة عن عملية من عمليات المقاومة الشعبيّة الفلسطينية، والتي تندرج ضمن حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بكافة الوسائل المتاحة، ولو أن هجومًا كاسحًا من جانب دولة أَو عدد من دول المنطقة قد تم فعلًا فكيف سيكون موقفُ القوى الاستعمارية الغربية، وكيف سيكون حجم القوة العسكرية التي ستحشدُها إلى المنطقة؟!

إن التواجُدَ العسكري للقوى الاستعمارية الغربية بتلك الصورة غير المبرّرة، يؤكّـد أن مسمى (إسرائيل) ليس دولة حقيقية، وإنما كيان وظيفي، وهذا الكيان فرعٌ وأصلُه القوى الاستعمارية الغربية، وهو جزء لا يتجزأ من هذه القوى، ولو لم يكن الأمر كذلك لما تواجدت كُـلّ تلك القوات العسكرية لمُجَـرّد عملية من عمليات مقاومة الاحتلال، وهذه العملية أَو مثلها في العلاقات الدولية قد لا تؤدي إلى نزاع مسلح ويمكن معالجة آثارها بالطرق الدبلوماسية! ولو أن مسمى (دولة إسرائيل) يمثل دولة حقيقيةً لواجهت عملية (طُـوفَان الأقصى) بمفردها، بل لواجهت ما هو أكبر منها من عمليات مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال، ودونما حاجة لذلك التحشيد والاستنفار من جانب القوى الاستعمارية الغربية، لمواجهة منفذي عملية (طُـوفَان الأقصى)، لكن مقتضيات انكشاف هذه القوى على ما يبدو تتطلب ذلك؛ بسَببِ خشيتها من انهيار كيانها الوظيفي وفقدانها من ثَم لنفوذها وسطوتها وسيطرتها على المنطقة، خُصُوصاً في ظل التنافس المحموم روسيًّا وصينيًّا.

 

انكشافٌ وانفضاح:

ورغمَ الانكشاف والانفضاح الكبير للقوى الاستعمارية الغربية إلا أن ذلك لم تترتب عليه ردة فعل من جانب شعوب المنطقة العربية، ويرجع السببُ في ذلك إلى وجود أنظمة عربية وظيفية أنشأتها أَو رعتها القوى الاستعمارية الغربية، وهذه الأنظمة وإن كانت تحمل مسميات دول على نطاقات جغرافية مختلفة من حَيثُ حجمها وعدد سكانها، كما هو الحال بالنسبة للمملكة العربية السعوديّة، ومملكة البحرين والمملكة الأردنية الهاشمية، ودولة الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر، إلا أن هذه المسميات جميعها لا تمثل دولًا حقيقية بحال من الأحوال، ولا تعدو عن كونها كياناتٍ وظيفيةً تعمل بإخلاص لخدمة أهداف القوى الاستعمارية الغربية، ولو كانت هذه المسميات دولًا مستقلة ذات سيادة لكان لكُلٍّ منها موقف واضح من أفعال جرائم الإبادة التي اقترفتها ولا تزال تقترفها القوى الاستعمارية الصهيوغربية بحق أبناء الشعبَينِ الفلسطيني واللبناني!

ولم تتأثر كذلك القوى الاستعماريةُ الغربية سلبًا بحالة الانكشاف، ولم يترتب على هذه الحالة موقف شعبي من جانب شعوب الدول العربية الأُخرى المتمثلة في مصر والمغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان؛ بسَببِ احتواء القوى الاستعمارية لبعضِ هذه الدول كما الحال بالنسبة لمصر والمغرب؛ فالنظام الحاكم في هذه الدول يعمل كُـلٌّ منهما لخدمة هذه القوى، وضمن الخدمات التي تقدمها لها هذه الأنظمة صرفُ شعوبها عن الاهتمام بالقضايا المصيرية، وكذلك الحال بالنسبة لشعوب الدول الأُخرى؛ فبعضها مكبَّلٌ اقتصاديًّا كما هو الحال بالنسبة للجزائر وتونس، وبعضها مدمّـر ومنشغلٌ بالصراع الداخلي كما هو الحال بالنسبة، للسودان وليبيا، وهذه الدول، المحتواة أَو المكبَّلة أَو المدمّـرة جميعاً استقلالُها منقوصٌ وسيادتها مرهونة، ولا يمكنها بحال من الأحوال أن تتخذ موقفًا واضحًا ومحدّدًا رغم الانكشاف غير المسبوق للقوى الاستعمارية الغربية! وهو ما يعني أنه لم يتبقَّ في مواجهة هذه القوى سوى أجزاء من دول عربية في اليمن ولبنان والعراق بدعم وإسناد من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي وجّهت مؤخّراً ضربة صاروخية غير مسبوقة شملت جميع النطاق الجغرافي المحتلّ المسمى (دولة إسرائيل)؛ وذلك رَدًّا منها على اغتيال رئيس حركة حماس، إسماعيل هنية في العاصمة طهران، واغتيال أمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية.

وقد أدانت ذلك الهجومَ الصاروخي القوى الاستعمارية الغربية وعلى رأسها رأس الشر والشيطان الأكبر الإدارة الأمريكية، التي أعلنت أن قواتها تصدت بفاعلية للصواريخ الإيرانية وذات الموقف أعلنته كُـلٌّ من بريطانيا وفرنسا؛ وهو ما يؤكّـدُ أن الضربة الصاروخية الإيرانية كانت موجَّهةً حقيقةً إلى هذه القوى الاستعمارية، وإن اقتصر نطاقُها الجغرافي على الكيان الوظيفي لهذه القوى المسمى دولة “إسرائيل” إلا أن الأثرَ والألمَ مَسَّ بشكل مباشر تلك القوى الإجراميةَ مجتمعةً، وهي الآن مرتبِكةٌ تفكِّرُ مليًّا في رد يحفظ لها هيبتها ويرمِّمُ صورتَها التي هشَّمتها صواريخُ الجمهورية الإسلامية، ومع ذلك فالقوى الاستعمارية الغربية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية تجيدُ لعبَ أدوار تمثيلية متعددة، فهذه الإدارة رغم ألمها الشديد من شدة الضربة إلا أنها تتقمَّصُ دور الناصح لكيانها الوظيفي وتزعُمُ نصيحتَها له بعدم استهداف المنشآت الحيوية الحساسة؛ فقط لإدراكها أن رد فعل الجمهورية الإسلامية ومعها محور المقاومة سيدمّـر قواعدها العسكرية المنتشرة في المنطقة ومصالحها غير المشروعة، ولو لم تكن تدرك ذلك فَــإنَّها لن تتردّد أبدًا في محو محور المقاومة من على وجه الأرض، والإدارة الأمريكية وغيرها من القوى الاستعمارية الغربية تدرك تماماً أن إصابة كيانها الوظيفي المسمى دولة “إسرائيل” تمثل إصابةً مباشرةً لها وإن أبدت غير ذلك فَــإنَّه يندرج ضمن مواقف الخداع والكذب والزيف والتضليل.

والواضحُ تماماً أن مشروعَ القوى الاستعمارية الغربية الذي فشلت في تنفيذِه مراتٍ متعددةً؛ بفعل أداء المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان المسنودة بمحور المقاومة، والمسمى بالشرق الأوسط الجديد هو مشروع كارثي على الشعوب العربية بكل معنى الكلمة، وليس أمام هذه الشعوب إلا المبادرةُ والانضمامُ إلى محور المقاومة قبل فوات الأوان.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com