استراتيجيةُ الشرق الجديد
عبدالرحمن مراد
منذ بدأت فكرة ثورات الربيع العربي والاضطرابات في خارطة المنطقة العربية والكثير من الكتاب يحذرون من فكرة تقسيم الخارطة العربية على أسس ثقافية وعرقية وطائفية، ولكن الشارع العربي وجد نفسه في حالة تماه مع الخطط دون وعي أَو إدراك لما يخطط له اليهود والصهيونية العالمية للعرب وللمسلمين، كانوا في وهم الثورات التي سوف تنقلهم إلى العيش الرغيد والمجتمع المثالي، لكنهم وجدوا أنفسهم في قلق واضطراب وحالة من عدم الاستقرار وفقدوا بُوصلة الحياة ليجدوا أنفسهم أمام واقع جديد انهارت فيه منظومة القيم وسقط على إثره النظام العام والطبيعي وأصبحت الحياة غابة من الوحوش التي تأكل بعضها وتقتل بعضها وتعيث في الأرض فساداً.
اليوم وبكل وضوح وشفافية الإعلام الإسرائيلي الناطق بالعربية يتحدث عن فكرة الشرق الجديد الذي طالما كتبنا عنه، وقلنا إن حركة الاضطرابات في المنطقة العربية تهدف إلى تمزيق الأُمَّــة على أسس طائفية وعرقية وثقافية، وبحيث تصبح هناك دولة للعرقيات المختلفة كالكردية، ودولة لليهود، ودولة للمسيحية، ودول تقوم على بعد طائفي، فالمناطق السنية قد تتحد في إطار دول، والشيعية قد تصبح دولاً، وهذه الدول قد تتنازع النفوذ فتصل إلى مرحلة الفشل، وهو الأمر الذي يترك مساحات من التصدع يتحَرّك فيها المستعمر حتى يفرض ثنائية الهيمنة والخضوع على الأنظمة التي سوف تحكم.
في مقابل كُـلّ ذلك ستكون هناك نماذج للمدن المثالية والحضارية كنموذج نيوم ونموذج مدينة النور في خارطة الجزيرة العربية، ومدينة رأس الحكمة في مصرفي إفريقيا، وهو مثال حضاري يجعل الجموع تتطلع إليه بعد أن يتم القضاء على التطبيقات الاجتماعية، وهدم قيم المجتمع حتى يصل المجتمع العربي إلى مرحلة مجتمع ما بعد الحداثة، وهذا المجتمع سبق لنا بيان أبعاده في مقالات سابقة ولا ضير من التذكير بها هنا حتى نعي أبعاد المستقبل الذي يراد لنا الوصول إليه.
فمجتمع ما بعد الحداثة يسعى للوصول المطلق إلى:
رفض اليقين المعرفي المُطلق، ورفض المنطق التقليدي الذي يقوم على تطابق الدال والمدلول؛ أي تطابُق الأشياء والكلمات.
ورفض الحتمية الطبيعية والتاريخية التي كانت سائدةً في مرحلة الحداثة، ولا سيّما مفهوم التطوُّر الخطي.
ومناهضة كُـلّ أشكال السلطة، سواء في الخطاب أَو في السياسة أَو في الفن.
ويرى إعادة توطين رأس المال وسرعة حركته، هو سبب نتيجته زعزعة الرموز الثقافية وافتقادها القدرة على تقديم المعنى، كما ذهب إلى أن هيمنة التكنولوجيا في عملية الإنتاج، وهو مُتغيِّر مستقل، يؤثِّر على مُتغير تابع هو (عدم ثبات الذات وتشظيها وتفكُّكها).
وباختصار يمكن النظر إلى ما بعد الحداثة على أنها الثقافة التي تَجتهد في البحث عن السلطة في كُـلّ شيء كي تهدمها؛ سلطة التاريخ، السلطة السياسية، سلطة الخطاب، سلطة المجتمع والأسرة، سلطة العقل والحقيقة والميتافيزيقا، سلطة الشمولية والكلية، سلطة الإعلام والصورة والفن.
وسياسة هدم التطبيقات الإسلامية للمجتمعات العربية وتفكيك القناعات وإفساد الأجيال، سياسة تضمنتها استراتيجية راند لعام 2007م والتي بدأ الاشتغال عليها منذ تفجرت أحداث الربيع العربي، وهي اليوم في مراحل بلوغ الغايات منها، بعد أن تم للغرب هدم النظام العام والطبيعي واستطاع تعويم المصطلحات والمفاهيم وعمل على تسطيح وعي الناشئة من خلال سياسات تطبيقات التواصل الاجتماعي التي تروج لكل ما هو سطحي وهامشي ومبتذل، ونحن نلاحظ ذلك من خلال القيمة التفاعلية لها والعائد المادي لبعضها.
بلغ المستعمر غاياته ووصل إلى مراحل متقدمة، ونحن كأمة ننساق وراء الأشياء دون وعي، ودون إدراك لما يحدث، أَو قراءة للأثر المترتب على التفاعلات، ولم نستبين الرشد إلى يومنا المشهود، وهو يوم يشهد كُـلّ التفاعلات الثقافية التي تستهدف القيم وتقاليد المجتمعات الإسلامية وتطبيقاتها، فالمرأة المحافظة بدأت تخرج في بث مباشر على منصات التواصل الاجتماعي كي تتحدث عن تجاربها المخلة بالشرف ومغامراتها العاطفية في سابقة لم تكن معهودة في كثير من المجتمعات العربية.
ما يحدث في مجتمعاتنا العربية منذ بداية الألفية إلى اليوم ليست حرباً على الإرهاب ولا اضطرابات اجتماعية ولا ثورات حقيقية، بل قلاقل وفتن تهدف إلى هدم التطبيقات الدينية لدى الشباب المسلم حتى لا يكون ارتباطه بالدين وبتراثه الثقافي والقيمي ارتباطاً متيناً، بل يكون ارتباطاً هشاً وسطحيًّا حتى يسهل على العدوّ التغلغل إلى البناءات الثقافية فيحدث فيها تبدلاً وتغيراً ويمكن قياس ذلك على حركة التطبيع مع الكيان الصهيوني وننظر إلى الجدل الفكري حول هذه الفكرة في منصات التواصل الاجتماعي.
فالمال الذي ينفق على المهرجين وأصحاب قنوات الفول والطعمية والأكلات الشعبيّة والعادات والتقاليد في منصات التواصل الاجتماعي ليس مالاً مستحقاً لا صحابه، بل هو مال يعرف ماذا يريد من الأُمَّــة العربية والإسلامية، بدليل أن ذلك المال لا يمكن أن يصل إلى المثقف الملتزم أَو المثقف صاحب الرؤية والفكر الإنساني النبيل، ولذلك قد تجد عشرات القنوات لناشطين عرب تروج لشهوات البطن والفرج ويتنافسون على ذلك، وبمثل تلك الآلية استطاعوا حرف مسار الشباب وتركيز اهتمامه حول أشياء بعينها؛ لأَنَّها أكثر حضوراً وفاعلية وأكثر ربحاً وكسباً ماديًّا يعين على أسباب الوجود.
نحن اليوم نواجه عدواً في مستويات متعددة والحرب الثقافية هي الأشد فتكاً لو كنا نعقل.