بعدَ عام من ثورة الطوفان.. كيف سقط “شمشون” العصر في فَخِّ سلفه الأُسطوري؟
إبراهيم محمد الهمداني
مما لا شك فيه أن توقيتَ عملية (طُوفَان الأقصى)، كان ذا أهميّة بالغة، وحساسية كبيرة جِـدًّا؛ لأَنَّها عكست حالة متقدمة جِـدًّا، من التفوق الاستراتيجي والاستخباري والعسكري، وأرست معادلةً جديدةً، غير مسبوقة في الصراع، ومواجهة العدوّ الإسرائيلي الغاصب، وعلاوة على ذلك؛ فقد كان عامل السبق الزمني – واستراتيجية المبادرة والمباغتة – أحد أهم أسباب نجاحها، وتحقّق انتصارها وبقائها واستمرارها، بهذا العنفوان والقوة والقدرة والمرونة، حتى أصبحت عصيةً على الاجتثاث والمحو، وقد اجتمعت عليها أعتى القوى الاستعمارية العالمية، بكل إمْكَاناتها الوحشية والتدميرية والإجرامية، على مدى عام كامل، لتغرق – ومعها ربيبتها “إسرائيل” – في رمال غزة، تطوقها أغلال هزيمتها الأبدية.
قبل عملية (طُوفَان الأقصى)، كانت القوى الاستعمارية العالمية، قد منحت الكيان الإسرائيلي الغاصب، دور البطولة، في مسرحية صناعة الشرق الأوسط الجديد، وكان المخرج الأمريكي، يلقِّنُ “البطل اليهودي”، الكلمات الأخيرة في خطاب النصر، ويضع اللمسات الفنية الأخيرة، على إطلالة نتنياهو “شمشون العصر”، الذي فضَّلَ ممارسة الانتقام والتدمير والقتل والإبادة الجماعية، على طريقة مُخَلِّص “إسرائيل”، البطل “شمشون” اليهودي الأُسطوري، الذي احتفت أسفار التوراة، بتخليد أُسطورته، بوصفه بطلا من أبطال الخلاص اليهودي.
إن أهميّةَ وخطورةَ مشروع إبادة ومحو المقاومة، في أبعادها الثلاثة (الزمان والمكان والإنسان)، تحتم على القوى الاستعمارية الكبرى، اختيار بطلها (الإسرائيلي/ اليهودي) حامل المشروع، بعناية فائقة، وفق أعلى المواصفات والمعايير، لتصبح شخصية رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي – بنيامين نتنياهو – المرشح الأول، لتنفيذ هذا المشروع الإمبريالي، التسلطي الإحلالي الغاصب؛ فعلاوةً على ما تمتلكه هذه الشخصية، من رصيد إجرامي توحشي وتدميري استعماري سابق، فَــإنَّ نزعتها العنصرية العدائية، وتوقها لممارسة العنف والتوحش، على طريقة المخلص المتعالي، أوضحَ وأكبرَ من أن تستر قُبحَها، شعارات إنسانية مزعومة، أَو تفوق حضاري زائف.
ولأن الموهبةَ وحدَها لا تكفي – كما يقال – فقد رأت القوى الاستعماريةُ، أن تلك المؤهلاتِ والخبراتِ الإجراميةَ لم تكن مقنعةً لتحقيق التفرد، ولا كافية للقيام بالدور المستقبلي، الذي يتطلب شخصية يهودية فارقة، هي شخصية “اليهودي الجريء”، الذي يمتلك الجرأة للتنكيل بأعدائه، دون أن يرف له جفن، والقدرة على قتل عشرات الآلاف منهم، بضربة واحدة، والشجاعة على مواجهتهم وحيدًا أعزلَ، دون أدنى تهيب أَو خوف، غير أن “اليهودي الجريء”، المتباهي بقوته الإلهية، قد سقط في عقوبة التيه، ولعنة الخِــذلان والضلال، وأغلال الذلة والمسكنة والغضب، والاحتقار والمسخ إلى قردة وخنازير؛ ولذلك كانت محاولات استعادة اليهودي الجريء، من أعماق هذا الكم الهائل، من مستنقعات الانحطاط، والعار والذل والقبح والجبن، ومساوئ الأخلاق، بمثابة الإنجاز الخارق للعادة؛ لأَنَّ الوضعية العامة لليهود، كانت هي الضعة والذل والاحتقار دائمًا، ولإخراجها من تلك الوضعية المنحطة، يجب مراعاة أمرَينِ:-
الأول: تحفيز خبث وعنصرية وعدوانية وإجرام النفس اليهودية، وشحنها إلى أقصى درجات الغيظ والحقد.
والثاني: تمكين تلك النفس سلطويًّا، ودعمها وإسنادها بالقوة العسكرية اللازمة.
ذلك ما فعلته الماسونيةُ العالمية – بواسطة قوى الاستكبار العالمي – في عملية إعادة بناء شخصية نتنياهو، وإخراج اليهودي الجريء/ شمشون العصر من داخله، وهو ما وافق هوى في أعماقه، وهو المفتون بحكايات ونبوءات الخلاص، في الموروث الديني والتاريخي اليهودي، المشغوف بأُسطورة المخلص شمشون، الغارق في تفاصيل شخصية البطل اليهودي، المتشبع بكل كلمة في سردية الخلاص، منطلقا من محاكاة شخصية شمشون الأُسطوري، إلى تقليد سلوكياتها وتصرفاتها وحضورها وسكناتها وحركاتها، تقليدًا حرفيًّا مرائيًا، حتى وصل به الأمر، إلى تسمية نفسه “مخلص اليهود”، و”مخلص إسرائيل”، و”شمشون العصر”، معلنًا خروج “اليهودي الجريء”؛ ليلعب دورَ الخَلاص المزعوم، على طريقة سلفه القاتل المثالي، شمشون اليهودي، وبينما كان نتنياهو يتهيأ للقيام بذلك الدور القيادي التسلطي، حَيثُ يقضي على جميع أعدائه، في عملية خاطفة قاتلة، ويضع بقية شعوب العالم، بين قوسي خضوع مهين، وخيار تبعية مذلة، وبينما كان يتهيأ للظهور، على مسرح الأحداث السياسية الإقليمية – بعد نجاحه في تجارب الأداء خلف الكواليس – متباهيًا بقوته العسكرية والتكنولوجية، وإسناد رعاته في الغرب الاستعماري، جاءت عملية السابع من أُكتوبر 2023م، متقدمة عليه خطوات كبيرة، من الجرأة والشجاعة والتخطيط والإنجاز، وصعدت فصائل الجهاد والمقاومة الفلسطينية، على مسرح الأحداث الإقليمية والعالمية، الذي كان مهيًا لشمشون العصر، وقد تلقى صفعات مدوية، بكفي المقاومة الباسلة، من خلف الستار؛ ليسقط مبهوتًا، غير قادر على استيعابِ حقيقة ما يحدث، وقد تبعثرت على لسانه بقايا حوار متهالك، من مسرحية خلاص مزعوم، تعفنت خلف سردها، أوهام قوة بطل أُسطوري، عجز الخيال اليهودي، عن تجميل قبح نهايته المأساوية، ودوزنة ألحان قوته المتنافرة، وتشذيب نشاز أغاني جرائمه، التي صيغت لإشباع نزعة الحقد والعداء والانتقام اليهودي، ليس إلا.
ربما استطاع شمشونُ العصر، ممارسةَ الانتقام والتدمير والقتل والإبادة، لفترة زمنية ما، خَاصَّةً في ظل الإسناد والشراكة الأمريكية الغربية، لكنه لن يستطيعَ – بعد الآن – القضاءَ على أعدائه بضربة واحدة، ولا وضع العالم، بين قوسَي خضوع قهري وخط تبعية مذلة، ولا إزاحة السابع من أُكتوبر، من مسرد التاريخ الإنساني، ولا محو بطولات قادة وأبطال فصائل ومحور الجهاد والمقاومة، بعمليات اغتيالات متوحشة دنيئة، ولن يجني من توسيع جغرافيا المعركة، غير المزيد من الهزائم النكراء؛ لأَنَّ ثورة الطوفان، لن تخمدها مجازر العدوان، وعلى الكيان الإسرائيلي الوظيفي – ومن خلفه الغرب الاستعماري – أن يعيَ جيِّدًا، أن الجهاد والمقاومة عقيدة إيمانية متأصلة، ومشروع نهضوي تتوارثه الأجيال، ومن المُحَالِ أن تهزمَه أعتى القوى، أَو تجتثه أشدُّ الصواريخ والقنابل فتكًا وتدميرًا، بينما وجود هذا الكيان الوظيفي الإجرامي وحلفائه، وجود مؤقت، وزواله أمرٌ حتمي، آتٍ لا مَحالة.