استهدافُ البرنامج النووي الإيراني.. عُقدةُ أمريكا الطويلة
المسيرة – إبراهيم العنسي:
منذ 45 عامًا تجدُ الولاياتُ المتحدة نفسَها أمام معضلة التعامل مع إيران التي شكَّلت تاريخًا مربكًا للأمريكيين ومصالحِهم في المنطقة.
كانت تقديرات الاستخبارات الأمريكية بشأن إيران منذ عام 2007، أنه من المرجَّح أن تحصلَ طهران على قدرات تصنيع أسلحة نووية خلال العقد الثاني.
وفي ظل هذه التقديرات، خرجت دراسة لمعهد بروكينغز 2009م، بتوصيات عن كيفية المحافظة على المصالح الأمريكية في مواجهة إيران، وعرضت ما يقارب 9 سيناريوهات، أربعة منها هي الأكثر واقعية مع صعوبات تواجهها، تتضمن توجيه ضربات أمريكية مباشرة للبنية التحتية النووية، أَو تقديم كُـلّ مساعدة ممكنة لـ “إسرائيل” للقيام بالهجمات، أَو غزو إيران، واحتلال طهران وتغيير النظام، أَو المساعدة على وقوع انقلاب عسكري داخل الجيش الإيراني.
ومقابل هذه السيناريوهات المثيرة، فَــإنَّها تكشف حجم الصعوبات التي تواجه هذه السيناريوهات؛ فمن شأن الغزو البري، وهذا مستبعَد أكثر من أي وقت مضى، خَاصَّة أن أمريكا قد تعرضت لهزائمَ مدوية في أفغانستان والعراق، ومؤخّرًا هزيمة بحرية كبيرة لم تنل الزخم الإعلامي المطلوب في اليمن، جعلت من حاملات طائراتها موضع سخرية، وهي رمز القوة الأمريكية، ومن شأن الغزو البري أن يكبد واشنطن تكاليف باهظة لم تعد قادرة على تحمُّلها، كما أن إيران لم تعد إيران القرن الماضي عسكريًّا.
أما الضربة الجوية الأمريكية المباشرة فَــإنَّها بالتأكيد لن تلغي برنامج إيران النووي، بل ستؤخره في أفضل الأحوال لمدة لا تزيد على عام أَو عامين مع ما يمكن أن يشعل المنطقة برد إيراني كبير؛ أخذاً بتهديدات طهران الأخيرة بتدمير “إسرائيل” في حال اعتدى جنرالات العدوّ الإسرائيلي مجدداً عقبَ الرد الإيراني المشروع -حسب القانون الدولي- على استهداف هنية بعملية الوعد الصادق 2.
وفي حالة الهجوم الإسرائيلي على منشآت إيران النووية؛ فالمؤكّـد أنه سينطوي على مخاطر على “إسرائيل” والمصالح الأمريكية، حَيثُ لا تبدو واشنطن مستعدة للدخول في غمار حرب واسعة تحرف تركيزها عن تحَرّكات الصين حول تايوان، كما حصل مؤخّرًا، مع فرص نجاح أقل بالنظر إلى متطلبات الضربة من طائرات “بي 2 سيبريت” وقنابل POM لاختراق التحصينات الأكثر عمقًا، والتي تمتلكها أمريكا فقط وليست بحوزة “إسرائيل” حتى اليوم، فضلًا عن تعقيدات أُخرى للهجوم تفوق إمْكَانيات وقدرات “إسرائيل”.
استهدافٌ ثمنُه امتلاكُ سلاح نووي:
ومع استبعاد وليام بيرنز -رئيس جهاز الاستخبارات الأمريكية السي آي أيه- احتمال تراجع المرشد الإيراني عن قراره بشأن تعليق برنامج التسلح النووي، فَــإنَّ هذا قد يتضمن رسالةً للجهات الغربية بأن أية مغامرة فاشلة باستهداف المنشآت النووية الإيرانية قد تساوي التراجُعَ نهائيًّا عن الفتوى الدينية، وكما قال بيرنز سيكون بين إيران وصُنع قنبلة نووية أسبوعٌ واحد.
هذا ما يدفع إلى التهدئة مع إيران حول برنامجها، وحتى فيما يتعلق بأي عدوان صهيوني محتمل على طهران، والذي لا يجب أن يستفز قادة إيران كَثيرًا؛ فإلى اليوم تعتقد وكالات الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية أن المرشد الأعلى في إيران علي الخامنئي امتنع عن الموافقة الصريحة والرسمية على مواصلة الأنشطة التي تقود لامتلاك سلاح نووي.
ومع انعقاد المجموعة الاستشارية الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية (إس سي جي) لمناقشة البرنامج النووي الإيراني والذي جاء نتيجة إلحاح إسرائيلي 2023م، وعُقد في غرفة العمليات في البيت الأبيض، وكان أول نقاش على مستوى عالٍ، ومعمق بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” حول البرنامج النووي الإيراني منذ مارس/آذار عام 2023، خلص إلى أن وكالات الاستخبارات في أمريكا و”إسرائيل” كانت متوافقة في تقييماتها بشأن حالة البرنامج النووي الإيراني، وأن الكثير من القلق بشأن الأنشطة المفترضة لإيران قد زال منذ ذلك الحين.
في الـ 2 من أُكتوبر الجاري نُقل عن الرئيس الأمريكي جو بايدن، أنه لن يدعم هجومًا إسرائيليًّا على المواقع النووية الإيرانية.
وضمن حملته الانتخابية تحدث ترامب الرئيس الأمريكي السابق ومرشح الرئاسة الحالي، أنه سيجري محادثات مع إيران تقود إلى توقيع اتّفاق نووي خلال أسبوع.
ترامب هذا هو من ألغى الاتّفاق النووي مع إيران العام 2018م، لكنه اليوم يرى أنه مهمٌّ لضمانِ عدم امتلاك إيران لسلاح نووي.
تحصينات النووي الإيراني:
قبل إنشاء إيران لمنشآتها النووية أخذت أسوأ السيناريوهات بعين الاعتبار عند بناء وتحصين تلك المنشآت تحت الجبال، وبعدة طبقات من الخرسانة المسلحة، إلى جانب أنها وضعت مضاداتٍ جويةً مختلفةً حول المفاعلات التي حرصت على إنشائها وسط البلاد لتتمكّن من اصطياد الأجسام المهاجمة قبل الوصول إليه.
وتؤكّـد أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية أن إيران أقامت العديد من المنشآت النووية المحصَّنة بشكل محكم جِـدًّا في باطن الأرض، وفي مناطق “متباعدة” وبشكل “مضلل”؛ مما يجعل من المستحيل على سلاح الجو الإسرائيلي أَو الأمريكي ضرب جميع هذه المنشآت النووية.
إلى جانب أن هناك صعوبةً في حصول الأجهزة الاستخباراتية على معلومات دقيقة عن المنشآت ذات الثقل الرئيسي في البرنامج النووي الإيراني.
على العموم لن يتمكّن الغرب ببساطة من حَـلّ مشكلة إيران النووية؛ لأَنَّ أجهزةَ الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم موجودة في أعماق الكهوف في المناطق الجبلية، وسيتعين على “إسرائيل” غزو إيران لضمان عدم حصول الإيرانيين على أسلحة نووية أبدًا.
ولا تملك “إسرائيل” القدرة على القيام بذلك من دون مساعدة الولايات المتحدة، لكن إيران ليست العراق في زمن صدّام حسين، وقد فقدت الولايات المتحدة قوتها السابقة.
وفي هذا السياق تتفق جملة آراء المحللين للبرنامج النووي الإيراني أن بإمْكَان “إسرائيل” إلحاق الضرر دون مساعدة الولايات المتحدة، لكنها لن تكون قادرة على تأخير البرنامج النووي جذريًّا بمفردها، فيما التداعيات ستكون كارثية على كيان العدوّ مع توعد إيران بـ “مسح” “إسرائيل” من على وجه الأرض.
ويمكن الاستشهاد بتصريحات لمسؤول إيراني سابق -أمين لجنة التطوير والتجهيز في الحرس الثوري الجنرال إبراهيم رستمي- حين قال بأن الرد الإيراني سيكون على مستوى التهديد لمنشآت إيران النووية، مع العلم أن هناك مناورات تمت وتحاكي ضرب مفاعل “ديمونا” الإسرائيلي، والأهم ما أشار إليه من أن إيران تمتلك أسلحة “أقوى من السلاح النووي” وأن ما يعرفه العالم عن قدرات طهران العسكرية إنما “يوازي قمة جبل الثلج”.
وفي ظل عدم وجود ضمانات لتدمير المشروع النووي الإيراني بالكامل، تجد الولايات المتحدة نفسها بعيدة عن هذه المغامرة، التي تمثل مصلحة إسرائيلية أكبر، مقارنة بأولويات مصالح أمريكا الاستراتيجية؛ إذ يظل تركيز واشنطن الأبرز نحو الصين كأولوية قصوى.
في الأيّام الماضية تقدمت الصين بنقلة أمام حرب الحلف الأمريكي عليها، حَيثُ أعلنت عن مناورة “السيف المشترك 2024” دون أن تعطيها موعدًا لاكتمالها في تطويق لتايوان عسكريًّا، شملت طائرات وسفن ودوريات الاستعداد للقتال البحري والجوي وحصار الموانئ، كما نشرت أربعة أساطيل لإجراء “عمليات تفتيش” في المياه المحيطة بتايوان، إضافة إلى مقاتلات وقاذفات وطائرات حربية أُخرى، وعدد من المدمّـرات.
هذه الخطوة جاءت على غفلة سريعة لواشنطن بانشغالها في المنطقة العربية.
وسرعان ما تحَرّك الأمريكان، فوصف البنتاغون الصين بأن مناوراتها العسكرية “السيف المشترك 2024 بي” بالقرب من تايوان “تزعزع الاستقرار” في المنطقة وتهدف إلى “ممارسة الضغط”.
واعتبر البنتاغون أن الصين “قرّرت اغتنام الفرصة للقيام بأعمال عسكرية استفزازية”.
هنا تدرك الولايات المتحدة أن انشغالها في الشرق الأوسط يمثّل فرصةً ذهبية لبكين لتحقيق قفزة وخلق أمر واقع في الجزيرة.
وإذا غرقت أمريكا في الشرق الأوسط، لن تكون لها فرصة بعد ذلك في إيقاف الصين، وهذا في صُلب الحسابات الأمريكية الاستراتيجية التي تشدّها إلى الخلف في مواجهة المحور؛ ما يعني أن إشعال فتيل حرب واسعة مع محور المقاومة سيكون كارثيًّا على المستوى الاستراتيجي، ولهذا تتراجع حظوظ “إسرائيل” في توسيع الرد على إيران بشكل كبير، فيما ستلجأ قيادة الكيان إلى خيارات أيًّا كانت تتجنب ردًّا إيرانيًّا أقسى من عملية الوعد الصادق الأخيرة.
في الختام بقي التذكير أنه في العام 2021 كان هناك حديث متداول يجمع فيه الخبراء على أن إيران اكتسبت بالفعل الخبرة والإمْكَانات اللازمة التي تخولها تصنيع الأسلحة النووية وأن إجراءَها لأول تفجير نووي مسألة وقت لا غير، حَيثُ قدَّرَ العلماء آنذاك أنه يلزم ما لا يقل عن 170 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 % لصنع قنبلة؛ مما يعني أن إيران امتلكت العام 2021م، ما يقارب من 70 % من الكتلة اللازمة لإنتاج هذا السلاح النووي، وقد لا يفصلها عن بلوغ هذا الهدف سوى بضعة أشهر.
كما أنها امتلكت -وفقًا لتقرير المعهد الأمريكي- ما يقارب 10 % من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 % اللازم لتفجير نووي وأنها تحتاج إلى حوالي سنة و4 أشهر لصُنع ما يكفي من اليورانيوم المخصَّب إلى هذا المستوى لصنع سلاحها النووي الأول.
ومع ما نقله الموقع الصيني على منصة “إكس” عقبَ عملية الوعد الصادق الثانية بأيام، حَيثُ تحدثت عن تسجيل زلزال لم يصاحبْه تسجيلُ هزات تردّدية.
وكما رصدت محطة زلزالية أرمينية، فلم تسجل هزات تردّدية كالتي تعقب الزلازل عادة، بل واحدة فقط، وهي تبدو أشبه بانفجار تحت الأرض.
لكن لم يسبق أن قام أحدٌ بإجراء تجارب نووية على هذا العُمق (10 كيلومترات)، فهذا مكلَّف، والعمق المعتاد هو 2400-3000 متر، إنما إذَا كانت المهمة هي إخفاء الإشعاع والآثار الأُخرى، فَــإنَّ العمق مناسب تمامًا.
هذا ما يثير تساؤلات حول توجّـه إيران لصنع سلاح نووي، خَاصَّةً بعد تصريحات متطرفي الكيان الإسرائيلي عن الحاجة لاستخدام قنبلة نووية في غزةَ بداية حرب غزة العام الماضي، ربما يكون هذا أحد أسباب تراجع كيان العدوّ عن استهداف منشآت إيران النووية والنفطية.