المقاومة.. خيارُ الشعوب الأسمى ومحورُ التأثير الأقوى
المسيرة| إبراهيم العنسي:
سياقٌ تاريخيٌّ يقودُ لتشكُّلِ المقاومات في كُـلّ زمان ومكان. على مَرِّ التاريخ لا تأتي المقاومةُ من فراعٍ ولا تنتهي إلى عدم، من اغتصاب الأرض الذي يفضي إلى ظلم المستبد، إلى اغتصاب الأرض، والسخرية من الحق في الحياة، والحق في امتلاك الأرض، وُصُـولًا إلى تجاوز الحد لكل مَـا هو على الأرض، كلها تقود إلى تشكل المقاومة بطابعها المتحدي.
في نقاشات مؤتمر بروكسل سنة 1874 ولاهاي سنة 1899 و1907 وجنيف سنة 1949 بشأن تحديد وتقنين قوانين الحرب، واعتبار المقاومة الشعبيّة نوعًا من الدفاع عن النفس في حالة تعرض الإقليم لغزو أجنبي ينتج عنه حق سكان الإقليم في الانتفاضة ضد العدوّ والغازي باستخدام القوة المسلحة.
هذا ما دفع الرأي العام العالمي للبحث في جذور العنف في فلسطين المحتلّة، حَيثُ تخلص الاستنتاجات أن سكان “إسرائيل” الغاصبة لم يكونوا إلَّا ضيوف فلسطين إبان محرقة النازية.
والحقيقة أن فسطين ليست كلمة من اختراع فتح الانتفاضة ولا حماس المقاومة ولا حركات الجهاد والجبهة الشعبيّة، لم تكن اختراعًا لكتائب الشهيد عز الدين القسام، أَو سرايا القدس، وألوية الناصر صلاح الدين، وكتائب أبو علي مصطفى، وكتائب المقاومة الوطنية، وكتائب شهداء الأقصى.. وهي كذلك لم تكن خَاصَّة بقادة أمثال أحمد الشقيري مؤسّس منظمة التحرير الفلسطينية أَو المناضل ياسر عرفات أبو عمار أَو الشيخ أحمد ياسين مؤسّس حركة حماس أَو فتحي الشقاقي حركة الجهاد وهلم جَرًّا في سلسلة تاريخ مقاومة وصلت إلى الشهيد المجاهد السنوار، وهي لا تنتهي، حَيثُ سمة المقاومة الغالبة أنها “فوق تاريخية، دائمةٌ باستمرار السبب”.
والحقيقة الغالبة أن ظهور مصطلح “فلسطين” للمرّة الأولى في القرن الخامس قبل الميلاد، عندما كتب المؤرّخ الإغريقيّ هيرودوتوس (Herdotus) عن منطقة في سوريا اسمها «فلسطين» (Palaistinê)، تقع بين فينيقيا ومصر، وهي أقدم من أسفار موسى الخمسة.
هذا اليوم ما يدفع رجل الشارع وبعض النخب في أمريكا وأُورُوبا للحديث عن الحق الفلسطيني ليس في المقاومة المشروعة التي تجيزها النصوص والقوانين الدولية بل الحق في بُعده التاريخي، حَيثُ تتزايد المطالبات برحيل المغتصِب الإسرائيلي عن الأرض الفلسطينية وعودة الحق لأصحابه بعد أن تجلت سرديات الواقع ما بعد (طُـوفَان الأقصى) عن حقائق كانت غائبة عن شعوب العالم خَاصَّة شعوب الغرب.
في حديث الساسة اليوم، هناك استغراب وتساؤل عن آخر صورة لاستشهاد القائد السنوار، كيف أخذ موته شكل النصر، وقد صار إلى تلك الصورة، ليصبح أيقونة عالمية تجاوزت حماس والداخل الفلسطيني؛ فعبرت حدود العالم تاركةً تأثيرًا عالميًّا واسعًا وغير مسبوق؟ لم تعبر تلك الصورة إلَّا لأَنَّها تعبر عن صورة من الفعل المقاوم الذي تنجذب له الفطرة الإنسانية في الشرق والغرب على السواء.
لهذا أخفقت السردية الإسرائيلية الاحتلالية من جديد في تقديم صورة استشهاد القائد السنوار كفريسة طالتها ضباع اليهود المنشية، كما أخفقت في توظيف الحدث بأثره الساخن لتحقيق اختراق، حَيثُ الجهل الإسرائيلي الكبير يصعب عليه فهم طبيعة الفكر والنهج المقاوم والشعبيّة التي يمتلكها بالفطرة.
في اليوم التالي لاستشهاد ابن غزة ألقت طائرات إسرائيلية، منشورات على جنوبي قطاع غزة فأظهرت صورة جثمان زعيم حركة حماس يحيى السنوار مصحوبة برسالة “حماس لن تحكم غزة بعد الآن”، وهي نفس العبارة التي استخدمها رئيس حكومة كيان العدوّ الإسرائيلي نتنياهو. وجاء في المنشور المكتوب باللغة العربية، بحسب سكان مدينة خان يونس الجنوبية والصور المتداولة على الإنترنت، “من يلقي السلاح ويسلّم الرهائن سيُسمح له بـ “الخروج”، والعيش بسلام”.
أمام سطحية الفهم الصهيوني للحدث، خرج أطفال فلسطين وغزة وقد تقمصوا مشهد القائد السنوار الأخير، فظهروا ملثمين والعصي بأيديهم، في رسالة تقول إن السنوار نموذج فخر الفكر المقاوم الأقوى حتى الساعة.
وفي قراءة لاستمرار قادة “إسرائيل” في بيع الوهم للشارع الإسرائيلي خرج الكاتب الإسرائيلي الشهير جدعون ليفي بتعليق على شاشة “سي إن إن” الأمريكية، يؤكّـد حقيقة وعمق القضية الفلسطينية التي تتجاوز تصريحات نتنياهو وبايدن وهارس ووزير جيش العدوّ والمنشورات التي ألقيت وستلقى، يقول فيه: “اعتدنا في “إسرائيل” على الاحتفال بقتل هذا القائد الفلسطيني أَو ذاك، لكننا دائمًا نكتشف في آخر النهار أننا عدنا إلى المربع الأول ولم نحقّق شيئًا؛ لأَنَّ الحل لا يكمن أبدًا في قتل القادة الفلسطينيين، بل يكمن في إيجاد حَـلّ لمشكلة نحن المستبِّبون بها. يحيى السنوار لم يكن مطلقًا عقبة أمام الحل أَو السلام، بل إن العقبة الحقيقية هو الاحتلال والحصار والتعنت الإسرائيلي”.
هذا الموقف يشير إلى تغير عالمي مثلت المقاومة عنصره الأكثر تأثيرًا في إبراز معاناة أصحاب الأرض ووحشية المحتلّ، ومع هذا التراكم المؤثر تبرز مؤشرات التغير القادم، حَيثُ ينظر إلى الصهيونية في صورة دموية وحشية لا إنسانية، ولعل نماذج العالم المعبرة عن هذا الشعور والتوجّـه خير مثال على قدرة المقاومة على هزيمة المشروع الصهيوني وحامله الرأسمالي العالمي.
يقول المؤرخ الإسرائيلي البارز، إيلان بابيه: “المشروع الذي انطلق أواخر القرن 19 لفرض دولة يهودية أُورُوبية على العالم العربي، وفرضها على ملايين الناس رغمًا عنهم، ليس قابلًا للنجاح. استمر لعقود، لا لقدرات المستوطنين التكنولوجية والعسكرية، بل لدعم القوى الغربية التي يخدم مصالحها”!
ويتنبأ المحلل السياسي الإسرائيلي شالوم ليبنر أن غطرسة حكومة بنيامين نتنياهو تهدّد الإسرائيليين بسيناريو مظلم.
وفي صفعة جديدة لـ “إسرائيل”، تظهر محكمة العمل البريطانية منصفة من يحاربون الصهـيونية فتؤكّـد أن معتقداتهم جديرة بالاحترام.. القرار الذي وصفته صحيفة “الغارديان” البريطانية بالتاريخي!
النائبةُ الإسبانية إيرين مونتيرو تفتحُ النارَ على رئيسة البرلمان الأُورُوبي مخاطبة إياها: “لا أعرفُ إن كنتِ تدركين حجمَ النفاق والبؤس والانحطاط السياسي الذي ينطوي عليه انزعَـاجُك من أن تلبس زميلتَنا ريما كوفيةً في الجلسة العامة أكثرَ من انزعَـاجك من تواطؤ أُورُوبا في إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني!”.
تلك الإبادة التي كانت الجراحة البريطانية آنا جيلاني العائدة من غزة شاهدًا على بعض منها، حَيثُ تروي على لسانها بعضَ المأساة: “أتذكر أنني مررتُ بجانب فتاة.. لم تستطع فتحَ عينَيها.. كانت كُـلّ أطرافها مكسورة. الدم ينزف من بطنها. تبكي بصمت، ولم يكن هناك أحدٌ حولها. لا يتعلق الأمر بالمرضى فقط.. أحدُ زملائي قُتلت زوجتُه ووالداه وطفلاه، وكان يجري عملية جراحية في مستشفى ناصر. ثم عاد إلى المنزل ولم يجد سوى قدم زوجته وذراعَ طفله ولم يقل غير الحمد لله”.
ذلك الجحيمُ الذي يعيدُه أُستاذٌ للفيزياء في جامعة كاليفورنيا إلى استغلال رئاسة أمريكا للمجتمع الأمريكي ودافع الضرائب، حَيثُ يرى أن “الكونجرس فاشل والرئاسة فاشلة. والوحيدون الذين يحصّلون المال هم مصنّعو الأسلحة الذين يدفعون لأعضاء الكونجرس لبناء المزيد من القنابل وبيعها لـ “إسرائيل” ودول أُخرى كأطراف ثالثة تحت ستار الدفاع الوطني. وهذا؛ مِن أجلِ المال”.
في هذا الجو الممتزج بروائح دم أطفال فلسطين، ودمار مدن عامرة بغزة ولبنان، لن يستثنيَ الحرابُ بلادَ العم سام.، حَيثُ يكشف عالم السياسة الأمريكي جون مارشماير، صاحب الكتاب الشهير “لوبي إسرائيل والسياسة الخارجية الأمريكية” تورط أمريكا في مستنقع الشرق، متسائلًا: “مَن نظيرتا الولايات المتحدة ومنافستاها؟ الصين وروسيا؟ الأصل أن تتقارب على إحديهما للتغلب على الأُخرى. بدل ذلك دفعت أمريكا الروس في أحضان الصينيين، وبقيت عالقةً في الشرق الأوسط؛ بسَببِ تحالفها مع “إسرائيل”.. ورطة “إسرائيل” هي ورطة أمريكا”.
ويخرُجُ الناشط والممثل الأمريكي اليهودي، جاكوب بيرغر صارِخًا كنموذج عالمي متأثرًا بمشهد من مشاهد الإبادة شمال غزة: “هناك حرفيًّا أطفال يحترقون أحياءً في خلفية الفيديو اللعين، حَيثُ يموت الشاب الفلسطيني شعبان الدلو” محترقًا. وأنتم تريدون تجاهل هذا والعيش في عالمكم الصغير اللعين؟ اللعنة عليك يا أمريكا! اللعنة عليك يا إسرائيل! كُـلّ من يدعم هذا الهراء قذر، نازي، ابن عاهرة!”.
ويتعالى الصوت كما تترسخ قناعات عالم جديد بزوال الكيان المتوحش، فيتساءل الصحفي البريطاني مهدي حسن في “الغارديان”: “كيف يمكن أن يكون كُـلّ هذا مقبولًا؟ أهو قانوني؟ يجب إزالة “إسرائيل” من الأمم المتحدة، إنها دولة مارقة”.
ومعه يذكر الكاتب والمحلل الفرنسي فنسونت هوغو: “لدينا رئيسُ وزراء “يقصد نتنياهو”، لو لم يكن في منصبه لكان بلا شك في سجن في بلده اليوم.. بنيامين نتنياهو. أجبر أهالي الجنوب على ترك قراهم والنزوح، ودفع الفلسطينيين من غزةَ على النزوح من الشمال إلى الجنوب، ثم من الجنوب إلى الشمال.. إنه نفسُ منطق الهروب إلى الأمام!”.
ويتعاظم الصوتُ فيبدو تأثُّرُ الشاعر والفنان البريطاني جورج مبانغا، المعروف باسم جورج ذا بويت، وكأنه قد وصل لحالٍ من الغضب المستطير على مجازر الكيان الإسرائيلي: “من الجنون أننا نشاهد جميعنا تلك المعاناة في غزة ولا نقوم بأية ردة فعل. تخيَّل الصدمة الناتجة عن أصوات الطائرات. أكاد أفقد صوابي هذا تطهير عِرقي! ارفعوا أصواتكم؛ مِن أجلِ حرية فلسطين!”.
ومع المزيد من التدوال للمشهد المأساوي تتعزَّزُ قناعاتُ الشارع الغربي الإنساني بوحشية كيانٍ صنعه قرارٌ أممي لا حقيقة تاريخية يتسم بها فعل المقاومة. تقول المؤثرة الأمريكية لوشيو ريكر: “شاهدتُ للتو “إسرائيل” تحــرقُ طفــلًا على قيد الحياة، هل تستطيع أن تشرح لي كيف يكون هذا دفاعًا عن النفس؟ لقد استهدفوا المستشفى عدة مرات، والجزء الأكثر رعبًا في كُـلّ هذا هو أن هذه المذابح تأخذ المرتبة الثالثة من مجازر اليوم مجـزرة الأطفال في مخيم الشاطئ مدرسة المفتي ومدرسة حفصة”.
لقد أصبح الإسرائيلي موضعًا لتندر العالم، حيثما اتجه. في معرِض أمريكي، تداول العالم مقطعًا مرئيًّا لأمريكي يسخر من وفد إسرائيلي في معرِضٍ للتكنولوجيا يسألهم ساخرًا: “يا جماعة نحن نبحثُ عن تقنية قتل الأطفال، سمعنا أن هذا هو قسمٌ لفرم الأطفال. هل لديكم تقنية تمزيق الأطفال؟ هل تقنيتكم تمزّق الأطفال قطعًا؟ سيدي هل تفرمون الأطفال؟”.
ويظهر شرطيٌّ ألماني، كنموذجٍ يعبر عن جانب الإنسانية الذي بدأ عاملَ ضغط على داعمي الكيان في حكومة شولتز الألمانية وقد امتنع عن مهاجمة المتظاهرين المؤيِّدين لفلسطين والرافضين للاحتلال الإسرائيلي والإبادة الجماعية في غزة. “ابتسم للمتظاهرين وقال لهم: أنا فقط أنفِّذُ الأوامر”. ولأنه إنسان ويعلم حقيقة الاحتلال الإسرائيلي، ترك المتظاهرين يهتفون ويعبّرون عن تضامنهم مع فلسطين.
ليس هذا فحسب فقوائم النخب في أُورُوبا وأمريكا المناهضة للسلوك والوحشية الأمريكية والتي تعد سابقة في مشهد علاقات العالم بكيان العدوّ الإسرائيلي، وتصاعد الاحتجاجات والمظاهرات، وُصُـولًا لاعتبار “إسرائيل” كيانًا محتلًّا يجبُ رحيلُه، بل تجب محاكمته على جرائمه التي أصبحت حديثَ العالم.. كلها مؤشرات عالم يتغيَّر ويغيِّر نظرتَه لهذا الكيان المتوحش.
والخلاصةُ -كما يقول الأكاديمي البريطاني ديفيد ميلر-: “لم يعد الناس يصدِّقون كما اعتادوا أن لإسرائيل الحقَّ في الوجود والدفاع عن نفسها، في حين أنها تحتل أرضَ شعبٍ آخرَ، ومنخرطة في إبادة جماعية. لذا، إن الطريقةَ التي تغيّر بها الرأيُ العام ليس مُجَـرّد أمر عابر بل أعتقد أنه بدايةُ النهاية لإسرائيل”.
هذه النهاية لكيان العدوّ لخّصها اعترافُ حاخام يهودي -ديفيد وايز-، حَيثُ يقول: إن “الله سبحانَه وتعالى غضب على اليهود وطردهم من الأرض المقدَّسة إلى المنفى (الشتات) في مختلف أنحاء الأرض، وإن الذين يعودون إلى فلسطين سيعاقبُهم الرَّبُّ”.