الأُسطورة

زينب عبدالوهَّـاب الشهاري

قل لي بالله من أين أتيت؟! يا نسجاً من نور وسنًا من خلود، يا أعجوبة متجددة، وآية الله في السماوات والأرضين، قل لي أي روح نفخت داخلك منذ قدمت لدنيانا، وكأنك خلقت تحت رعاية إلهية خَاصَّة فكنت أنت… الحامي المستبسل والحارس الأمين، وكأن أزقة فلسطين ومساجدها وكل ربوة وجبل وحجر رسم باحترافية في مقلتيك وخبأ بعناية تحت جفنيك، وكأن روحك غذيت بفوح نسمات وندى أوراق وحبات غيث أرض مسرى الأنبياء فاشتد عودك وكنت أنت، على الهيئة التي ميزك الله عليها والتي حفرت في وجدان العاشقين لك ولمجدك المعفر بنضال السنين.

وكأن أوجاع أهلك منذ نكبة استحقتها أُمَّـة تخلت وقَلَت وحتى الحاضر قد غرزت عميقاً فيك وشكلت ندباً لم تمح من الشعور، فاستقمت بكبرياء لم يمسه ثقل الألم، ومضيت شامخاً ترسم النور في آخر النفق، وتدفع أبناءك لتلمس طريقهم نحوه رغم الأشواك التي أدمت الأقدام والظلام الذي أرهق الأبدان، موزعًا لهم من زاد صبرك وجَلَدِك، موصيًا لهم أن تكون بنادقهم حاضرة، وعيونهم راصدة وضرباتهم قاصمة، وألا يكلوا مهما كان درب الحرية صعبًا وشاقًّا.

إنك السنوار، الشبح الذي ظل يطارد “إسرائيل” في صحوها ونومها وحتى رغم محاولاتهم إطفاء ثورتك المتقدة بوضعك تحت رقابة السجان وبين أسوار السجون، كانت روحك أكبر من أن تضمها جدران أسر، فلم ينقطع اتصالك برفاق الجهاد خارجاً، فحركت راية الكفاح وقدت المعركة من الداخل ولم يمنعك حاجز أَو يصدك عائق.

وليقينك بأن المفاوضات وعهود السلام المزعومة مساومة وبيع علني للقضية، فقد علمت أحبائك من أهل أرضك أن الانعتاق والتحرّر لا يتحقّق إلَّا عبر زناد البنادق ورصاص الجعب وفوهات المدافع، ومواجهات الميدان.

وبمشيئة الله وأقداره خرجت من السجن الذي هزمت فيه سجانك بصلابتك وصمودك، لتستمر بعدها في كتابة فصول نزالك القاسي والموجع له، وحين كان الأعداء يجدّون في بحثهم عنك تحت الأرض كنت فوقها تدوس على رقابهم بحذائك، فلم يتوقعوا أنك كنت الأقرب إليهم دائمًا وأنك الملتحم الأول، المتقدم للصفوف والقائد للمعارك على الأرض والمشتبك الجسور حتى رأوا ذلك بأم أعينهم.

نظراتك الحادة وملامح وجهك الصارمة ونبرة صوتك القوية تدلل لكل من يرى السنوار أن روحًا غير عادية، روحًا جبارة تسكن بين جنبيه، فلا يعرف الضعف أَو العجز أَو التردّد إليها سبيلاً، بل هي من تمنح الآخرين الشجاعة وتمدهم بالقوة، تخطيط وتنظيم وعمل دؤوب في خط الجهاد أخرج للحياة تلك المعركة التي قلبت موازين الأرض وغيرت المعادلات، تلك هي معركة (طُـوفَان الأقصى) التي لا يدبرها إلَّا عقل مثل عقل السنوار، والتي لا تزال مجرياتها سارية حتى اللحظة وهي أذان صدحت به مآذن الحق بزوال طغاة الأرض، معركة هي المسمار الأخير الذي يدق في نعش الصهاينة.

أودى بهم جنونهم في محاولة الوصول إليك، وحقدهم أَيْـضًا على كُـلّ ما هو فلسطيني أن ينسفوا الأرض ومن عليها ويرتكبون المجازر الدموية، ولأنك كنت عند الله الأقرب، وكنت كما كُـلّ ما في غزة تقاوم، فقد أراد الله تشريف العالم بالتعرف من خلال ملحمة قتالك الأخيرة، “من أنت يا سنوار، لماذا كنت يا سنوار استثنائياً؟! فلا يمكن لشخص أن يقاتل حتى الرمق الأخير بتلك الكيفية في مشهد أذهل العالم إلا أن يكون فقط وفقط “السنوار”، قتالك وأنت مصاب بكل عزة وعنفوان بعد معركة شرسة ورميك لعصا كانت سلاحك بعد أن نفذت ذخيرتك قد مرغ أنوف الغاصبين في وحل السقوط المذل والهزيمة النكراء المدوية، فعصا السنوار أصبحت حديث العالم وأيقونة التحدي والنصر، وحين ظنوا أنهم قتلوك كنت الحي الذي لا يمكن أن يموت، فأنت روح الله التي تسري في أبدان المقاومين وأصحاب الحق إلى قيام الساعة، وأنت أُسطورة الزمان التي لا تندثر وأعجوبة الدهر التي ستظل حكاية الأجيال إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com