الظروفُ الموضوعيةُ والضرورةُ التأريخية لانطلاق الصرخة في وجوه المستكبرين
قراءةٌ في خطاب السّـيِّـد عَبدالملك الحوثي في ذكرى الصرخة في وجوه المستكبرين:
- محاربةُ الإرْهَـاب لافتة أمريكية لتغطية نزوعهم الاستعماري الجديد
- أَمريكا ترى تعزيز سيطرتها على العالم أمراً طبيعياً بل تعتبرته حقاً لها، وهو اتجاه عدائي مشوب بأطماع كبيرة
صدى المسيرة/ تقرير/ أنس القاضي
لم تَكن الصرخةُ في وجوه المُستكبرين، التي أطلقها الشَّـهِيْدُ القَائِدُ حسين بدر الدين الحوثي، حَدَثاً عَبَثياً، أَوْ توجُّهاً لشخص لديه طموحات فرديةٌ خَاصَّـة أَوْ تصوّرات خيالية، أَوْ كصناعة خارجية من خارج التأريخ والظروف الاجتماعية.
كُلّ البواعث التي يَغلب عليها الطابعُ الفردي الاختياري التي تتوقف عليه إرَادَةُ المرء، هي أبعدُ ما تكون عن انطلاق هذهِ الصَرخة والمسيرة القُـرْآنية، التي جاءت كضرورةٍ موضوعية في ظروف تأريخية محددة، وشروط حياة اجتماعية معقدة، عكست تغيُّر البُنية العالمية، ويؤكّد السّـيِّـدُ عَبدالملك الحوثي طابعَها الموضوعي هذا، يقول السّـيِّـد عَبدالملك: “وقبل أَن نتحدث عن المناسبة نتحدث عن الظروف التي انطلقت فيها أَوْ انطلق فيها هذا المشروع. مما لا شك فيه لدى كُلّ المستقرئين للواقع وللتأريخ، أن التوجه الأَمريكي ما بعد إزاحة الاتحاد السوفييتي وتقويض كيانه الكبير، كان نحو العالم الإسْلَامي عموماً ونحو المنطقة العربية على وجه أخص. الأَمريكيون اتجهوا إلَـى إزاحة الاتحاد السوفييتي آنذاك كندٍّ منافس لهم في العالم، أما توجُّهُهم نحو العالم الإسْلَامي ونحو المنطقة العربية فالعالَمُ الإسْلَامي والمنطقة العربية، له شكلٌ آخر وله أَهْـدَاف أكثر خطورة من إزاحة ند منافس. ولم تكن الدول العربية في واقعها القائم ككيان قوى ومنافس ونِــدٍّ”.
ترى أَمريكا والفلسفة الغربية بشكل عام بكبار مفكريهم أن اللبرالية التي توصلوا إليها نهاية التأريخ والحضارة، وأرقى ما وصلت إليه الإنْسَـانية، وأن من حقهم أن يعمموا هذه اللبرالية على العالم، بعد التقهقر الاشتراكي، ويُخلصوا العالَمَ من ما اعتبروه بالدكتاتورية الاشتراكية والإرْهَـاب الشيوعي وتخلف الثقافات الشعبية القومية والدينية. والعولمة بفلسفتها اللبرالية الحديثة ولافتة محاربة الإرْهَـاب جاءت لتغطية نزوعهم الاستعماري الجديد، فما قبل الحرب العالمية، كانت (عُصبة الأمم المتحدة) تبيحُ للإمبراطوريات الاستعمارية أن تستعمرَ أي بلد لكي تخلص هذه البلدان من التخلف وتأخذ بيدها نحو الحضارة الرأسمالية!، يقول السّـيِّـد:
“أَمريكا عندما اتجهت في سياق سياستها الواضحة نحو تعزيز سيطرتها في العالم، يرَون المسألة بالنسبة لهم طبيعية بل يعتبرونها حقاً لهم، وهو اتجاه عدائي مشوب بأطماع كبيرة وكان تحَـرّكهم على مراحل متعددة ووفق خطوات مدروسة وكانت المرحلة التي هي من أخطر المراحل في حلقات مسلسل مؤامراتهم، هي ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ما بعد حادثَي البرجين في نيويورك. تعتبر تلك الحادثةُ مهيأةً ومعدةً خصيصاً لمرحلة متقدمة وخطيرة جدّاً في استهدف العالم الإسْلَامي والمنطقة العربية وفي إيجاد الغطاء اللازم للتوجه الأَمريكي والتحَـرّك الأَمريكي غير المسبوق بكل ثقل أَمريكا إلَـى المنطقة”.
وفي إطار هذا المشروع الاستعماري الجديد، الذي فتح البلدان أما (السوق الحُـر) وأمام صندوق النقد الدولي وقروضه المشروطة، وللشركات الاحتكارية العابرة للأوطان والمتعددة الجنسيات، كان التوجه الأَمريكي كما يقول السّـيِّـد: “في كُلّ الاتجاهات، وعَسكرياً للاحتلال المباشر وبدأت خطواتها باستهداف أفغانستان وفيما بعد العراق وهكذا تحَـرّكت بشكل مستمر وأمنيا وسياسيا وثقافياً وفكرياً وإعْـلَامياً واقتصاديا في كُلّ المجالات ضمن خطط أعدت سلفاً مدروسة بعناية وتنفذ بشكل دقيق العالم الإسْلَامي والمنطقة العربية”.
في هذه المرحلة جاءت أَمريكا على كُلّ مكتسبات حقبة حركة التحرر الوطني، وحرب شعواء ضد القوى الوطنية القومية والاشتراكية، التي ضعفت مع التقهقر السوفيتي، وكذلك بمواجهة الثورة الإسْلَامية المتصاعدة والتي أنطقت شرارتها من إيران، وبدأ وكأن الجميع مُسلم بالسيادة الامبريالية الأَمريكية، وكانت الشعوب والقوى قَد تدجّنت، وابتعدت عن تطلعاتها القومية والأممية، في الصراع من أجل المعيشة في أقطارها، إلا من قليل يقول السّـيِّـد:
“القليل من أبناء الأمة كانوا على وعي كافٍ بطبيعة هذا التحَـرّك، أما معظم الأَنْظمَة فقد اتجهت اتجاه الاستسلام والإذعان والترهيب بهذا التحَـرّك الأَمريكي ولو أَنه يستهدف بلدانها وشعوبها، والواقع الشعبي كان واقع محزنا جدّاً الشعوب العربية التي تئن تحت إرث الماضي بكل ما فيه من التسلط والاستبداد والظلم من حكامها ودولها وسلطاتها الجائرة الفاقدة لحالة الوعى، والتي لا تعيشُ في واقعها الداخلي حالة المنعة اللازمة والاستعداد الكافي بمواجهة هكذا خطر الذي عليه أَمريكا بكل قدراتها ونزعتها الاستعمارية”.
ومن ضغطٍ مختلفٍ هذه الظروف الموضوعية، والمخاطر الاستعمارية الحقيقية، والحالة الأفيونية التي تعيشها الشعوب وحكوماتها، كحالة عامه، ومن الخاص المتمثل بالظروف الاقتصادية التي تعاني منها القوى الشعبية اليمنية وحالة الفساد والاستغلال المُرتبطة بالهيمنة الأَمريكية وبالتوجه الاقتصادي والإداري اليمني التابع للعولمة الامبريالية، حدث الرَبط الجدلي في حركة تطور الوعي لدى الشَّـهِيْد حسين الحوثي، الذي ربط بين التحرر الشعبي من البؤس في الوطن، وعلاقته بالتحرر الشامل للعالم العربي والإسْلَامي وشعوبها البائسة، وفي جوهر هذه الأزمات وحالة الفساد في الأرض المتمثل بأَمريكا وإسرائيل، وفي الارتهان الاقتصادي للشعوب العربية والإسْلَامية، لهذه الدول الغربية التي منعت الشعوب من الإنتاج وعززت سيطرتها، ومهدت الطريق لمجنزراتها الاستعمارية. من مختلف هذه الظروف الموضوعية، ولنضوج هذا التحليل الملموس جاءت الصرخة في وجوه المستكبرين من أقصى شمال اليمن، ومن قلب صعدة، يقول السّـيِّـد:
“أمام هذا الواقع الخطر جدّاً الذي يؤذن بمرحلة متقدمة بالنسبة لأَمريكا وإسْرَائيْل ومن يدور في فلكهم، وتزامناً مع ظروف تلك المرحلة أطلق السّـيِّـد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- الصرخة في وجه المستكبرين هتاف الحرية والبراءة”.
مسائلُ مُلحة أمام صرخة الثورة والحُرية
ولكون الصرخةِ في وجوه المستكبرين، أتت كانعكاس لهذه الظروف العامة العالمية والخَاصَّـة اليمنية، ولكون الصرخة جاءت نتاجَ تحليل واعٍ بجوهر التحَـرّك الاستعماري الأَمريكي، فلم تكن رد فعل، بل كانت فعلاً واعياً طرحَ مهام ثورية للتحرّر من هذا الواقع بالإمْكَانيات المتاحة والمتوفرة. يقول السّـيِّـد: “هذا المشروع ركز بشكل كبير على الصرخة بالشعار والتحريض لمقاطعة البضائع فيما تمثله هذه المسألة من أَهَميَّـة كبيرة في مواجهة أَمريكا وإسْرَائيْل التي عماد قوتها إمْكَاناتها الاقتصادية، وكان من أهمّ أَهْـدَاف هذه الصرخة مواجَهة فرض حالة الصمت التي واكبت التحَـرّك الأَمريكي والإسْرَائيْلي؛ لأن الذي كان مطلوباً أَن لا أحد يتخذ موقفاً وَينشط في أوساط الأمة لاستنهاضها، وهذه المسألة سيئة؛ لأن معناها تكبيل الشعوب بقيود الذل وتقديم الأمة فريسة سهلة لأعدائها”.
ومن المهام التي طُرحت أمام المسيرة: “العناية بالثقافة القُـرْآنية ونشر الوعي لتكوين أمة قُـرْآنية تحمل المشروع القُـرْآني والروحية القُـرْآنية، وتتحَـرّك عملياً على ضوئها في مواجهة مؤامرات أَمريكا وإسْرَائيْل في كُلّ المجالات والتصدي لهجمتهم الشرسة الشاملة على الأمة. وهو (أي الشَّـهِيْد حسين الحوثي) شَخّص طبيعة المؤامرات الأَمريكية والإسْرَائيْلية والتي هي بالتأكيد واضحة لدى الكثير من الناس، ومما لا شك فيه أن الأَمريكي يهدفُ إلَـى السيطرة الكاملة على كُلّ مقدرات وثروة الأمة واحتلال بلدانها بحكم الأطماع ونزعة السيطرة والاستعمار لديه. وركز على التصدي العملي لها.
ونرى أن الشَّـهِيْدَ حسين الحوثي حين أطلق الصرخة طرح مشروعَ استنهاض الشعوب للمواجهة الكبرى، وتصحيح وضعها، وهوَ ومن واقعه الاجتماعي والواقع اليَمني بثقافته الإسْلَامية السائدة، جعل من القُـرْآن مُرشدَ عمل، ولم يقتصر تحَـرُّكُه على الجانب الروحي العقائدي ليكون التغيير فقط داخل الوعي، بل ربطها بالممارسة المادية الملموسة في الحياة الواقعية، فطرح القضية الاقتصادية ومقاطعة البضائع الأجنبية كنَسَقٍ ثانٍ للتَّحَـرُّكِ يتحد مع النسق التوعوي الأول بربط ما بين فكر الإنْسَـان وواقعه، وما بين الروحي العقائدي مع الاقتصادي، فحلَّلَ الأسبابَ الاقتصادية للبؤس الاجتماعي، وروابطه بالتوجه الاستعماري، وعلاقة كُلّ ذلك باليَهود المعتدين والمستعمرين، الذين يقفون على رأس الاحتكارات العالمية، وبذلك يكون قد حقّق على الصعيد الفكري الربط الجدلي الذي عجز عنه كثيرون من المفكرين الثوريين الإسْلَاميين، مما ثبّت للمسيرة القُـرْآنية جذور في الأرض ولم تبقَ مجرد تصوّرات.
وبتقدمه للصفوف المجاهدين واستشهاده جَسد إيمانه وقناعاته في سبيل الله والمستضعفين، وأعطى الجميعَ درساً في التضحية من أجل الخلاص والعزة والكرامة والحرية.