دروسٌ لحكومة التغيير والبناء من حكومة الإمام علي بن أبي طالب (3)
المسيرة| د. محمد قاسم علي العاقل
3- الرقابة الوقائية والقضاء على الفساد:
الرقابة الذاتية:
قول الإمَـام علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: “املك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك”.
أوضح الإمَـام أن الموظف الذي تخوله السلطة وتمنحه مجموعة من الصلاحيات، يجب أن لا ينتظر الرقابة منها، بل يجب أن يكون لديه وازع داخلي يمنعه من الاخلال بعمله؛ لأَنَّ هذه الرقابة تمنعه من التجاوز على الرعية إذَا تحقّقت شروطها، ومنها: إنصاف الله والناس من نفسه وخَاصَّة أهله والمقربين من أعوانه؛ فيؤدي ذلك إلى ترويض النفس وإجبارها على كسر الشهوات، وينطلق الإمَـام علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- من القاعدة الإلهية التي نصت عليها الآية الكريمة: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” الشمس:9-10، وقوله تعالى: “وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ” البقرة:284، وهذا ما يُسمى بالرقابة الذاتية على النفس؛ لأَنَّ هذه الرقابة تمنع المسؤول من التجاوز على الموظف وعلى المواطن، وقد كان أمير المؤمنين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الإنسان الكامل في تزكية النفس وترويضها فهو القائل: “وأيم الله يمينًا أستثني فيها بمشيئة الله لأروِّضَنَّ نفسي رياضةً تهش معها إلى القرص إذَا قدرت عليه مطعومًا، وتقنع بالملح مأدوماً”، وقوله -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: وإنما هي نفسي أروِّضُها بالتقوى؛ لتأتيَ آمنةً يومَ الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق”، فاللبنة الأولى التي وضعها أمير المؤمنين هنا في منهجه بناء الذات الإنسانية وصيرورتها صالحةً في حركتها البشرية حياتيًّا في معاملاتها مع الناس أَو ربها سبحانه وتعالى، وهي رياضة النفس البشرية نظريًّا وعمليًّا، بمعنى تمرينها وتدريبها وبصورة مُستمرّة عمليًّا على التقوى النفسية والسلوكية في تعاطيها الحياتي الخاص والعام، وتعطي عملية ترويض النفس قيمًا إنسانية وإدارية لإقبال الدول وقيامها عنده، ويحدّدها بثلاث هي: 1) العدل، فقال -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: “ما حُصَّن الدول بمثل العدل”، وبهذا، حَيثُ يكون العدل قيمة سياسية أولى، وهو بمثابة سور يحمي الدولة من السقوط أمام العدوان الداخلي والخارجي، 2) الحِذقُ أَو المهارة وبُعد النظر، والقدرة على دقة التصرف في الأمور، حَيثُ قال: “إمارات الدول إنشاء الحِيَل”، 3) اليقظة والانتباه، حَيثُ يقول -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: “من دلائل الدولة قلة الغفلة” وقوله -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: “من إمارات الدولة التيقظ لحراسة الأمور”.
ويحذر الإمَـام -عَلَيْهِ السَّلَامُ- منذ البداية من الإنسان الذي تسيطر عليه نفسه الأمارة بالسوء من أن يتصدى لنشوء وتأسيس الدولة وإدارتها، فقال: “احذر الشرير عند إقبال الدولة لئلا يُزيلها عنك، وعند إدبارها لئلا يُعين عليك”.
إن مبدأ الرقابة الذاتي على النفس تقدم للمسؤول أَو الحاكم نموذج من أُسلُـوب السلطة العليا في الإسلام، وتوضح تكليف إمام المسلمين، وما يجب على من يكون في هذا المكان من القُدوة، وفي هذا يقول الإمَـام -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: “أأقنع من نفسي بأن يُقال، هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكارة الدهر، أَو أكون أسوة لهم في خشونة العيش… “، لذا نرى أن بعض من الحكام انحرفوا عن القوانين الإسلامية، فأخذوا بجمع الأموال والانسياق وراء مشتبهات النفس، وترك أحكام الله، فكان المسلمون يردون عليهم ويهدّدونهم ويقتلون بعضهم، ويثورون ضد آخرين منهم.
إن مفهوم الرقابة الذاتية هو مفهوم إبداعي جاء به الإمَـام -عَلَيْهِ السَّلَامُ- انطلاقًا من التشريعات والنظم الإدارية الحديثة، ومستندًا على قواعد قرآنية وسيرة نبوية شريفة، فهو تلميذ المصطفى النجيب وخريج المدرسة المحمدية، فقد كانت سيرته تزخر بالسلوك المتكامل في ضبط النفس وترويضها، وما صدر منه شيء يخالف المبادئ الأخلاقية التي علمه إياها الله ورسوله، وقد رافق هذه التربية في الرقابة الذاتية، والحرص على بيت المسلمين، حرص آخر على مصالحهم، مهما كانت أقدارهم، وأجاب عامله الذي طلب القراطيس: “أدق قلمك، وأجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة، فَــإنَّه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضرَّ بيت مالهم”.
والآيات القرآنية الكريمة وأقوال وأفعال الإمَـام علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ بأن الإدارة والحكم لا تستقيم بدون الرقابة والمتابعة، وقد تم البدء بالرقابة الذاتية في سيرة الإمَـام علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وهي رقابة الإنسان على ذاته وعلى تصرفاته وعلى سلوكه، وعلى أقواله وعلى أفعاله، وأن هناك من يراقب هذا كله داخل نفسه وداخل ضميره وداخل جسده، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: “الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” يس: 65، والرقابة الذاتية هي الرقابة الواعية للضمير المتيقن اليقظ ضد أي انحراف؛ فالإنسان المراقب لذاته تكون لديه رقابة ضد الانحراف، وضد الخطأ الذي إذَا حدث عفوًا لا يتمادى فيه، ويبادر بالاعتراف به وإصلاحه، ومقاومة أي إغراء للفساد أَو الانحراف، ويقوم بتأدية واجبه وما كلف به على أكمل وجه وبإتقان وإخلاص.
فمحاسبة الإنسان لذاته تقييم وتقويم، وإصلاح، وترشيد، وإدراك ووعي وتوافق واتّفاق على التجويد والاتقان والبذل والعطاء امتثالًا لقول الله سبحانه وتعالى: “وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى” النجم:39-41، وقوله سبحانه وتعالى: “وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً” الإسراء:13-14.
وقد التزمت حكومة التغيير والبناء في برنامجها بتحسين الأداء في العمل الإداري، ومكافحة الفساد بما يكفل إنجاز معاملات وقضايا الموظفين، كما التزمت بتفعيل الرقابة والتوعية القانونية للحد من الفساد وحماية المال العام، وقد كانت توجيهات قائد الثورة المباركة السيد القائد عبد الملك بن بدر الدين الحوثي (حفظه الله) بالالتزام بالمحدّدات والقواعد لشاغلي المسؤولية العامة، بالحرص على النزاهة الأخلاقية والمالية، وصيانة النفس، والحذر من الفساد المالي والأخلاقي، ومن خطوات الشيطان، والحرص على حراسة الإنسان لكرامة نفسه وشرفه فهي لا تعوض، كما أكّـد على أهميّة الرقابة بقوله: “إذا كان الإنسان حريصًا على نزاهته؛ فليحرص على تقوية الجانب الرقابي لديه، وهذا مهم للغاية”.
ومن هنا فَــإنَّ الرقابة للحكومة وعلى الحكومة ورقابة الموظف لنفسه، واجبة شرعًا وقانونًا وأخلاقًا، وَإذَا أيقن الجميع بصدق هذه المعاني الجليلة، هانت وصغرت أمامه جميع أنواع الرقابة الأُخرى، فهل من مُدَّكر ومعتبر؟