إعادةُ تشكيل خارطة السيطرة في سوريا: المستفيدون والمتضررون
تحليل – عبد الحميد الغرباني
فرضت التطورات الميدانية في سوريا واقعًا مُستجَدًا صادمًا وخطيرًا، لكن أخطر منه ما يُبَيِّتُه الفاعلون وراء إعادة تشكيل خارطة السيطرة على الجغرافيا السورية.
وهنا تبدأ هواجس كثيرة وتساؤلات أكثر، أهمها لماذا سارعت تركيا ودون مواربة لتحميل أمريكا مسؤولية إحياء الجماعات الإرهابية؟ وَنفي أي دور تركي ولماذا تُضبط أنقرة ضالعة حَــدّ النخاع؟ وكيف تنظر روسيا لتطورات المشهد السوري في خضم معركتها في أوكرانيا؟ وأي دور للولايات المتحدة وكيان العدوّ في إعادة رسم خارطة السيطرة في سوريا وَماذا عن خسائر وَمكاسب كُـلّ هذه القوى؟ وَكيف يُمكن لمحور المقاومة مُحاصرة ارتدادات هذا الزلزال الجيوسياسي -بوصف البعض- عند مستوى محدود؟ وَأين تتموضع دول الخليج، سواء تلك التي أعادت تطبيع العلاقات وإن شكليًّا مع النظام السوري أَو التي تحفظت؟
معسكر العدوان على غزة.. الدور والمكاسب:
تُشكل التطورات في سوريا طعنة نجلاء في خاصرة قطاع غزة، أما لماذا؟ فلأن تداعياتها تضرب الأرضية الصُّلبة للمقاومة في سوريا بما تؤديه من دور وَتوفره من مساحة للفعل المقاوم في فلسطين ولبنان، ولناحية ما تُتيحه دمشق من أُفُقٍ لمستوى جديد من الصراع مع العدوّ، وما تُمثل من ثقل وازن في المواجهة مع المشروع الأمريكي -الغربي للمنطقة، وَهو ثقل غير عادي ويؤثر بشكل مباشر على صورة المنطقة ككل.
وكلّ ما سبق يعني أن كُـلّ التطورات الأخيرة في سوريا تتناسب مع المشروع الأمريكي -الغربي للمنطقة، ومن المعروف أن هذا المشروع لا يخضع لمصالح أمريكا وأُورُوبا فقط، بل أَيْـضًا لمصالح العدوّ الإسرائيلي، وهو ما يعني أن إعادة رسم الخارطة السورية يخنق قطاع غزة وَمقاومتها الباسلة؛ فهل أغرى الأمريكان بشكل أَو بآخر تركيا بلعب دور البيدق في الصراع؟ أما أن أنقرة هرولت نحو ذلك مدفوعة بتحقيق مصالحها الذاتية؟ أيًّا يكن فالنتيجة واحدة، وَهي أن المقاربة الأمريكية الغربية الإسرائيلية في الساحة السورية نجحت حتى الآن، من خلال الرأس التركي أولاً في قلب الطاولة وتعديل الموازين لحساب معسكر العدوان على قطاع غزة، وأن أردوغان برز كلاعب يمكن الاتكال عليه غربيًّا وصهيونيًّا في الساحة السورية؛ في ظل ما يعانيه بقية الوكلاء في المنطقة من حالة إرباك وَعجز كبير عن إنتاج صيغة جديدة لإدارة المواجهة.
مع ما سبق يلاحظ أن الأمريكي لم يترك كُـلّ اللعبة بيد تركيا وإن كان التكتيك قد أتاح للعصابات المرتبطة بها أن تُدشّـن التحَرّك، قبيل أن تباشر الجزء الآخر من المخطّط قوات قسد الكردية وهي أمريكية النشأة وَالتمويل والتوجيه بشكل محض، ثم اكتملت أركان الدور الأمريكي الصهيوني بغاراتهما يوم الأربعاء الثالث من ديسمبر الجاري على مواقع الجيش السوري، كما أن أمريكا تبقى المُحرك الأصيل للجماعات التكفيرية، وسبق وصرحت تركيا أن هذه الجماعات في سوريا لا يمكن أن تتنفس دون ضوء أخضر أمريكي وَلا يُمكن لها أَيْـضًا النجاة دون رعاية أمريكية، وترك بدء إعادة استئناف المخطّط في الأراضي السورية مرتبطًا بالجماعات المنضوية تحت وسم المعارضة السورية هامشًا للآلة الإعلامية أن تعمل بشكل مُريح يمكنها الادِّعاء والتحليل أن القوات الكردية تحَرّكت تحت حِمى اقتسام المغانم، وَأولها اغتنام فرصة الضعف أَو هشاشة الجهوزية للجيش السوري وحلفائه، وأن الاندفاعة الأمريكية الصهيونية محاولة أَيْـضًا لقطف ثمار المُتغيرات في سوريا.
تركيا من الإنكار إلى الإقرار:
تفتقر تركيا بشكل فاضح لما يدعم نفيَها لعبَ أي دور في تحريك الجماعات المُسلحة ودفعها للهجوم على حلب وإدلب وغيرهما، فمن المشهورِ والشائع أن أنقرة هي المُشغل الرئيس لهذه الجماعات، ومن يملك وبشكل حصري إصدارَ التعليمات والتوجيهات لها، وَعلى هذا الأَسَاس كانت تركيا إحدى الدول الثلاث الضامنة لمسار أستانا بشأن سوريا، والذي أفضى إلى خفض التصعيد في المناطق المستهدَفة بهجوم الجماعات المسلحة والإرهابية في المرحلة الراهنة، توقيت الهجوم أَيْـضًا يُمسك بأنقرة مُتلبسة بالجرم؛ فقد جاء في أعقاب اتّفاق وقف إطلاق النار في لبنان وَالجولة الأخيرة من مفاوضات أستانا في 11 – 12 نوفمبر 2024م.
وكانت حاولت فيها تركيا الوصول لتطبيع العلاقات مع سوريا وفق شروطها أَو دون أن تنسحب من الأراضي الواقعة تحت احتلالها شمالي سوريا وَغرب العراق، وَكانت أنقرة علَّقت تحقيقَها تقدُّمًا ضمن هذا السقف مدفوعةً بتقديرات ضعفِ القدرة الروسية والإيرانية، والفراغ الذي تركه حزبُ الله في سوريا؛ لانشغال الأولى في أوكرانيا وَالثانية والثالث في المواجهة مع كيان العدوّ والمعسكر الغربي؛ أي أن تركيا رأت في المستجدات الإقليمية وَأَيْـضًا الدولية فرصةً مواتيةً لقلبِ موازين القوة في الساحة السورية لصالحها وَتعزيز مكانتها الإقليمية على حساب خصومها أَو من هم في هذا الحكم وإن ألقى ذلك بظلاله على المقاومة الفلسطينية.
نحن أمام تآمر تركي وخيانة كبيرة بعد عام ونيّف من الفُرجة على الإبادة في غزة ومحاولات القضاء على مقاومتها توجت بالذهاب لتوفير مِظلة أُخرى لتحقيق ذلك عن طريق تخلي أردوغان عن لعب دور إيجابي في مشروع التسوية في سوريا كدولة ضامنة لمسار أستانا والتحول للعمل على تخريبها وَزعزعة استقرارها وإضعافها، وتركيا اليوم لم تعد تنكر التآمر، بل يفاخر الرئيس التركي بـ “أن إدلب وحماة وَحتى حمص بيد المعارضة السورية وهم مُستمرّون باتّجاه دمشق” وجاء في تصريحاته “كنا مددنا يدنا لبشار الأسد لكنه لم يستجب”.
واللافت أن أردوغان يتلاقى مع الجولاني في توزيع رسائل التحذير للدول المتضررة من إضعاف سوريا بما تعنيه لمحور الممانعة؛ فإذا كان الجولاني خص العراق برسائل التحذير؛ فنجد أن أردوغان وجَّهها للبنان ولكن بطريقة أكثر احترافية، كما عكست ذلك الأخبار عن الحديث الهاتفي الذي دار بينه وَرئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان.
كما لا يمكن لأحد أن ينُكر أن الضرر في سوريا يُصيب حركة المقاومة حماس تمامًا كما يُصيب حزب الله وَإيران والعراق قبيل سوريا نفسها، وقد أشار إلى ذلك مجرم الحرب بنيامين نتنياهو عقب اتّفاق وقف إطلاق النار في لبنان حين تحدث أن الاتّفاق يتيح التفرغ للجبهات الأُخرى مع إيران وسوريا والعراق.
خيارات محور المقاومة:
تبدأ الأولويات مع تثبيت خطوط جديدة للمواجهة، وَالعمل على استعادة زمام المبادرة، وتلافي كُـلّ مظاهر القصور والأخطاء في انتشار القوات وملء الفراغات فيما تبقى من محافظات، وكلّ هذا رهن إرادَة المواجهة الحقيقية في دمشق مع مبادرات ميدانية لكل محور المقاومة، حتى يتم التقاط الأنفاس أولاً قبل الشروع في ملحمة استعادة الأرض، كما يلزم النظام السوري نفسه إعادة النظر في العلاقة مع كُـلّ من سبق ولعب بدماء السوريين من جهات وأنظمة؛ إذ يبقى هدف هؤلاء جميعًا منع عودة سوريا القوية، على أن الأهم هو أن يضع المحور بشكل دقيق تقديرات للواقع سياسيًّا وعسكريًّا، وكيف يُمكن خلق مشاكل ومعضلات رئيسية أمام الأعداء في أكثر من جبهة وساحة وإن كانت سوريا هي الجبهة التي يحاول العدوّ الإحاطة بها ومنع تشكل أرضية صُلبة للمحور فيها على مستوى الوضع الميداني واللوجستي وَالإمْكَانات والقدرات والوضع النفسي والمعنوي، وهذه هي الأولويات بالنسبة للمحور على قاعدة أن سوريا هي مركز المواجهة وتطوراتها تؤثر على صورة المنطقة ككل، كما سبق وأشرنا لذلك.
ماذا عن الدب الروسي؟
من البديهي أن تستحوذَ تطوراتُ الميدان السوري على اهتمام روسي رسمي، وأن تُعبِّرَ موسكو عن ذلك بأكثَرَ من طريقة، لكن ثمة معطيات تشير إلى أن الخلاف كان محتدماً بين الحلفاء، وأن الروس عمدوا إلى سحب كلّ بطاريات إس 400 من سورية، في ظل تقديرات أن يدفعَ الرئيسُ الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بعد تسلمه سدة الحكم، ناحية مربع جديد في العلاقات بين روسيا والغرب من البوابة الأوكرانية –السورية، وأن موسكو لا تكترث بإضعاف سوريا أَو قل محور المقاومة في سبيل تحقيق مكاسب في أوكرانيا، وَأن الروس كَثيرًا ما غازلوا الغرب وتركيا وغيرهم من اللاعبين ضمن المعسكر الأمريكي بالحديث عن ضرورة الذهاب إلى حَـلّ سياسي تكون ما تُسمى بالمعارضة السورية جزءاً منه، غير أن ثمة قراءةً مُغايرة تستبعد أن تكون روسيا في وارد التخلي بشكل ما عن أهم استثمار جيوسياسي لها خلال أربعة عقود.
ويتوقف هؤلاء عند شواهدَ منها إقالة روسيا المسؤول عن قواتها في سوريا الجنرال سيرغي كيسيل، وتعيين ألكسندر تشايكو، على طريق الاستعداد لمرحلة جديدة من مقاربة الصراع في سوريا، وهذا مؤشر أن موسكو تتشارك مع سوريا وإيران رؤية واحدة تدور حول ضرورة إعادة ضبط الأوضاع عسكريًّا، وأن لا رهان على التفاهمات والحلول السياسية، ولربما كان ذلك ما قصده ديمتري بيسكوف -السكرتير الصحفي للرئيس الروسي بقوله: إن “روسيا تواصل دعم الرئيس السوري بشار الأسد وتعملُ حَـاليًّا على تشكيلِ موقف بخصوص الحاجة إلى اتِّخاذِ تدابيرَ لتحقيق الاستقرار في الأوضاع في سوريا”.
من هنا يرى أصحاب القراءة المُعاكسة أن التطورات الأخيرة في سوريا ستفضي إلى انطلاق معركة كسر العظم للجماعات المسلحة بمعزل عن الارتطام مع اللاعبين الإقليميين وراء هذه الجماعات؛ لناحية أن دراماتيكية المُتغيرات قد عطَّلت قطارَ التسوية.
مع ذلك تبقى القراءتان واردتَين ومحتملتَين، ولا يسعنا أن نتحمس لواحدة منها، لكن يمكن أن نشير أن متابعتنا مجريات الأحداث لاحظت تعمّد معظم وسائل الإعلام تظهير موقف روسيا في سوريا، كما إيران في وضع ضعيف ومهزوز يفتقد القدرةَ على التأثير في الميدان؛ بسَببِ المرحلة الحادة حَـاليًّا في أوكرانيا وضرورة التركيز عليها، في المحصلة ينبغي على المحور قطعُ الطريق على أي تفاهم ممكن لروسيا مع المعسكر الأمريكي الصهيوني يضر بمحور المقاومة ويعرّضه لاهتزازات ارتدادية، وهذه ترتبط بدرجة رئيسة بجنوب سوريا أولًا ثم بحدوده الأُخرى.