وثبــــة الثوار وسطوة اللصوص
د/ عبد الرحمن المختار
تُعرَّفُ الثورةُ بأنها (تحَرُّكٌ شعبيٌّ عفويٌّ غيرُ منظَّم تهدفُ إلى تغيير أوضاع البلاد في جميع المجالات) فكون الثورة تحَرُّكًا شعبيًّا يعني أن جميع فئات الشعب تتفق أن الأوضاع السائدة في البلاد لم تعد قابلة للاحتمال؛ إما بسَببِ فساد النظام الحاكم أَو ظلمه وتجبره وطغيانه واستبداده بحقوق الشعب، وإما لتفريطه في سيادة الشعب وارتهانه لقوى خارجيه ورهنه لمستقبل البلاد بيد هذه القوى، وإما لخيانته وعمالته وتبعيته وإهداره لاستقلال وسيادة البلاد؛ ولذلك لم يعد أمام فئات الشعب من خيار إلَّا الثورة وإسقاط النظام الحاكم واستبداله بنظام يجسد الإرادَة العامة ويحفظ سيادة واستقلال البلاد وحرية وأمن وكرامة وسلامة الشعب.
وكون الثورة تحَرُّكًا شعبيًّا عفويًّا غير منظم يعني ذلك أن الخروج الشعبي لفئات متعددة من أبناء الشعب يجسد التقاء إرادَة جميع هذه الفئات على ضرورة التغيير، وأنه لم يكن هناك من ترتيب أَو تخطيط مسبق كما هو الحال بالنسبة للانقلاب، وإنما يأتي تحَرّك جميع الفئات بمختلف توجّـهاتها لشعورها بالحاجة الملحة للتغيير، وفقًا لأي سبب من الأسباب التي دعت الشعب للثورة، والتي أَدَّت إلى تدهور أوضاع البلاد في جميع المجالات، وتهدف الثورة إلى ترميم الأوضاع العامة وإصلاحها، وَإذَا ما أسقطنا ما سبق من أسباب للثورة على ما حدث في سوريا، فَــإنَّنا سنخلص إلى نتيجة مفادها أن النظامَ الذي كان قائمًا في سوريا لم يفرط في سيادة البلاد، ولم يرهن مستقبلها للقوى الخارجية، ولم يكن نظامًا عميلًا لقوى خارجية أَو تابعًا لها، ولا يمكن بحال من الأحوال مقارنة مظاهر فساد النظام الحاكم بفساد غيره من الأنظمة العربية الأُخرى.
وبغضِّ النظر عن صيغة النظام السوري السابق فأنا هنا لستُ بصدد الدفاع عنه، فلا فائدة ترتجى من هذا الدفاع، فالنظام قد ولّى وانتهى الأمر، لكن الواجب يحتم على كُـلّ حر شريف قول كلمة الحق تحديدًا في خضم هذا الواقع المزري للأنظمة العربية، التي تعد في أغلبها أنظمة عميلة تابعة لقوى أجنبية تؤدي أدوارًا وظيفية لخدمة هذه قوى خارجية، وهي أنظمة ديكتاتورية وراثية تسلطية قمعية أسوأ مما كان عليه حال النظام السوري السابق، والفارق بينهما فقط أن القوى الأجنبية راضية عن الأنظمة العربية الوظيفية، وليست راضية عن النظام السوري؛ كونه قد رفض الانصياع لمخطّطات القوى الاستعمارية الغربية والقبول بالدوران في فلكها، وإن كان ما يؤخذ على النظام السوري السابق أنه نظام قمعي لم يحترم الحريات العامة، فهذا الوصف ينطبق بصورة أوضح على أغلب الأنظمة العربية، بل إن بعضها أشد قمعًا للحريات العامة، غير أن القوى الخارجية هي من يغطي سوءات تلك الأنظمة، وهي من حرَّضَ في المقابل على النظام السوري، وليس معنى هذا إقرار بأن النظام السوري كان على صواب، بل إن قمع الحريات العامة خطأ فادح مهما كانت المبرّرات!
وشخصيًّا لي تجربةٌ مع النظام الأمني السوري، ويفترض تبعًا لهذه التجربة أن أكون أكثر تحامُلًا على ذلك النظام وأكثر فرحًا بسقوطه، لكنني لم أكن كذلك أبدًا، فأثناء دراستي للماجستير في العاصمة العراقية بغداد كانت لي زيارة ميدانية للعاصمة صنعاء في عام 2001 متعلقة بمادة الدراسة، ورغبة مني في التعرف على بلد عربي لذلك سافرت بَرًّا من بغداد باتّجاه سوريا وفي الحدود تم سحبُ جواز سفري وإعطائي كرتًا بدلًا عنه وإشعاري بمراجعة جهاز المخابرات العامة في دمشق، وتم احتجازي والتحقيقُ معي وعندَ استفساري عن سبب سحب الجواز والاحتجاز تم تهديدي بأنه إذَا لم التزم بالرد في حدود السؤال فسيتم تمديد احتجازي وحبسي، وعند انتهاء الإجراءات وإعادة جوازي وإشعاري بإمْكَانية السفر سألت الضابط: إذَا عدتُّ مرةً أُخرى عن طريق سوريا فهل سيتم سحبُ جواز سفري واحتجازي. فقال: لا!
وقد استخلصت من خلال أسئلة التحقيق الذي غطى بياض أربع صفحات أن سبب الاحتجاز كان للتأكّـد مما إذَا كنت منتميًا لحزب البعث العراقي، والحقيقةُ أنني التمست عُذرًا لذلك الإجراء؛ فسوريا بلد مواجهة مع أَلَدِّ عدو للأُمَّـة العربية بل وللإنسانية، وبعد عامين تحديدًا في بداية عام 2003 وعقب حصولي على درجة الماجستير ورغبةً مني في التعرف على دمشق، ومعرفة مصداقية عدم تكرار ذلك الإجراء الذي تعرضت له سنة 2001 قرّرت العودةَ من العراق مع أُسرتي عن طريق سوريا وبالفعل لم نتعرض لأي إجراء غير اعتيادي في لا في الحدود ولا في العاصمة دمشق التي استقررت بها ثلاثة أَيَّـام وزُرتَ العديد من معالمها، وزرت دمشق بعد ذلك ثلاث مرات في أوقات متفاوت ولمستُ تعاملًا راقيًا من جانب المعنيين، ونظرة مختلفة عن عام 2001!
وما حدث مؤخّرًا في سوريا لا يمكن وصفه بحال من الأحوال بأنه ثورة هدفها التغيير إلى الأفضل، فالثورة الأصل أنها جاءت لتحميَ قيمة أَو قيمًا سامية تعرضت للانتهاك، وليس هناك ما هو أسمى من الحرية والسيادة والاستقلال، هذه القيم تعرضت للانتهاك السافر من جانب الكيان الصهيوني، بعد سقوط النظام السابق، دون أن يكون لمن استولوا على السلطة أي موقف يُذكر؛ وهو ما يؤكّـد أن أُولئك لم يكونوا ثوارًا، فالثوار إنما حرَّكتهم الغيرة والنخوة على انتهاكات النظام الحاكم لحقوق فردية، أما وقد جاء الانتهاك من خارج الحدود لسيادة واستقلال البلاد، فالأصل أن الغيرة والنخوة لدى الثوار يكون مستواها أعلى كون المنتهك صهيونيًّا من خارج الحدود، والانتهاك شامِلًا الأرضَ والشعبَ والسلطة!
وطالما أن من استولوا على السلطة لم يحرِّكوا ساكنًا فلا ينطبق عليهم وصف الثوار مطلقًا، بل ينطبق عليهم وصف لصوص محليين تمكّنوا من السطو على السلطة بإسناد لصوص خارجيين؛ فاللصوص هم الذين يأخذون ما يمكنهم أخذه مما سطوا عليه، وترك ما تبقى هدرًا لكل من هب ودب، أما الثوار إذَا ما وثبوا على السلطة فَــإنَّهم سيجسدون من خلالها سيادة واستقلال البلد، ويحافظون من خلالها على كرامة وحرية وسلامة الشعب ومكتسباته، وهو ما لم يحدث بعد الاستيلاء على السلطة في سوريا، فقد أهان الكيان الصهيوني الشعب السوري واستباح جميع نطاقه الجغرافي وانتهك سيادته واستقلاله، وأهدر كرامة شعبه بشكل لا يمكن بحال من الأحوال مقارنته بما فعله النظام السابق خلال عقود حكمه الماضية! فكرامة عامة الشعب كانت مصانة، وسيادته البلد واستقلاله لم تتعرض لمثل ذلك الانتهاك، بعكس ما حدث بعد سقوط النظام، وكأن الأمر لا يعني الحكام الجدد، أَو كأن استيلاءهم على السلطة هدفه تسهيل المهمة للكيان الصهيوني لتدمير كُـلّ مقومات حماية سيادة واستقلال البلد وسلامة أراضيه، وكرامة شعبه!
فأية إهانة أكبر من تدمير كُـلّ البنية العسكرية الهجومية والدفاعية للبلد؟! وأية إهانة أكبر من وصول قوات الكيان الصهيوني لمسافة خمسة وعشرين كيلومترًا من العاصمة دمشق؟ وأية إهانة لعامة الشعب السوري أشد من وقوف نتن ياهو ووزير حربه على قمم جبل الشيخ السوري والإعلان من هناك عن بقاء القوات الصهيونية في تلك القمم دونما موقف يمكن تسجيله لمن سطوا على السلطة في دمشق؟ الذين اكتفوا بدعوة السكان للخروج إلى ساحة الأمويين في أول جمعة بعد استيلائهم على السلطة للاحتفال بالإهانات الصهيونية المتتالة للشعب السوري، أما الدولة السورية فلم يعد من مجال اليوم للحديث عن دولة في سوريا فلا دولة بدون سلطة ولا سلطة حقيقية بدون سيادة.
ولن يختلف وضع السلطة الشكلية القائمة اليوم في دمشق عن سلطة محمود عباس في الضفة الغربية، فسلطة دمشق ستكون وظيفية تخدم القوى الخارجية حالها في ذلك مع الأسف الشديد أسوأ من حال مجمل سلطات الأنظمة العربية الوظيفية.