دروسٌ للحكومة من حكومة الإمام علي بن أبي طالب (4):

د. محمد قاسم علي العاقل

 (4) الرقابة الوقائية والقضاء على الفساد:

الرقابة الشعبيّة:

قول الإمام علي “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: “إنَّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كُنتَ تنظر من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كُنتَ تقول فيهم، وإنما يُستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على السن عباده“.

هذا النوع من الرقابة يتميز به الإسلام، ويوجبه، بل ويجعل أُمَّـة الرسول الأعظم تتميز عن غيرها لو التزمت بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إعمالًا لقوله سبحانَه وتعالى: “كنتم خير أُمَّـة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر” آل عمران: 110، وقوله سبحانه وتعالى: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر” التوبة:71، وفي الإسلام للأُمَّـة أفرادًا وجماعات حقُّ رقابة الموظفين والمؤسّسات، إذَا ظهر منها ما يخالف مصلحة المجتمع، على أن يكون هذا الحق ضمن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا له ضوابط وشروط في الإسلام منها: الإسلام، والتكليف، والقدرة، والتعليم، والورع، وحُسن الأخلاق…، وبذلك تُعدّ الرقابة الشعبيّة أَو الجماهيرية في المنهج الإسلامي واجبًا فرضها الله تعالى على المسلمين بشروطها وواجباتها، وهو ما يسمى بـ “الحسبَة”، والذي ينبغي فيها أن تكون الدعوة مثمرة، وأن يكون آمنًا على نفسه، لقول الله تعالى: “عليكم أنفسكم لا يضرَّكُم من ضَلَّ إذَا اهتَديتُم” المائدة: 105، والحسبة تجب إذَا القائم بها يعلم أن دعوته سيترتب عليها زوال المنكر دون أن يلحق به ضرر، أما إذَا كان يترتب عليها إحداث منكر آخر، أَو التغالي والتعنت في فعل هذا المنكر، فَــإنَّها لا تجب، وتستحب إذَا أمن الفرد على نفسه، وعلم أن دعوته لا فائدة منها، وضررها أكثر من نفعها، كأن تكون فتنة لا يُحمد عقباها.

وقد أوضح الإمام علي “عَلَيْهِ السَّلَامُ” مبدأ من المبادئ الهامة لنجاح العمل الإداري، الذي خوَّلَ فيه الإمام للرعية بمراقبة الموظف، وتشكيل رأي عام على تصرفاته، فكان الكتاب بمثابة تخويل للرعية لمراقبة الموظف، وهذا يعني إن الإمام “عَلَيْهِ السَّلَامُ” جعل معيار رضا الرعية (الرأي العام) كشرط في نجاح الموظف؛ لأَنَّ هذا الرأي يُعد مصدرًا رئيسًا في الضغط الإيجابي على العامل للتعامل بإيجابية مع الوظيفة، كما أن هذا الإجراء جعل من سكان تلك الولايات سواءٌ أكانوا مسلمين أَو من أهل الذمة يراقبون تصرفات الولاة والعمال، ويشخِّصون الأخطاء التي تحصل من هؤلاء، وأمرهم بإيصال أية سلبية يرونها في ولاياتهم إليه مباشرة، عن طريق الكتابة أَو عن طريق المجيء إلى عاصمة الحكم وتقديم الشكاوى والتظلمات؛ لذلك اعتمد “عَلَيْهِ السَّلَامُ” مجموعة من الوسائل؛ مِن أجلِ تفعيل الرقابة الإدارية على العمال والولاة، ومن هذه الوسائل: المخاطبة المباشرة للناس، عندما يعيّن أحد الأشخاص في عمل ما، وهذه المخاطبة على نوعين: إما إلقاء كلمة يجعل فيها الرعية رقيبة على الوالي أَو العامل، أَو إلزام هؤلاء بقراءة كتب التعيين على الناس، عندما يتولون أعمالهم، ويمكن التعرف على النوع الأول من الخطاب الموجه من الخليفة للناس، عندما ولَّى عبدَالله بن عباس على البصرة، بعد معركة الجمل، إذ خطب الناس في المسجد، وقال لهم: “يا معشرَ الناس قد استخلفت عليكم عبدَالله بن العباس، فاسمعوا له وأطيعوا أمرَه ما أطاع اللهَ ورسوله، فَــإنَّ أحدث فيكم أَو زاغ عن الحق فأعلموني أعزلْه عنكم…“، وهذا يعني أن أمر بقاء الوالي أَو عزله مرتبط بطاعته لله ورسوله أولًا، والعمل بمبادئ الإسلام التي تقوم على العدل والمساواة، ثم جعل الناس مصدر الرقابة على الوالي؛ فهو باقٍ في عمله ما دام يعمل بالحق، فإذا زاغ عن هذا المنهج فَــإنَّ الخليفة خوَّل الناس بالكتابة له، وبالفعل فقد كتبت قبيلة تميم إحدى القبائل التي كانت تسكُنُ البصرة للخليفة، إن الوالي عبدالله بن عباس كان يستعملُ الشدةَ في معاملتهم؛ نتيجة لأَنَّهم ساندوا المتمردين في معركة الجمل، فأرسل الخليفةُ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” للوالي كتابًا يلومُه فيه على هذا التصرُّف غير المقبول بحق الناس، لا سِـيَّـما أن الخليفة “عَلَيْهِ السَّلَامُ” أصدر عفوًا عامًّا عن كُـلّ المشتركين بتلك المعركة، ولم يستخدم وسائلَ انتقامية مع أعدائه، فكتب له: “وقد بلغني تنمُّرُك لبني تميم، وغلظتك عليهم، فأربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على يدك ولسانك من خير أَو شر، فَــإنَّا شريكان في ذلك، وكُن عند صالح ظني بك، ولا يفلن رأي فيك“، كما أن قراءةَ كُتب تعيين الولاة والعمال على الناس؛ مِن أجلِ أن يكونوا مراقبين لأداء هذا الوالي أَو العامل، ويمكن أن نأخذ مثلًا على ذلك كتابَ الإمام علي “عَلَيْهِ السَّلَامُ” تعيين قيس بن سعد بن عبادة عندما ولاة على مصر، إذ كتب لأهل مصر: “وقد بعثتُ إليكم قيسَ بن سعد الأنصاري أميرًا فوازروه وأعينوه على الحق، وقد أمرتُه بالإحسان إلى مُحسِنِكُم، والشدة على مُريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديَه وأرجو صلاحَه ونصيحتهَ، نسأل الله لنا ولكم عملًا زاكيًا وثوابًا جزيلًا ورحمة واسعة“، وهذا معناه أن الخليفة عرّف الرعيةَ بحقوقهم، بحيث لا يستطيع أيُّ والٍ أن يتجاوزَ على حقوقهم، رغم ثقة الخليفة بقَيسٍ وبسيرته، كذلك فَــإنَّ الخليفة “عَلَيْهِ السَّلَامُ” قد أعطى الحقَّ للناس بالكتابة إليه مباشرةً في حالة ظلمهم الوالي أَو تجاوز على الأموال؛ لأَنَّ الوالي يُعَدُّ أعلى سلطة في الولاية، فتكون الشكوى مقدَّمةً إلى من هو أعلى منه في هرم السلطة وهو الخليفة.

ويتجلى مما تقدم أن منهجَ الإمام علي “عَلَيْهِ السَّلَامُ” منح المجتمع فرصًا واسعةً لمراقبة أعمال أجهزة الدولة؛ بهَدفِ التأكّـد من توظيف الإمْكَانات والموارد والفرص المتاحة لها في المجالات التي تحقّق خير العباد والبلاد، ولا يقتصر حقُّ أفراد المجتمع في مراقبة أداء العاملين وسلوكهم في جميع المؤسّسات على مراقبة أداء المستويات التنظيمية الدنيا في تلك المؤسّسات، إنَّما يمتدُّ ليشملَ حتى المستويات التنظيمية العليا.

ووفق هذا المنهج جاء في برنامج حكومة التغيير والبناء أهميّةُ تفعيل الرقابة والتوعية القانونية للعمل على توعية المجتمع بالواجبات الوطنية التي حدّدها الدستورُ ونظّمتها القوانين النافذة للحد من الفساد وحماية المال العام.

وهذا البرنامج يتوافق مع مضامين توجيهات قائد الثورة السيد عبد الملك بن بدر الدين الحوثي “حفظه الله” لحكومة التغيير والبناء بالسعي الجاد من الحكومة بكل وزاراتها ومؤسّساتها للتكامل مع الشعب، سواءً تشجيع وتحريك ودعم المبادرات المجتمعية أَو تفعيل القطاع الخاص للمشاركة في بناء البلد، وغير ذلك من طرق وأساليب التكامل والتعاون بين الحكومة والشعب.

وفي العصر الحديث هناك وسائلُ كثيرةٌ للرقابة الجماهيرية على أعمال الحكومة، وما الصحف والتلفزيون والإذاعة إلا إحداها، إضافةً إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن يجب أن تكونَ هذه الرقابةُ وغيرُها من أنواع الرقابة والتنبيه على الأخطاء يُراد بها المصلحة العامة، وأن تكون ذات طابع يُراد بها إصلاح الخلل والحد من الفساد وليست أهواءً شخصية أَو حزبية، أَو غيرها من الأهواء أَو البحث عن الشُّهرة كما تفعل بعضُ الصحف الصفراء وأبواقُ المرتزِقة.. فهل من مدَّكِر ومُعتبِر؟

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com