معادلة موجة الربيع الثالثة
عبدالرحمن مراد
سبق لنا تناول الدور التركي من زوايا متعددة في مقالات متعددة سابقة, ويتضح اليوم بشكل جلي وواضح -من خلال ما حدث في سوريا وقيادتها حركة التبدل في سوريا وإسقاط نظام الأسد– الدور الوظيفي الذي تقوم به تركيا في المنطقة العربية ومدى تماهي السياسة التركية مع الاستراتيجيات التي تستهدف الدول العربية الرامية الى تحقيق فكرة الشرق الجديد القائم على التجزئة والتقسيم على أسس ثقافية وعرقية وطائفية, اليوم تركيا تعلن بكل وضوح من خلال مؤشرات الواقع وتفاعلاتها مع الأحداث عن الدور الوظيفي الذي ظل يتوارى زمناً، حيثُ كانت قطر تتصدر الأحداث وتركيا تقوم بأدوار ثانوية في سياق الأحداث والمرحلة السابقة .
ما يحدث اليوم هو العكس تركيا في الواجهة وقطر دورها ثانوي, بدليل فشل قطر في الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة واضطرارها تحت وقع الضغوط إلى طرد قيادة حماس التي كانت تستضيفها على أراضيها, ويبدو من سياق الأحداث وكما هو معلن أن هناك موجة ربيع عربي ثالثة وفق أبعاد الاستراتيجيات في التقسيم للمنطقة، وقد بدأت بوادر ذلك من سوريا التي يراد لها أن تكون ثلاث دول, دولة سنية, ودولة علوية, ودولة متعددة الأعراق, وهذه الدول ستكون منزوعة السلاح، حيثُ بادرت اسرائيل إلى ضرب المعامل الكيميائية السورية ومخازن السلاح للجيش السوري, وسلاح الطيران, وتدمير البنية الدفاعية لسوريا التي تراكمت عبر العقود والأزمنة, وقامت إسرائيل باحتلال مساحات واسعة في الجولان وشارفت أن تطل على دمشق وتسيطر على العاصمة السورية نارياً, في حين تشكل أنقرة محوراً مهماً للاتفاقات والصفقات السياسية ويقصدها زعماء العالم للحوار والتفاوض على المصالح, ومن المهم الإشارة الى خطاب أردوغان بعد اجتياح سوريا وسقوط نظام الأسد فيها؛ إذ بدا وكأنه خطاب نصر يخص الدولة التركية, ويؤكد محوريتها في الحدث, وتصدرها للمشهد السياسي والعسكري في المنطقة, مع تراجع الدور الإيراني والدور الروسي فيما يخص سوريا على وجه التحديد .
تركيا بدأت بالحرب الباردة واتخذت من الثقافة ومن الدراما مجالاً للسيطرة على الوجدان العربي والإسلامي وكانت تنفق الأموال الطائلة حتى أضحى ما تنتجه هو الأكثر مشاهدة مع تراجع ملحوظ للدراما المصرية والسورية في العقدين الماضيين من الزمن، بل كاد أن يكون مسلسل عثمان وأرطغرل الأكثر تأثيراً لما لهما من غايات وأهداف تخص فكرة الخلافة وعودة الدور التركي إلى المنطقة العربية ليكون أكثر قبولاً من عموم الناس قبل خاصتهم, وقد ترك هذا الاشتغال الثقافي أثراً وتبدلاً في الوجدان العام العربي، بل كاد أن يتداخل مع الثقافات المحلية ليتضح من خلال الأسماء التركية التي بدأت تغزو المجتمع العربي على وجه العموم .
وتجدر الإشارة أن فكرة شبكة الإسلام المعتدل الذي ابتكرته مؤسسة راند الأمريكية تقوده اليوم تركيا, فمنذ تبدل المعادلة في حرب تموز 2006م لصالح حركة المقاومة الإسلامية وتركيا تخوض غمار المعركة من موقعها, بعد أن تغير مصطلح الشرق الأوسط الجديد ليصبح أكثر قبولاً من الجمهور السني وقد تحول إلى فكرة الخلافة الجديدة, وها هي تركيا اليوم تقود ما يسمى بموجة الربيع الثالثة التي تسعى إلى تمكين إسرائيل من كلّ المنطقة العربية لتكون هي الدولة المركزية في المنطقة العربية من خلال التفوق في معيار القوة, ومن خلال فرض الهيمنة والتحكم بمصالح المنطقة بعد أن تضعف محور المقاومة إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً .
ولعل الذاكرة اليمنية لم يغب عنها دور تركيا بعد فبراير2012م في اليمن وحركة الأسلحة والسفن والشحنات التي تورطت بها السفارة التركية في صنعاء، كما أن النشاط الثقافي كان مشهوداً من خلال الحركة المنظمة بين كوادر وشباب والإخوان في الزيارات المنظمة بين أنقرة وصنعاء, وقد برز الدور أكثر وضوحاً من خلال هيئة تحرير الشام التي تغيرت قناعاتها من فكرة الغنيمة إلى فكرة اقتصاد الدولة ومن فكرة الفوضى الخلاقة إلى فكرة الانتظام والتعايش واحترام عقائد الجماعات والطوائف والترويج لهذه المسار من خلال التناولات الإعلامية والحوارات والمقالات والندوات والتصريحات لقادة هيئة تحرير الشام .
تركيا اليوم تستغل الفراغات وتحاول لأن تملأ تلك الفراغات بما يحقق طموحاتها المستقبلية ويبدو الواقع أكثر استجابة لمشروعها؛ فلها في اليمن مثلاً شبكة إعلامية واسعة الانتشار يلاحظ المتابع لها الانفتاح الكبير على قيم كانت غير مقبولة, مثل ظهور مذيعات بملابس عصرية, وبث أغان, والحديث عن قضايا ثقافية كان الإخوان في سالف أيامهم يرونها من مفسدات الدين والأخلاق, وبث مسلسلات تركية متعددة الأغراض والأهداف , ومن خلال شبكات عنقودية في وسائل التواصل الاجتماعي للترويج والدعاية لتركيا, ومن خلال المواقف الانسانية تجاه الأدباء والمثقفين التي تعلن عنها أدواتها, ومن خلال البعد الإنساني الذي يترك أثراً في وجدان المجتمع, فالإنسان يستعبده الإحسان, فضلاً عن حركة استقطاب خفية للفاعلين الثقافيين في عموم الجغرافيا, ومن خلال حفلات التكريم وغيرها من الوسائل التي تهدف إلى توسيع دائرة النفوذ وتزرع بذرة القبول لها في الوجدان العام, ومثل هذه الأدوار تغيب عن الكثير من قادة المقاومة الذين تستغرقهم العقوبات الاقتصادية وتحصر تفكيرهم في الجانب العسكري دون استشعار للجوانب الثقافية التي يشتغل عليها الأعداء .
ومواجهة عمليات الاستهداف هذه لا يتحقق إلا من خلال الاستراتيجيات وبذات الأدوات ومن خلال كادر محترف ومثقف وواع، ومن خلال الانفتاح على المشهد الثقافي كله بكل طيفه وتعدده، ومن خلال التفاعل مع التقنيات الحديثة في تقديم محتوى ثقافي مقاوم يخاطب الكل بلغته وبالقواسم المشتركة , ولا بدّ لنا أن ندرك أن معادلة الموجة الثالثة من الربيع تختلف عن سابقاتها ومؤشراتها في سوريا لمن ألقى السمع أو كان بصيراً .