دروسٌ للحكومة من حكومة الإمَام عليّ بن أبي طالب (5)
الدكتور/ محمد قاسم علي العاقل
(5) الرقابة السابقة:
قول الإمامُ عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَاْمُ”: “… ثم تفقَّد من أمورهم ما يتفقدهُ الوالدانِ من ولدِهما، ولا يتفاقمنَّ في نفسك شيءٌ قويتهم بهِ، ولا تحقرنَّ لُطفًا تعاهدتم بهِ وإن قَلَّ، فَــإنَّهُ داعيةٌ لهم إلى بذل النصيحة لكَ، وحُسنِ الظنِّ بكَ، ولا تدع تفقُّدَ لطيفِ أمورهم اتكالًا على جسيمها، فَــإنَّ لليسيرِ من لُطفكَ موضعًا ينتفعونَ به، وللجسيمِ موقعًا لا يستغنونَ عنهُ“.
يطلق على هذا النوع من السياسة الرقابة السابقة أَو الرقابة قبل التنفيذ أَو الرقابة الوقائية التي تستهدف اكتشاف الغش والتلاعب وجميع أنوع الفساد المالي والإداري في الحكم والإدارة، قبل المباشرة بتنفيذ الأعمال.
وتبدأ الرقابة في فكر الإمام علي “عَلَيْهِ السَّلَاْمُ” من أصغر الأمور، وتصحيح الأوضاع منذ بدايتها، وليس انتظار الأمور حتى تكبُرُ وتتفاقم، ثم يكونُ التنكيل والانتقام، وبالمحصِّلة فالرقابة في فكرِه إنّما هي تحصينُ العمال ضد الغش والخيانة، وبعبار أُخرى هي وقاية وليس علاجًا، ونتلمس ذلك من خلال النصوص التي وردت عن الإمام وهو يوصي عامله على مصر بضرورة تعاهد عماله بالمراقبة، وتفقد شؤونهم، والسؤال عن أحوالهم؛ ليتضح الهدف النبيل من الرقابة، والغاية سامية وجليلة، فالرقابة عنده منع الانزلاق في مهاوي الخطأ والظلم، وليس القبض على العامل متلبسًا بجُرمِه؛ فالربح في تحصين العمال والولاة من الخيانة للإمام والأمة، كما أن الرقابة في فلسفة الإمام علي كلها حُنوٌّ ومودة، وهي كتفقد الوالدينِ لشؤون ولدهما، والوقوف على احتياجاته؛ لتجنيبه ما يكره وما يكرهون من الأمور، فهي إذن رقابةُ الأب العطوف، وليست رقابة المتسلط الجبار.
لقد كان الإمَامُ عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَاْمُ” يختار العمال وفق معاييرَ خَاصَّة، منها: الأمانة، والدين، والخبرة وغيرها، إلا أنه لم يكتفِ بهذا الإجراء بل تعداه إلى وضع نظام متكامل يدقق على العمال أعمالهم، وجزء من هذا النظام كان العيون التي يستقي منها الخليفة معلوماته عن تصرفات هؤلاء الولاة والعمال في ولاياتهم البعيدة عن مركز الدولة، وهذا النظام يشبه نظام الاستخبارات في وقتنا الحالي؛ لأَنَّ هؤلاء العيون لا يعرفهم سوى الخليفة، ويكتبون إليه مباشرة عن السلبيات والإيجابيات التي يرونها في مناطق عملهم؛ لذلك نرى أن الإمَامَ عليًّا “عَلَيْهِ السَّلَاْمُ” كان يعلم بكل الأشياء التي تجري في الولايات الإسلامية، وقد أَدَّى هذا النظام الرقابي فاعليته في مراقبة تصرفات الموظفين التابعين للدولة الإسلامية؛ لأَنَّ الولاة كانوا حذرين في التعامل مع أموال المسلمين، وأصبحت لديهم قناعة أنهم لم يكونوا مطلقي اليد بهذه الأموال، وليست لديهم أية حصانة إذَا خانوا الأمانة التي في أيديهم؛ لذلك كانوا حريصين على أداء أعمالهم بصورة جيدة.
ومن خلال وصية الإمَام عليّ “عَلَيْهِ السَّلَاْمُ” لمالك الأشتر ندرك بأن هناك جهازين للعيون، أحدهما تابع للخليفة، يراقب الولاة والعمال، والآخر تابع للولاة يراقب عمال الخراج والجزية، لا سِـيَّـما أن الدولة الإسلامية كانت مترامية الأطراف، والإجراءات التي اتخذها الإمامُ بحث بعض الولاة والعمال تبيّن أنه كان يعتمد على العيون في معرفة الأخبار؛ إذ جاء في أغلب الكتب التي وجَّهها لولاته وعماله الذي تجاوزوا على أموال المسلمين، كذلك في الأخطار التي تتعرض لها الولايات والمدن الإسلامية عبارة “قد بلغني”، وقد وجَّه “عَلَيْهِ السَّلَاْمُ” كُتُبًا شديدة اللهجة إلى مجموعة من الولاة بناءً على هذه المعلومات؛ لأَنَّه على الرغم من الثقة التي أعطاها لهؤلاء الولاة، كان يريدُ أن يحميَ الناس منهم، إذَا ما استعملوا صلاحياتهم بصورة غير شرعية، كذلك كان يريدُ أن يحميَهم من أنفسهم أَيْـضًا.
وعلى الرغم من الشدة التي اتصف بها الخليفة على المقصِّرين، إلا أنه في الوقت نفسِه يحرصُ على عدم تصديقِ كُـلّ المعلومات التي ترد اليه، فقد كان يرسل إلى الولاة والعمال الذي ترد معلومات عنهم، ويتبع معهم مجموعةٌ من الإجراءات لمعرفة حقيقة هذه الأعمال، ولا يعاقب أحدًا منهم إلا عندما يقرُّ على نفسه بارتكاب الجناية، وفي الحالات التي كانت فيها المعلوماتُ الواردة صحيحةً، فَــإنَّ الخليفة كان يحاسب هؤلاء المقصِّرين، وأول هذه العقوبات هو عزلهم عن العمل في إدارة الدولة، واسترجاع ما أخذوه من أموال بالنسبة للمتجاوزين على أموال المسلمين، وظهور سلبيات على الولاة وعمال الخراج، مع أن الخليفة كان يدقق في اختيار هؤلاء، ولا يُعيِّن أحدًا منهم إلا بعد توفر مجموعة من المميزات فيه، وهذه المسألة كانت للإمام أكثر من كونها عليه؛ لأَنَّ هذه السلبيات كانت موجودة بكثرة في الفترة التي سبقت خلافته، والفترة التي تلتها، لكن لم تكن هناك محاسبة لهؤلاء، فلم يضطر أحد من الولاة أَو العمال أن يهرب بأموال المسلمين، ما دام يتصرف كيفما يشاء ومن دون حساب، أما في عهد الإمَام عليّ “عَلَيْهِ السَّلَاْمُ” فقد اختلفت الأمور، فهو لا يرضى بأي تصرف مهما كان بسيطًا، إذَا لمس فيه إساءة أَو خيانة للمسلمين أَو لأموالهم، كما أن هؤلاء الذين ممن توافرت فيهم الصفات المطلوبة لإشغال هذه الوظائف، ولم تُسجل عليهم ملاحظات قبل قيامهم بالعمل، والسلبيات التي ظهرت كانت بعد مباشرتهم في أعملهم؛ لذلك لا يتحمل الخليفة الإساءَات التي ظهرت منهم، لا سِـيَّـما أنه لم يسمح لهم بالاستمرار في الإساءة، فعزل قسمًا منهم وعاقب القسم الآخر.
وحكومة التغيير والبناء بأمسِّ الحاجة إلى الاقتدَاء بسيرة الإمام علي “عَلَيْهِ السَّلَاْمُ” في اتباع السياسة الوقائية والحد من الفساد، خَاصَّة وأن هناك استراتيجيةً وطنية لذلك، كما جاء في برنامجها بأهميّة دعم ومساندة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، إضافة إلى الالتزام بتوصيات قائد المسيرة القرآنية والثورة المباركة التي وجّهها للحكومة والمتمثلة في:
- الحرص على النزاهة الأخلاقية والمالية وصيانة النفس، والحذر من الفساد المالي والأخلاقي، ومن خطوات الشيطان، والحرص على حراسة الإنسان لكرامة نفسه وشرفه فهي لا تعوض.
- الاستقامة، فالإنسان قد يبدأ بداية جيدة، وبنيّة جيدة، وتوجّـه جيد، ولكن عندما تأتي الإغراءات وتبرز المصالح والاعتبارات الشخصية ويدخل الفاسدون والمستغلون والانتهازيون، وتبدأ حالة الغرور والعُجب بالنفس والتكبر والبَطَر؛ فهناك بداية السقوط والفشل والانحراف عن مقام المسؤولية وغايتها.
- محاربة الابتزاز والاستغلال، فقد أصبحت ظاهرةً متفشيةً في الوزارات عند كثير من الموظفين، سواءً بأُسلُـوب المماطلة في المعاملات ليلجأ صاحبُ المعاملة لتقديم المال؛ مِن أجلِ إنجاز معاملته أَو طلب المال منه ابتداءً وابتزازه بربط إنجاز معاملته بذلك.
- العناية بالرقابة المصاحِبة والمراجعة الداخلية، فإذا كان الإنسان حريصًا على نزاهته؛ فليحرِصْ على تقوية الجانب الرقابي لديه، وهذا مهم للغاية.
فهل من مُدَّكِر ومُعتبِر؟