اليوم التالي في غزة: ليلةٌ هادئة وأملُ متجدِّد.. إشراقةٌ جديدة للمقاومة وإحباطٌ صهيوني

المسيرة| خاص

وسط أجواء ممزوجة بالترقب والأمل، قضى سكان قطاع غزة ليلتهم الأولى، مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، بعد 471 يومًا، ارتكبت فيها آلة الحرب والإجرام الصهيونية كُـلّ ألوان الانتهاكات والجرائم الإنسانية.

ولأول مرةٍ منذ شهورٍ طويلة، خلت سماء القطاع المنكوب من الطائرات الحربية وأصوات القنابل والصواريخ، ليحل محلها صمت وهدوء لم يعتده السكان، حتى إن الأطفال ناموا لأول مرةٍ بعمقٍ وهدوء وأمان، وإن كانوا يفترشون أرضياتٍ من الأكوام المبعثرة لبقايا منازلهم المدمّـرة وخيامهم المهترئة، بعد أن توقفت حرب الإبادة، وصمتت الدبابات والمدافع والطائرات الإسرائيلية.

ومع دخول الاتّفاق حيز التنفيذ، بدأ سكانُ القطاع في محاولة استعادة مظاهر الحياة الطبيعية، وهذا أبسط حق للإنسان؛ يتجولون بحذر في شوارع المدن، رغم آثار الدمار التي خلفتها حرب الإبادة، وانتشرت عائلات بأكملها تبحثُ بين الأنقاض عن ممتلكاتها المفقودة، بينما بدأت جهودُ الإسعاف والطوارئ في إزالة الركام وفتح الطرق المغلقة، وعلى الصعيد الإنساني، سارعت فرق الإغاثة المحلية والدولية لتقديم المساعدات للنازحين والمتضررين.

لأول مرةٍ منذ شهورٍ طويلة، ظهر الأهالي يجولون في مناطقهم دون خوفٍ وكلهم أملٌ أن تنقشعَ الغُمَّةُ كاملةً، وأن ينجليَ الاحتلال عن كامل التراب الفلسطيني، ومع ساعات الفجر الأولى من صبيحة يوم الاثنين، بدأت الأسواق تفتح أبوابها، وعاد التجار لعرض بضائعهم رغم نقص كبير في المواد الأَسَاسية، وازدحمت المخابز ومحطات الوقود بالمواطنين الذين يسعون لتأمين احتياجاتهم، والبدء بالنهوض من جديد في مشهدٍ ينم عن قوة الإرادَة والتصميم والثبات الصمود.

في المقابل وفي مشهدٍ يغلفه الإحباط والغضب، يتصاعد الجدل داخل الكيان الصهيوني حول ما يُعرف بـ “اليوم التالي” في غزة، حَيثُ بدت حركة حماس وهي تمسك بزمام الأمور بقوةٍ غير مسبوقة، فالتغطيات الإعلامية الصهيونية كشفت عن حالةٍ من الصدمة؛ إذ شاهد الصهاينة المغتصبين عبر الشاشات عناصر حماس المدججين بالسلاح، وهم يعيدون رسم مشهد السيطرة في القطاع.

هذه الصور التي هزت الأوساط الصهيونية أجهضت السردية التي طالما تبجح بها المجرم “نتنياهو” والقيادة العسكرية حول المنجزات والانتصارات الوهمية، رغم أن ما جرى في غزة يفوق حدود التصديق، فقد حشد الأمريكي ومعه الغربي كافة إمْكَانياته لإبادة أهلها وتدميرها؛ بهَدفِ تمكين “إسرائيل” من الاستيطان فيها.

ورغم الحصار الذي استمر 15 شهرًا، والجوع الذي أنهك أجساد أهلها، والدمار الذي طال بيوتهم، وفقدان نصف عائلاتهم، خرج أبناء غزة إلى الشوارع يهتفون بشجاعةٍ: “عالقدس راجعين.. شهداء بالملايين”.

مشهدٌ استثنائيٌّ -بحسب كُـلّ المراقبين- عكس هزيمة “الغرب وإسرائيل”، في هذه الجولة؛ ليس فقط عسكريًّا بل أخلاقيًّا وإنسانيًّا، فتلك الجماهير التي ظهرت في المشهد وهي تتلاحم مع مجاهدي كتائب القسام، رغم كُـلّ محاولات الإعلام “الإبراهيمي والغربي” لشيطنة المقاومة، لم تتخلَّ عنها، بل التفت حولها وزادت صمودًا وعزيمة.

وعلى مدار الـ 471 يومًا من الطوفان، سعى هذا الإعلام جاهدًا لتوجيه أصابع الاتّهام إلى المقاومة بأنها السبب في معاناتهم ودمار بيوتهم، ومع ذلك، ظلوا يهتفون لقادتهم مثل “محمد الضيف ويحيى السنوار”؛ وما زاد من دهشة العالم هو الظهور المنظم لمجاهدي القسام خلال لحظات تبادل الأسرى، بثيابهم النظيفة المكوية، وآلياتهم اللامعة، وأسلحتهم الرشاشة.

وتساءل العالم، وحتى الإسرائيلي نفسه: “من أين يأتون؟ كيف يتمكّنون من الصمود والتجهيز بهذا الشكل رغم الحصار الخانق والمراقبة المشدّدة لكل أجهزة الرصد وتكنولوجيا العالم المتغطرس؟”، بيد أن هذا المشهد يؤكّـد أن رهان “إسرائيل” ومن معها على تدمير المقاومة وحماس على وجه التحديد، بل والقضاء على غزة بأكملها، قد فشل، ويثبت اليوم وكل يوم أهلنا في غزة أن إرادَة الجهاد والمقاومة لا تُكسر، وأن الدم يمكن أن ينتصر على السيف مهما بلغت قوة العدوّ.

وبات قرار اليوم التالي في غزة، فلسطينيًّا بامتيَاز، فتلاشت بسرعةٍ تلك المنجزات التي تحدث عنها جيش العدوّ، لتحل محلها خيبة أمل عميقة عبرت عنها وسائل الإعلام الإسرائيلية، منها صحيفة “معاريف” العبرية على سبيل المثال، أبرزت أن صور مجاهدي حماس شغلت أذهان الإسرائيليين وأزاحت التركيز عن حدث إطلاق سراح ثلاث مجندات أسيرات إسرائيليات.

المحلل الصهيوني الشهير “ميخائيل ميلشتاين” أقر بأن “اليوم التالي” بات حقيقة قائمة، مُشيرًا إلى أن حماس لم تكتفِ بالسيطرة العسكرية، بل باتت تفرض هيمنتها على المجال المدني أَيْـضًا داخل القطاع، وقال: إن “هذا الواقع صعب على الأُذُنِ الإسرائيلية، خَاصَّة وأنه يتناقض مع الهدف المركزي لهذه الحرب”، وهكذا وجد المغتصبون الصهاينة أنفسهم أمام مشهدٍ تتبدد فيه قدرتهم على فرض الشروط أَو تحقيق أي اختراق استراتيجي، أَو حتى الأمل في بقائهم على هذه الأرض.

وباتت الأنظارُ الإسرائيليةُ تتجهُ بقلق إلى تطورات الاتّفاقات والمراحل القادمة، ويظهر جليًّا أن الكيان لم يعد يتحكم بمفاتيح القرار؛ فالضغوط الدولية، الراغبة في منع عودة الحرب، تترافق مع الاحتقان الداخلي والتآكل البنيوي داخل حكومة الكيان؛ بسَببِ الاستقالات السياسية، مع مواجهة ضغط عائلات الأسرى؛ وكارثية المشاهد المؤثرة من عودة الأسيرات على نفسيات المغتصبين للأرض الفلسطينية، وإيمانهم بأن وجودهم فيها طارئ ولن يدوم.

ويجمع كُـلّ الخبراء والمحللين أن كيان العدوّ الصهيوني حاول جاهدًا محو آثار السابع من أُكتوبر المجيد، إلا أن الأوساط الصهيونية تعترف اليوم، بأن هذه الذكرى لم تعد مُجَـرّد حدثٍ مؤلم؛ بل أصبحت هاجسًا وجوديًّا؛ فالمخاوف تتعاظم من تكرار ما حدث، وهو ما يعكس حجم الأثمان الباهظة التي دفعتها “إسرائيل” دون تحقيق تغيير حقيقي في المعادلة.

وفي المشهد خلال خطوةٍ إعلاميةٍ نفسيةٍ لافتة قدمت كتائب القسام، هدايا تذكارية وشهادات إفراج للمجندات الأسيرات الثلاث اللواتي أُفرج عنهن ضمن المرحلة الأولى من اتّفاق وقف إطلاق النار، تضمنّت الهدايا خريطة لقطاع غزة وصورًا أثناء الأسر وشهادات تقدير؛ ما أثار تفاعُلًا واسعًا على منصات التواصل.

وصفها مراقبون بالذكاء الاستراتيجي للحرب النفسية المقاومة، في استغلال اللحظة لتعزيز صورتها الإعلامية، أكّـد من خلالها كُـلّ المراقبين والمتابعين والنشطاء العالميين، بأن هذه اللفتة تعبّرُ عن التزام المقاومة بالمعايير الأخلاقية في الحرب، مقارنة بانتهاكات الاحتلال؛ إذ لفت المشهد الأنظار عالميًّا بفضل ابتسامة الأسيرات واستلامهن الهدايا؛ ما جذب الإعلام إلى هذه الخطوة الفريدة.

إلى جانب ذلك، أظهرت كتائب القسام تنظيمًا دقيقًا في تسليم الأسيرات، من خلال إصدار بطاقات إفراج رسمية موقعة من الصليب الأحمر وممثلي المقاومة، ما عكس تطورًا في استراتيجيتها الإعلامية والإنسانية.

وعليه؛ يبدو أن الكيان يواجه اليوم حقيقة جديدة في غزة، حقيقة تفرضها حركة حماس وباقي فصائل الجهاد والمقاومة كقوةٍ فاعلة ومدججة بالسلاح، ما يشكل تحديًا استراتيجيًّا وسياسيًّا غير مسبوق، في ظل الواقع تتصاعد التساؤلات في الداخل الصهيوني المحتلّ حول المستقبل، وفي مشهدٍ يعكس أزمة عميقة تعصف بمفاهيم السيطرة والأمن التي طالما كانت ركيزة السياسات المعادية تجاه القطاع، وكل فلسطين.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com