هل انتهى عصر أمريكا مع تنصيب ترامب الثاني؟

المسيرة: إبراهيم العنسي

خطاب ناري غير متوقع يتطابق مع شخصيته وتوجّـهاته، حَيثُ يحيل أصدقاءه إلى شبه خصوم في لحظة.

لخص الخطاب توجّـهًا عنيفًا تجاه أصدقاء وخصوم أمريكا على السواء، ومصلحة أمريكا تكسر الحواجز التقليدية، وما هو متعارف عليه.

ترامب الجمهوري الحزبي، واللاحزبي، الشخصية الانتهازية المتقلبة، ليس معتادًا في الحقيقة أن يحمل ورود “الديمقراطيين” التي تخفي الكثير من المكر والخبث الهادئ.

على صراحته وعنفوانه ومزاجه المتقلب بدا للجمهور كملاكم حلبة، أطلق تهديداته التي لا تكترث لأحد “من اليوم سيحترم الجميع أمريكا”.. قال هكذا، فما علاقة هذا بثأر قديم بدا يومًا على محيا راعي الثيران الأمريكي؟، حَيثُ يرى أن أمريكا أصبحت “سُخرة” بيد من لا علاقة لهم بشعاراته القومية الشعوبية وقد عاد ربما كي يواجه أُولئك، وحيثُ السؤال المطروح عن علاقة ذلك بلجنة “مجلس المحاربين”، ومساعي الخلاص من سياسة التنوع بمؤسّسات الجيش؟ وعلاقة ذلك بلقاءات ترامب باليهود “اللاصهاينة”؟ والحديث عن سلام القوة؟ وتقاطع القومية الأمريكية مع حق المواليد في الحصول على الجنسية الأمريكية، والاستعداد لاتِّخاذ اللازم لترحيل المهاجرين غير القانونيين؟.

وبصراحة التاجر، يعيد تكرار حديث سابق أننا “لن نسمح لأحد باستغلال أمريكا”، أكان ذلك استغلالًا داخليًّا، حَيثُ مصالح اللا أمريكيين، أَو خارجيًّا، حَيثُ يرى في أُورُوبا حملًا ثقيلًا على حاكم البيت الأبيض، كما يرى في حلف شمال الأطلسي مستغِلًا حقيقيًّا، وفي ألمانيا باقتصادها الأقوى أُورُوبيَّا مستغِلًا وقحًا، وهذا ما يمكن إدراكه في هجوم مساعده “ماسك” على ديمقراطية ألمانيا، وديمقراطية فرنسا، وحزب ستارمر بريطانيا.

أما قصة القضاء والقانون فقد كانت سنوات ظهور ترامب الأولى في البيت الأبيض كرئيسٍ إيذانًا بفصل جديد في مواجهات الرجل الصدامي مع المحاكم الأمريكية، والمدعين العامين، ومحاولات “الدولة العميقة” توظيف ذلك في سياق عزله وتنحيته ثم إخراجه من مضمار السياسة تمامًا، فهو يتذكر تحذيرات من “لا يعملون لصالح أمريكا”، من عودته للبيت الأبيض بعد أن أُسقط في انتخابات 2020، ويصر عن تجربة مسبقة أن استغلال “وزارة العدل” سلاحًا سياسيًّا يجب أن ينتهي.

ويُذكِر أُولئك ذوي التأثير العميق في الداخل الأمريكي بما جرى له، ويستحث طاقات مؤيديه للتحدي وهم الأكثرية “واجهت مساعي لسلب حريتي أكثر من أي رئيس أمريكي.. نجوت من الاغتيال لـ (إنقاذ أمريكا)… انتخابات 2024 أهم انتخابات في تاريخ أمريكا… سوف أعلن حالة الطوارئ على حدودنا الجنوبية… سأبدأ ثورة التغيير… كُـلّ المهاجرين غير القانونيين سيتم ترحيلهم… سأعلن العصابات المجرمة جماعات إرهابية… سوف نقوم بالقضاء على العصابات المجرمة… سنملأ مخزوناتنا الاستراتيجية من الطاقة… أصدرت أوامري بتكثيف “التنقيب” عن الغاز والبترول… أريد أن أكون صانع سلام… سنغير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا… مهمة الجيش ستكون هزيمة أعداء أمريكا فقط”.

كلّ ذلك السرد الحماسي في خطاب تنصيب ترامب يظهر الرجل ليس كحاكم جاءت به انتخابات أمريكا، بل حاكم جاءت به حوافر الخيل، وهو من قال ذات يوم إنه معجب بتجربة الحزب الشيوعي الصيني في الحكم.. فهل يمكن تصوُّرُ كيف يفكِّرُ ترامب؟!.

والواضح في سرده للجمل التي تلاحقت تباعًا وكانت الآذان مشدودة إلى سماعها باهتمام كبير، أن رحلة التاجر الأمريكي ذي الأصول الألمانية، ستبحث عن مصالح أمريكا، حَيثُ لا مجال للحديث عما وراء الأمريكيتين قبل، وحيثُ ستتقلص إن لم تلغ مخصصات رعاية العالم، فأمريكا بحاجة كُـلّ سنت يمكن إنفاقها لأجل إعادة بنيتها المتهالكة.

هناك نفط صخري، وهناك ثروات القطب الشمالي الزاخرة، ولا تعنيه قضية المناخ، وهناك بنما، حَيثُ ذرائع اليد الصينية ستقرب المسألة من ديكتاتور أمريكا الجديد، وتحالف الأغنياء، كما أن هناك رؤية توسعية لما هو في قريب من اليد الأمريكية، حَيثُ كندا التي تشرف عليها ثلاثة عشرة ولاية أمريكية من أصل الخمسين ولاية؟

وإمْكَانية الاستحواذ على غرينلاند الغنية، واستعادة السيطرة على قناة بنما، وكلها تعكس رؤية تقوم على التوسع الإقليمي لتعزيز القوة الأمريكية الإقليمية، وتحولًا عن الأعراف الدبلوماسية التقليدية، وتسويق ذلك في إطار مواجهة النفوذ الروسي والصيني.

ولعل واشنطن تسير على خطى “أثينا” القديمة والتنافس المحموم مع “إسبرطة”، حَيثُ انتهت ديمقراطية الأولى إلى نظام ديكتاتوري توسعي انتهى بها إلى زوال.

فمع تطور اقتصاد أثينا، بدأت الطبقات المختلفة في المجتمع الأثيني خَاصَّة طبقة النبلاء تسعى لأن يكون لها دور في التنظيم السياسي للدولة الأثينية، ما فتح المجال للتحوّل نحو النظام “الأوليغارشي” بعد تراكم قوة النبلاء ونفوذهم، وتطبيق أثينا نظامًا أشبه ما يكون بنظام رأسمالي سيطرت فيه طبقة النبلاء على دورة الاقتصاد في البلد، بينما كانت الطبقة الدنيا هي من دفعت الثمن، بعد أن أفلست؛ بسَببِ المديونية التي حولتهم من مزارعين إلى عبيد مع مرور الوقت.

تلك النتائج التي أحالت المجتمع الأثيني إلى حالة العبودية والإفلاس، مع استئثار الطبقات العليا بالقوة والمال، هي ذاته ما يشتكي منه مجتمع أمريكا اليوم رغم التوسع والنهب الذي جرى لثروات الشعوب خَاصَّة في المنطقة العربية؛ فقد أظهرت أحداث حرائق لوس أنجلوس مدى سخط الشارع الأمريكي على ساسة وقادة أمريكا، حَيثُ تذهب أموال دافع الضرائب لدعم أفعال وجرائم نازية دموية بينما تعجز السلطات عن مواجهة حرائق كاليفورنيا تاركة المواطنين لمصائرهم، وقد خسروا منازلهم وممتلكاتهم، في ظل إهمال البنية التحتية الأمريكية المتهالكة أصلًا.

وبالعودة إلى “أثينا”، فَــإنَّ العاملين اللذين كانا سبب زوال أثينا هما ذاتهما اللذان سيكونان سببًا في زوال الهيمنة الأمريكية، فكما هو حال أمريكا اليوم في مواجهة قوى عظمى كالصين والروس وربما الهند، فقد كانت “أثينا” في صراع محموم مع الإمبراطورية الفارسية عندما حاولت الأخيرة احتلال اليونان فدخلت معها في حروب ممتدة انتهت بتحالف الدويلات اليونانية لإلحاق الهزيمة بتلك الإمبراطورية الكبيرة بعد سلسلة من المعارك الشهيرة على رأسها معركة «ثيرموبولي» ومعركة «ماراثون» وغيرهما.

غير أن الحرب أضعفت “أثينا” بشكل كبير فارضة عليها ضغوطًا اقتصادية وسياسية كبيرة، فيما العامل الثاني كان من صنع أثينا نفسها بعدما لجأت لسياسة “توسّعية” ضمن حكم ديكتاتوري، وصفتها الكتب التاريخية بأنها سياسة “إمبريالية”؛ وهو ما فعلته أمريكا وما قد تفعله في جوارها الأمريكي، فعندما سعت هذه الدولة (أثينا) لاحتلال الدويلات الأُخرى والسيطرة عليها، اندفعت الكثير من تلك الدويلات إلى تطبيق مبدأ توازن القوى بالتحالف مع عدوّ أثينا “دويلة إسبرطة”، التي خشيت أن تؤدي السياسة التوسّعية لأثينا إلى القضاء عليها، فبدأت ما هي معروفة بـ “الحرب البيلوبونية” والتي انتهت بخراب أثينا وسيطرة إسبرطة على مقاليد السلطة في شبه الجزيرة اليونانية.

وهنا يمكن تصور أن أمريكا تنحو ذات المسار، حَيثُ تقودها سنن أفول القوى والدول إلى مصير الزوال، حَيثُ تستعد لحرب مصيرية مع قوى عالمية، كالصين وروسيا كما أشرنا ما يجعل أولوياتها في نطاق جغرافي “أمريكي أولًا”، والبحث عن الثروة والمكاسب بعقلية رجل المال، حَيثُ يجب أن يدفع الخليج راضٍ أَو كاره مقابل الحماية التي لم تعد ذات جدوى، وحيثُ يجب على أُورُوبا أن تدفع، وهي تعيش حالة احتضار، وحيثُ على كندا أن تدفع إن لم تقبل بالانصياع للأحلام الترامبية، وأن يدفع العالم لأمريكا، فهذا هو معيار احترام العالم لها، وهو معيار ترامب لاحترام أمريكا.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com