غزة تكتبُ وثيقةَ النصــــــــر
دينا الرميمة
بحبر من دمع ودم وفي اليوم الواحد بعد الأربعمِئة والسبعين كتبت غزة وثيقة نصر ظنه الكثير غير ممكن، بل ومستحيل؛ فثمة من يرى أن النصر معقود بحجم القوة التي يملكها أطراف الحرب، متجاهلاً أن القوة مهما بلغت تفوقاً وقدرة تكون هشة إذَا ما كانت بيد من لا يملك الأرض وصوابية القضية.
وعلى الرغم من اختلال موازين القوة بين الإمْكَانات المتاحة للمقاومة وترسانة السلاح الفتاك التي يملكها العدوّ الصهيوني إلا أن غزة جعلت المستحيل سهلاً ممكناً على متن سفينة طوفان ابحرت عكس المشيئة الصهيونية، وبقلوب أيقنت أن النصر لن تصنعه أيادي ترتجف على زناد البندقية ولا قلوب تخشى انفجارات الصواريخ وقذائف الموت إنما تصنعه الإرادَة التي تهزم الخوف واستعلاء الروح فوق عظيم الألم والمأساة وثبات القلوب في أشد الأوقات صعوبة.
وكما يقال إنما النصر صبر ساعة، وغزة التي تلحفت بصبر العالمين وعلى ذات الغارة والقذيفة الأولى وأول روح ودعتها وقطرة الدم التي صارت سيلاً لا يتوقف حقّقت أولى مراحل النصر؛ ما جعل العدوّ يزداد جنوناً وبشاعة بحثاً عن صورة نصر لم يبلغه على مدى ثلاثة أشهر وعام، وعلى الرغم من توحشه وفائض إجرامه والتواطؤ الغربي والعربي المفضوح والدعم العسكري والسياسي الذي جعل غزة بؤرة للموت وموسم حصاد جماعي للأرواح فالذي أخطأته القذيفة الأولى تحصده الثانية، والذي خرج من تحت الأنقاض مرةً يدفن تحتها في التالية، والذي أفلت من الموت بأعجوبة ألف مرة يستسلم لندائه الأخير.
غير أن غزة لم تزداد إلا تمسكاً بالحياة ما استطاعت إليه سبيلاً تشبثاً بهُــوِيَّتها الفلسطينية وفضل شعبها الحياة على ترابها وركامات الدمار فيها من رفاهية قصور خارجها يلتصق بهم مسمى نازح وتتسبب في نكبة أُخرى لفلسطين، مسطرين للعالم أسمى معاني الحرية والتشبث بالأرض والهُــوِيَّة، وعلى زنود إرادَة شعب ومقاومة قادوا معركة غرقت فيها أقدام الجيش الصهيوني في وحل غزة وأنفاقها، وأحبطت كُـلّ مخطّطات التهجير والاستيطان لتعود بالهجرة العكسية للمستوطنين الصهاينة وأعادوا إلى ذاكرة العالم قضية فلسطين التي تتعرض لمؤامرات تصفية وأحبطت كيد صفقة القرن واتّفاقيات التطبيع.
واستطاع نزيف الدم المراق على أرض غزة أن يخرج الإنسانية من مخبأها بعد سبعة قرون لترى قوانين السلام وديمقراطية الغرب المزيفة التي نثرت تحت أقدام الصهاينة وأعطتهم الضوء الأخضر لانتهاك كُـلّ محظور وارتكاب حرب إبادة بحق شعب بصموده ذر سمعة الصهاينة رماداً في مهب ريح أحلامهم الخبيثة وتحت أقدام الشعوب التي انتفضت في كُـلّ شوارع العالم متلحفة العلم الفلسطيني تأييداً لغزة ودعماً لفلسطين ومندّدة بالإجرام الصهيوني وخطره الذي لن يقتصر على غزة وفلسطين، بل سيمتد إلى كُـلّ أصقاع الأرض تكفيراً عن ذنب تأييدهم لدولة تسمى “إسرائيل”، وكسبت غزة دعماً دوليًّا جر حكومة الكيان إلى محكمة العدل الدولية لأول مرة منذ قيام دولتهم على أنقاض دولة فلسطين.
واستطاع الطوفان مع جبهات الإسناد من لبنان واليمن والعراق وإيران فتح أكثر من جبهة على الكيان، دمّـرت اقتصاده ودكت حصون مدنه وأحرقت قداستها وسمعة أنظمة دفاعاتها الأشهر عالميًّا ودفعت بالمستوطنين للحياة داخل ملاجئ يقتلهم الخوف والتدافع ولهيب غضب أرض تعاف وجودهم عليهم، وحولت حلم نتن ياهو بشرق أوسط جديد إلى كابوس مزق أركان حكومته وصبت نيران غضب شعبه عليه ليرفع راية الاستسلام بعد إصراره على حرب تلقى فيها الصفعات بعدد ساعاتها ولحظاتها وحجم نيرانها ومذابحها، اعتراف بهزيمة اعتلت فيها غزة معارج نصر ليس وليد التاسع عشر من يناير الجاري إنما وليد السابع من أُكتوبر/2023 وثمار صمود وتضحيات أينعت ميلاد فجر جديد لغزة أشرقت فيه شمس الحرية للأسرى الفلسطينيين وتأكيداً على أن تحرير كامل فلسطين بات قاب قوسين أَو أدنى كانت البداية من غزة وربما إعلانه يأتي من الضفة وجنين.