“الضيف” الخفِّي يترجّل: أُسطورةُ المقاومة والكابوسُ المؤرِّق للاحتلال
المسيرة | خاص
لم تكن من كلماتٍ أبلغَ في ارتقاء القائد الشهيد “محمد الضيف” “أبو خالد” ورفاقه الشهداء الأبرار، بأنّ الشهادةَ في سبيل الله هي ما يليقُ بمثلهم؛ إذ قالها “أبو عبيدة” بكل عزةٍ وافتخار: “هذا ما يليقُ بقائدِنا محمد الضــيف، الذي أرهق الاحتلالَ لأكثَرَ من 30 عامًا”.
ترجَّلَ القائدُ “الضيف” عن جواده، ليرتقيَ شهيدًا في معركة “طوفان الأقصى” البطولية؛ معركة هو من قادها وخطَّط لها مع إخوانه في المجلسِ العسكري، تاركًا تاريخًا حافلًا وبصماتٍ حاضرةً في المشهد العسكري الفلسطيني.
إذ زفّ الناطقُ باسم “كتائب الشهيد عز الدين القسام” المجاهد “أبو عبيدة” في بيانٍ عسكري، مساءَ الخميس، ارتقاءَ ثلة من المجاهدين الكبار والقادة الأبطال من أعضاء المجلس العسكري، على رأسهم القائد العام الشهيد “محمد الضيف”، بعد رحلةٍ جهاديةٍ استمرت لعقودٍ من الزمن.
بعد أن رسم القائدُ “الضيف” مشهدَ انتصار غزة “مقاومةً وحاضنة”، منذ الطلقة الأولى للمعركة؛ جاء هذا النصرُ الذي جُبِلَ بدماء القادة العظماء، فكان نصرًا أغلى ثمنًا، وأثبته على الأرض قدمًا، وأجدره من بين ادِّعاءات العز والتمكين تصديقًا.
في تفاصيل المشهد، لا بُـدَّ من استعراض شذراتٍ من سيرة هذا القائد العظيم، إذ ارتبط اسم “محمد الضيف”، منذ التسعينيات بالمقاومة الفلسطينية، فكان أحد أبناء الجيل الأول المؤسّس من القساميين، وتحول إلى رمز للبطولة والتخفِّي، ورغم أنه لم يكن يُرى إلَّا أن بصماته كانت حاضرة بقوة في المشهد العسكري الفلسطيني، كأحد الشخصيات المقاومة الأكثر تعقيدًا في نظر الاحتلال ومؤسّساته العسكرية والاستخباراتية، والتي تطارده منذ 33 عامًا.
قاد “الضيف” كتائب القسام، منذ أكثر من ثلاثة عقود، متجاوزًا محاولات الاغتيال المتكرّرة التي جعلته أشبه بالشبح الذي يؤرق الاحتلال الصهيوني، ويعيد صياغة معادلات الصراع في كُـلّ مواجهة، وُصُـولًا إلى معركة “طوفان الأقصى” التي أذلت الاحتلال وأثبتت فشله استراتيجيًّا رغم البطش والإبادة التي ارتكبها بعد يوم العبور المجيد، الذي سقطت فيه فرقة غزة في جيش الاحتلال على أيدي أبطال القسام.
القائد محمد الضيف في سطور:
وُلد “محمد دياب إبراهيم المصري”، المعروف بـ “محمد الضيف” عام 1965م، لعائلةٍ فلسطينيةٍ تعود جذورها لقرية “كوكبا”، التي تعرّضت للتهجير من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة 1984م، ونشأ وترعرع في مخيم “خان يونس” للاجئين جنوبي قطاع غزة، حتى استقر به المقام في مخيم “خان يونس”.
تتكون أسرتُه من 15 فردًا، وكان والده يعمل في صناعة الوسائد وتنجيد الفرش، تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس مخيم “خان يونس”، كبقية اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجِّروا من ديارهم وأرضهم وممتلكاتهم.
وشكلت مساجد منطقته مرحلة انطلاقته بالعمل الإسلامي منذ صباه؛ إذ نشأ في بيئة المقاومة، وتأثر منذ صغره بواقع الاحتلال وظروف اللجوء القاسية؛ ما دفعه للانخراط في صفوف الحركة الإسلامية خلال دراسته في الجامعة الإسلامية بغزة، كما درس العلوم وحصل على شهادة البكالوريوس في تخصص الأحياء، إذ كان فيها من قادة العمل الطلابي ونشطاء الكتلة الإسلامية وهو الإطار الطلابي لحماس.
القائد الضيف وبداية العمل الحركي ومراحل المطاردة:
انضم الشهيد “محمد الضيف” إلى حركة “حماس” منذ نعومة أظفاره وكان عنصرًا نشيطًا في صفوف العمل الاجتماعي، حتى الانطلاقة الرسمية للحركة بالتزامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، وكان “الضيف” من كوادرها الأوائل.
اعتُقل “الضيف” في إطار الضربة الأولى التي وجّهتها قوات الاحتلال للحركة في صيف عام 1989م، بتهمة الانضمام إلى الجناح العسكري للحركة الذي كان الشيخ “صلاح شحادة”، -“استُشهد في صيف 2002م”- قد أسَّسه آنذاك، وكان يحملُ اسمَ “حماس المجاهدين” قبل أن يطلقَ عليه اسم “كتائب القسام”، وأمضى عامًا ونصف العام في السجن قبل تحرُّره عام 1991م.
تدرج “الضيف” في العمل الأمني وملاحقة العملاء ثم في الجهاز العسكري لحركة حماس، وأصبح مطلوبًا بعد مشاركته في تنفيذ العديد من العمليات الفدائية والاشتباك مع قوات الاحتلال للاحتلال، ورفض تسليم نفسه لتبدأ رحلة أطول مطاردة ربما في التاريخ في مساحةٍ جغرافيةٍ صغيرةٍ وضيقة، إلا أنه استطاع خلال هذه الفترة، ومن خلال إتقانه للتخفي وعدم البقاء في مكانٍ واحد لفترةٍ طويلة؛ كي لا يقع في قبضة قوات الاحتلال حيًّا أَو ميتًا.
برز دور “الضيف” بعد استشهاد “عماد عقل” الذي برز اسمه في سلسلة عمليات فدائية في نوفمبر عام 1993م، وأوكلت إليه قيادة “كتائب القسام”، فعمل على قيادة وتنسيق مجموعات الكتائب بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بين عامَي 1993 – 1994م، وتمكّن خلال هذه الفترة من التخطيط وتنفيذ عدة عمليات نوعية، والوصول إلى الضفة الغربية المحتلّة وتشكيل العديد من الخلايا الفدائية هناك، كالمشاركة في تنفيذ عدة عمليات فدائية في مدينة “الخليل” والعودة إلى قطاع غزة.
نحن خُلِقنا لمقاومة الاحتلال إما أن ننتصر أَو نستشهد:
وتصاعد الدور الكبير للقائد “الضيف” خُصُوصًا في التخطيط لعملية خطف الجندي الصهيوني “نخشون فاكسمان” عام 1994م، في بلدة “بير نبالا” قرب القدس، والذي قُتل وخاطفيه بعد كشف مكانهم، وألقى “الضيف” بيان العملية بنفسه، وظهر حاملًا بندقية وبطاقة هُوية “فاكسمان” التي هُرِّبت من الضفة الغربية إلى قطاع غزة.
ومع اشتداد الخناق على المطلوبين للاحتلال في قطاع غزة، رفض “الضيف” طلبًا بمغادرة قطاع غزة خشية اعتقاله أَو استشهاده، لا سِـيَّـما في ظل سياسة قصف المنازل التي يعتقد أن بها أيٌّ من المطلوبين، وقال كلمة مشهورة آنذاك: “نحن خُلِقْنا لمقاومة الاحتلال إما أن ننتصر أَو نستشهد”، ولذلك كان لا يستقر في مكانٍ واحد حتى أطلق عليه لقب “الضيف” الذي يأتي ويرحل.
استطاع “الضيف” أن يؤمِّنَ وصولَ المهندس “يحيى عياش”، أحد خبراء المتفجرات في الضفة الغربية إلى قطاع غزة بعد تضييق الخناق عليه في الضفة الغربية، وللاستفادة من خبرته في صناعة المتفجرات، ووقف وراء عمليات الثأر للشهيد “عياش”، بعد أن اغتيل بواسطة هاتف مفخَّخ مطلع عام 1996م، من خلال إرسال “حسن سلامة” إلى الضفة الغربية للإشراف عليها، وقتل في هذه العمليات الفدائية نحو 60 صهيونيًّا.
توارى “الضيف” كليًّا عن الأنظار بعد تنفيذ عمليات الثأر لـ “عياش”، وفي ربيع عام 1996م، شنت السلطة الفلسطينية عملية ملاحقة له في إطار الضربة الكبيرة التي وجّهتها لحركة “حماس”، اعتقلت المئاتِ من قادتها وعناصرها، واستطاعت السلطة بعد ذلك من اعتقال “الضيف” عام 2000م؛ بحجّـة أنها تريد حمايتَه من القصف الصهيوني، وسمحت السلطة لمحقّقين من جهاز المخابرات الأمريكي المعروف باسم “السي أي إيه” من التحقيق معه.
غير أن “الضيف” تمكّن فيما بعد من انتزاع حريته من سجن الأمن الوقائي الفلسطيني بغزة ليعودَ لتشكيل خلايا القسام من جديد بعد مصادَرة سلاحهم وذخائرهم، وبدأ بالاستعداد لتنفيذ المزيد من العمليات حتى اندلعت انتفاضةُ الأقصى في سبتمبر عام 2000م.
اغتيالات فاشلة وإرادَة لا تنكسر:
وبعدَ عامٍ من اندلاع الانتفاضة تعرض “الضيف” لمحاولة الاغتيال الأولى، حَيثُ كان برفقة “عدنان الغول” (استشهد في 22 أُكتوبر 2004م)، وهو خبير المتفجرات في كتائب القسام ونجله “بلال”؛ بعد أن أطلقت عليهم طائرة صهيونية صاروخًا في بلدة “جحر الديك”، وقد نجيا من الاغتيال بأعجوبة بعد استشهاد “بلال” في القصف ليغطي والده ورفيق دربه.
ورغم أن “إسرائيل” نفذت العديد من محاولات اغتيال على الأقل ضد “محمد الضيف”، إلا أنه نجا منها جميعًا، وإن كان بعضها قد أوقع إصابات بالغة في جسده، وأخطر هذه المحاولات عام 2014م، خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، إذ استهدفت طائرات الاحتلال منزله وقتلت زوجته وابنه، لكن “الضيف” خرج من تحت الركام ليواصل قيادة المعركة.
ومنذ توليه دفة القيادة، أدار القائد القسامي الخفي “الضيف” العديد من العمليات الفدائية ضد الاحتلال، وكان من أبرز المهندسين لتطوير القدرات العسكرية لحماس، بما في ذلك تصنيع الصواريخ المحلية وإنشاء شبكة الأنفاق العسكرية التي تحولت إلى عامل حاسم في معارك غزة، كما قاد العمليات في قطاع غزة حتى تحريره من المستوطنات عام 2005م، وحوّل القسام من مجموعات وخلايا إلى جيش شعبي منظم.
الوفاء للمسجد الأقصى ومعركة “سيف القدس”:
وفي مايو 2021م، تصاعدت حدة الاعتداءات الاستيطانية على المسجد الأقصى المبارك، وحاولت سلطات الاحتلال تهجير سكان حي “الشيخ جراح”، وفي لحظة محاولة مجموعات المستوطنين إطلاق مسيرة الأعلام قرب “باب العامود”، قصفت كتائب القسام مدينة القدس المحتلّة برشقةٍ صاروخيةٍ ضخمة بأمرٍ من قائد الأركان “محمد الضيف”.
وفيما استمرت المعركةُ لأيام فرضت خلالها المقاومةُ الفلسطينيةُ فصلًا جديدًا من فصول المواجهة مع الاحتلال، وبرز اسم “محمد الضيف” بعد المعركةِ كقائدٍ فعلي لها، وارتبط اسمُه بها بشكلٍ وثيق، ليصبحَ الملهمَ لتشكيلات المقاومة الفلسطينية وجمهورها في الضفة الغربية المحتلّة.
عدوُّ “إسرائيل” الأول.. القائد الخفي “الشبح” حاضرٌ في المعركة:
وخلال الكثير من المراحل التي مر بها؛ كان القائد “الضيف” لا يظهر في وسائل الإعلام، ولم يُعرف له سوى تسجيلات صوتية معدودة، لكنه حاضر بقوة في كُـلّ مواجهة مع الاحتلال، حَيثُ يُنظر إليه؛ باعتبَاره العقل المدبِّرَ للتكتيكات العسكرية التي غيَّرت طبيعة المواجهة بين المقاومة والاحتلال.
وخلالَ معركة “سيف القدس” عام 2021م، كان الضيفُ وراء استراتيجية استهداف “تل أبيب” بالصواريخ ردًّا على الاعتداءات الإسرائيلية في القدس والمسجد الأقصى، وهو ما فرض معادلةَ ردعٍ جديدة، أظهر مدى تطور المقاومة الفلسطينية.
قيادةُ “طوفان الأقصى”:
وفي الـ 7 من أُكتوبر 2023م، أطل القائد “الضيف” ليعلِنَ انطلاقَ معركة “طوفان الأقصى” التي أشرف عليها وحضر في ميدانها حتى ارتقى شهيدًا، وكان من أبرز أسبابِ الطوفان هو سلوكُ الاحتلال الصهيوني، ومخطّطاته القائمة على حسم الصراع، وفرض السيادة على القُدس بمقدساتها؛ تمهيدًا للتقسيم المكاني والزماني، وبناء الهيكل المزعوم.
وعلى مدى عقود وضعت “إسرائيل” “محمد الضيف” على رأس قائمة المطلوبين، وعدّته أخطر شخصية فلسطينية تهدّد أمنها، ورغم كُـلّ الجهود الاستخباراتية، لم يتمكّن الاحتلال من الوصول إليه؛ ما جعله يتحول إلى أُسطورة وكابوس يطارد الاحتلال، حتى رحل كما يحب شهيدًا في ميدان أعظم معركةٍ شارك في التخطيط لها وقيادتها، وهي المعركة التي أثبتت هشاشة كيان الاحتلال وقابليته للهزيمة.
وعلى مدار شهور المعركة نجحت كتائب القسام في الاستمرار بعملياتها الناجحة والتي أوقعت الخسائر في صفوف جيش الاحتلال، والاحتفاظ بأسرى الاحتلال الذين اعتقلتهم يوم العبور العظيم، لتعلن أخيرًا بعد انتهاء المعركة عن استشهاد قائدها العام.
رحل القائد “محمد الضيف” شهيدًا ويبقى تاريخه الحافل وبصماته حاضرة يستلهم منها الأحرار درب الحرية، وسط إجماع فلسطيني على أنه أحد رموز الصمود الذين صنعوا معادلات جديدة في المواجهة مع الاحتلال، ويقينهم يقول: “إن يستشهد قائد يخلفه ألف قائد”.
وفي الإطار؛ وبعد الإعلان عن استشهاد القائد “محمد الضيف”، ونائبه “مروان عيسى” ورفاقهم القادة: “غازي أبو طماعة، رائد ثابت، رافع سلامة، أحمد الغندور، أيمن نوفل”، توالت ردود الفعل المهنِّئة، في سيلٍ من البيانات الصادرة عن دول وقوى محور الجهاد والمقاومة من “فلسطين، إيران، اليمن، العراق، لبنان”، وغيرها من الدول الحرة.
وعبّرت البيانات جميعها عن مباركتها باستشهاد القادة، مؤكّـدةً أنهم “قدموا نماذجَ حيةً للأجيال في الإقدام والتضحية والفداء بعد رحلةٍ جهاديةٍ طويلة قضوها مقاومين للاحتلال الصهيوني، ومدافعين عن حقوقِ الشعب العادلة، منافحين عن مقدسات الأُمَّــة في فلسطين”.
ودعت البياناتُ كُـلَّ “أبناء الأُمَّــة وأحرار العالم للسير على طريق الشهداء القادة والاستمرار في تصعيد المواجهة تجاه العدوّ الصهيوني وقطعان مستوطنيه، وتدفيعه ثمنَ الجرائم الجبانة حتّى تطهيرِ فلسطين من النهر إلى البحر”.