المحور جاهــزٌ بحضوره المتجدّد وموقفه المتوحد

عنوان “صفقة القرن” يتحَرّك مجدّدًا بعودة ترامب..

 

المسيرة: وائل شاري

سعت الصهيونية العالمية إلى تبديد القضية الفلسطينية وتمييعها وإبعادها عن واجهة القضايا المهمة والأَسَاسية في العالم، مستخدمة كُـلّ وسائل الضغط من قبل الغرب وأمريكا على الدول العربية والإسلامية؛ للقبول بمشروع ما يسمى “حل الدولتين” والذي يعد اعترافاً بالوجود الصهيوني وتطبيع العلاقات معه؛ لتستمرَّ الرغبة الغربية في سَلْبِ كاملِ حقوق أبناء الشعب الفلسطيني ومحاولة تهجيرهم من قطاع غزة المحاصر والضفة الغربية إلى صحراء سيناء بمصر والنقب في الحدود الفلسطينية الأردنية؛ لإبرام ما يسمى بـ”صفقة القرن” أَو خطة ترامب لتطبيع العلاقات العربية الإسلامية مع كيان العدوّ الصهيوني، والتي تم تدشينُها في البحرين في العام 2019، لكنها عادت إلى الواجهة عقب تصريحات ترامب الاستفزازية الأخيرة بشأن تهجير سكان غزة.

 

صفقة وُلدت ميتة:

صفقة الخيانة تلخصت بنودها المعلنة والمسربة بعدة نقاط أَسَاسية تهدف إلى تهجير الفلسطينيين ومنعهم من حق العودة، وإعلان القدس العربية عاصمة للكيان الصهيوني، مع ترسيم حدود جديدة في فلسطين، في حين اشترط نزع سلاح حركة حماس في قطاع غزة، وإبقاء الترتيبات الأمنية في غور الأردن تحت سيطرة كيان العدوّ، كما سرّب من بنودها تهجير سكان غزة إلى صحراء سيناء ويتم إنشاء دولة منزوعة السلاح في الضفة مع بقاء قوات إسرائيلية مع اقتراح تهجير سكان الضفة إلى صحراء النقب في الأردن، وكلّ ما سبق سيكون مقابل التطبيع للدول المرتمية في الخيانة والموقعة للصفقة مع الكيان الصهيوني.

انقسمت الدول العربية والإسلامية إلى فريقين مؤيد ورافض للصفقة المشبوهة، فتشكل فريق الرافضين لوجود الاحتلال الإسرائيلي من أَسَاسه وهي إيران واليمن والعراق ولبنان وسوريا قبيل سقوط نظام بشار الأسد والعراق والفلسطينيون أنفسهم في غزة والضفة، فيما تشكل فريق المؤيدين والداعمين بدول التطبيع مع العدوّ وهي السعوديّة والإمارات والبحرين والمغرب ومصر والأردن في محور واحد، وينضم إليهم دول تدعم ذلك سراً ويعمل الجميع إلى تمرير الصفقة تحت مسمى السلام للوصول إلى تطبيع وعلاقات كاملة مع العدوّ الإسرائيلي، وعقدت السعوديّة ومصر اتّفاقاً ممهداً لذلك بتسليم جزيرتَي تيران وصنافير ذات الأهميّة الكبيرة؛ كونهما مفتاحَ العبور إلى الموانئ الإسرائيلية، وعلّق الكاتب البريطاني جوناثان كوك حينها في صحيفة “ميدل أيست” أن السيسي له دور كبير في خطة “صفقة القرن” والتي تتضمن إلحاق غزة بسيناء لرفع الحرج عن “إسرائيل”.

واعتبر أن تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعوديّة وتفريط مصر السيسي في المضيق الاستراتيجي كان جزءًا من التمهيد للصفقة لإنشاء ما تسمى “قناة بن غوريون” التي يسعى الأمريكيون والصهاينة إلى إنشائها وتمر من وسط قطاع غزة لتربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر؛ لتكون بديلًا لقناة السويس.

ولتنفيذ الصفقة حدّدت أهداف أُخرى تتمثل في تجزئة الدول العربية وتفكيك أنظمتها وتقسيمها إلى أقاليم وقضم الكثير من مساحتها لصالح الصهاينة، ومنها سوريا، وقد شاهدنا وصول الجيش الإسرائيلي إلى مسافة تبعد 20 كم من دمشق.

 

ثبات القضية في سباق الخيانة:

دول محور المقاومة تبنت القضية الفلسطينية من منطلق ديني وكذلك من منظور الواجب الإنساني، معتبرة القضية الفلسطينية هي القضية الأَسَاسية والمركزية وقدمتها على كُـلّ الأولويات الأُخرى وقامت بتسخير كافة الإمْكَانيات لدعم المقاومة الفلسطينية، فمنذ انطلاق الثورة الإسلامية الإيرانية في عام 1979 كانت القضية محورها الأَسَاسي، وكذلك في اليمن عقب ثورة 21 سبتمبر تصدرت القضية الواجهة وكانت من أَسَاس ومرتكزات الثورة برفع شعار الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل.. والعراق تحول عقب سقوط نظام صدام إلى قوة فاعلة وداعمة لفلسطين، وسوريا قبيل سقوط نظام بشار كانت في قلب محور الدفاع، في حين كان حزب الله اللبناني بقيادة الشهيد السيد حسن نصر الله، أمين عام الحزب، رأس حربة المحور وخاض عدة حروب مع العدوّ الصهيوني.

أنشأت إيرانُ قوةَ القدس وكُلِّفَت بدعم القضية الفلسطينية وتسليح المقاومة وتقديم كُـلّ التسهيلات لمواجهة العدوّ الإسرائيلي، وقد شكَّلت قوةُ القدس في السنوات العشرين الأخيرة قلقاً لدى أمريكا و”إسرائيل” وعمدت واشنطن إلى اغتيال قائدها الشهيد قاسم سليماني وبرفقته الشهيد أبو مهدي المهندس في العراق بداية العام 2020م؛ لإضعاف المحور والتمهيد لـ”صفقة القرن”، وقبلها أنشأت واشنطن داعش لاحتلال العراق وسوريا ودمرت البلدين، حتى تم إسقاط بشار نهاية العام المنصرم، فيما تمكّن العراق بحشده العسكري أن يهزم هذه الورقة، أما في لبنان حاولت أمريكا بشتى الوسائل إضعاف حزب الله اللبناني في عدة حروب وخرج حزب الله منتصراً في جميعها ثم خاض حرب الإسناد لغزة ليصل إلى مواجهة مباشرة مع الإسرائيلي وأثبت أنه قوة لا يستهان بها، بقصف كافة المدن المحتلّة وعاصمة الكيان حتى بحثت أمريكا عن وقف إطلاق النار لتلافي الهزائم المدوية التي لحقت بجيش الاحتلال وفشل منظومات الدفاع الجوي من إسقاط صواريخ حزب الله، برغم استشهاد الأمين العام خلال المعركة وتفجير البيجرات قبيل استهداف الضاحية بالقصف الجوي المكثّـف.

لا شك أن إعلان ما تسمى “صفقة القرن” بداية النهاية للعدو الإسرائيلي المحتلّ وذلك من منظور محور المقاومة، فقد غير حزب الله اللبناني قواعد اللعبة بإعلان خطاب النصر عام 2000 في شهر مايو والذي يعتبر نقطة التحول الحقيقية من الدفاع إلى الهجوم وترجمت هذه الحقيقة في حرب صيف 2006، ليصبح التحول من ترجمة النصر إلى معطيات ميدانية تجلت في معركة تموز لنصل إلى نتيجة أن حزب الله ذهب بعيدًا إلى مواجهة مصيرية ووجودية عقب فرض شروطه لوقف إطلاق النار ولم تحقّق “إسرائيل” أيًّا من أهدافها وأجبرها على الانسحاب من لبنان ذليلة للمرة الثانية وأكّـد تفوقه في حرب 2024 وسنذكرها لاحقاً.

نسقت قوات محور المقاومة في ما بينها بقيادة الشهيد سليماني لمواجهة التهديد الأمريكي الإسرائيلي في تفتيت العراق وسوريا وإدخَال حزب الله في حرب أهلية وإشغال دول المحور بنفسها حتى يسهل تنفيذ التهجير للفلسطينيين، فنظم قادة المحور أوراقهم في ترتيب أولي وتم دحر التكفيريين من العراق بدعم من فيلق القدس وظهور قوات النجباء وعصائب أهل الحق والحشد الشعبي في العراق الداعمون للقضية الفلسطينية، وتأكيدًا لوحدة الموقف زار مؤسّس النجباء الحدود اللبنانية الفلسطينية عدة مرات، وقاد حزب الله كذلك حرباً في سوريا وتموضعت قوات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني في الجنوب السوري لفتح جبهة جديدة لإشغال العدوّ الإسرائيلي في الجولان المحتلّ وبذلك أسقط المحور مشروع تفتيت المحور وإضعافه.

 

الطوفان يغيّر قواعد الاشتباك:

المقاومة الإسلامية أثبتت في 7 أُكتوبر هشاشة العدوّ وتمكّن المقاومين في غزة من اقتحام المدن المحتلّة وخاضوا حرباً كونية لمدة 15 شهراً أثبتوا قوة وفاعلية المقاومة الفلسطينية وأسقطت قناع “الجيش الذي لا يُقهر”، فتوحدت دول المحور في جبهة واحدة ضد العدوّ الإسرائيلي؛ فحزب الله خاض حرب الإسناد بقواعد اشتباك كلفت العدوّ كَثيرًا وجعلته يسحب عشرات الألوية العسكرية إلى شمال فلسطين ثم خاض معركة مباشرة أمطر خلالها المستوطنات والمدن الفلسطينية المحتلّة الكبرى بالصواريخ والمسيّرات واستهدف معسكرات ومصانع التسليح وقواعد جوية واخترقت صواريخه الدفاعات الجوية وأثبت مرة أُخرى تفوقه وثبات محور المقاومة وأجبر العدوّ إلى وقف إطلاق النار ليلحق به هزيمةً ثالثةً تضافُ إلى سِجِلِّ حزبِ الله في معاركه مع العدوّ.

دخلت العراق إلى خط المواجهة وأرسلت طائراتها المسيّرة إلى مدن فلسطين المحتلّة، وكذلك اليمن غير قواعد المواجهة وحاصر العدوّ بحريًّا وأدى إلى خسائر اقتصادية كبيرة وتمكّنت القوات الصاروخية اليمنية من دك مختلف مدن فلسطين المحتلّة، وضرب الأهداف الحيوية والاقتصادية والخدمية والعسكرية والأمنية وكلّ الأهداف الحساسة حتى تشكل ضغطاً كبيراً على العدوّ لم يقدر على تحمله، حتى لجأ إلى التفاوض مع الجبهة الفلسطينية الضاغطة والقبول بكامل شروط المقاومة العادلة والمحقة والمشروعة، فيما دخل الإيرانيون إلى المواجهة وقاموا بعمليتي الوعد الصادق واستهدفوا مدن الكيان بالصواريخ، لتترجم عمليًّا وحدة الساحات في معركة مصيرية واحدة.

لن يؤثر خسارة محور المقاومة لسوريا على وحدة الموقف ومصيرية المعركة مع العدوّ، فـ”صفقة القرن” قد أجهضت قبل ولادتها، وما سطره مقاومو غزة خلال 15 شهراً يثبت ذلك، فقواعد اللعبة وخطط الاشتباك قد تغيرت والفشل الصهيوني والأمريكي خلال معركة طوفان الأقصى ظهر للعالم أجمع، حَيثُ أجبرت معركة طوفان الأقصى الأمريكيين على البحث عن حلول أحادية الجانب لتصفية القضية ولم يتبادر إلى أذهانهم أن المقاومة لا تزال قادرة على تقديم ما يثبت فرضها لواقع جديد في استجابتهم السريعة خلال المعركة، وكشفت عن قوة المحور الذي خاض حربًا بحريةً وجويةً وبريةً ضربت عمق الكيان، فعجزت أمريكا وبريطانيا و”إسرائيل” عن إيقاف أية عمليات مساندة بقوتها العسكرية، أَو من خلال العروض الدبلوماسية.

أفشل محور المقاومة بوحدته المصيرية في طوفان الأقصى أية مساعٍ لتصفية القضية الفلسطينية وعرى الدول والأنظمة العربية المطبعة التي قدمت تنازلات كبيرة للعدو باحثة عن وعود اقتصادية وبعضها يتكفل بخسائر العدوّ الصهيوني في هذه المعركة، متخليين بذلك عن الموقف العربي التاريخي الداعم للقضية الفلسطينية، وكذا أفشل الطوفان مساعي العدوّ بتغيير الديموغرافيا للمنطقة وتشكيلها لصالحه.

وحين ألقى رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78، تمحورت حول آفاق وآثار التطبيع والسلام مع الدول العربية، ودوره في تغيير الشرق الأوسط، أظهر نتنياهو خريطة شملت مناطق مكسية باللون الأخضر الداكن للدول التي تربطها اتّفاقات سلام مع “إسرائيل” أَو تخوض مفاوضات لإبرام اتّفاقات سلام مع “إسرائيل”، وضمت المناطق المكسية باللون الأخضر دول مصر والسودان والإمارات والسعوديّة والبحرين والأردن، ولم تشمل الخريطة أي ذكر لوجود دولة فلسطينية، حَيثُ طغى اللون الأزرق، الذي يحمل كلمة “إسرائيل” على خريطة فلسطين كاملةً بما فيها قطاع غزة.

وأوضح بشكل لا لبسَ فيه عن الخط الاقتصادي الواصل من الهند إلى شمال غزة عبر مشروع ما يسمى “قناة بن غوريون”.

وظهر الحديث مجدّدًا عما تسمى “صفقة القرن” عقب تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب في 4 فبراير الجاري خلال لقائه رئيس وزراء الكيان نتنياهو موجهاً خطابه إلى مصر والأردن بقبول سكان غزة ولوح بعقوبات اقتصادية ستفرض عليهم إذَا رفصوا ذلك، فجرأة ترامب تجاوزت كُـلّ الحدود، حَيثُ قال: “أتحدث هنا عن ترحيل جميع سكان غزة البالغ عددهم 1.7 مليون شخص، وإعادة توطينهم بشكل دائم في مكان أكثر أماناً”، ليعزز بذلك ما بدأه صهره جاريد كوشنر في 2019 في تنفيذ مخطّطات الصفقة الاستعمارية.

تصريحاتُ الرئيس الأمريكي الأخيرة عن تهجير سكان غزة إلى سيناء والأردن وعزمه على تنفيذ الصفقة وإرسال الجيش الأمريكي إلى غزة لاستلامها من الكيان حَــدّ زعمه، يعيد إلى أذهاننا تصريحاته السابقة عند إعلان صهره جاريد كوشنر من المنامة في فترة رئاسته السابقة عن “صفقة القرن”، والتي قوبلت برفض محور المقاومة والاستعداد لمواجهة الصفقة وكان بداية ذلك في 7 من أُكتوبر 2023، وما يزال المحور يتجهَّزُ لمعاركَ أُخرى، وهذه المرة بات لليمن العصا الأكبر.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com