التحَرّك الأمريكي ومساعي إعادة رسم النفوذ الجغرافي والسياسي و “الديني” في المنطقة

العرب بين خيار المقاومة أَو الاستسلام لمشاريع الاستعمار المتعددة..

المسيرة: كامل المعمري

حين قال ديفيد بن غوريون ذاتَ مرة: “سندفعُ العرب إلى البحر”، لم يكن يتحدَّثُ عن مجزرةٍ عابرة، بل عن رؤيةٍ تُختزَلُ اليومَ في مخطّط التهجير الذي يُحاك لسكان غزة، لكن هذه المرة ليسَ البحر الأبيض المتوسط هو الوجهة، بل صحراء سيناء والأردن، حَيثُ يُراد تحويلُ الفلسطينيين إلى لاجئين دائمين، في تنفيذٍ حرفي لـ “وثيقة كيفونيم” “الإسرائيلية” عام 1982، التي دعت إلى تفكيكِ الدول العربية إلى كانتونات عِرقية وطائفية؛ كي “تذوبَ في شرق أوسط جديد تُهيمن عليه إسرائيل”.

الأمر لا يتعلق بـ “نظرية مؤامرة”، بل بوثائقَ مُوثَّقة، ففي تقرير صادر عن معهد “كوهيليت” الإسرائيلي عام 2020، والذي يُعتبر المُنظّر الخفي لسياسات نتنياهو، وردت إشارة صريحة إلى أن “إسرائيل يجب أن تعيد تعريف حدودها الاستراتيجية لتشمل المناطق الواقعة بين النيل والفرات، عبر تحالفاتٍ مع قوى إقليمية تُدار من واشنطن”.

 

مخطّط التهجير.. رعاية أمريكية بتواطؤ “عربي”:

التقرير الذي يحمل عنوان “الشرق الأوسط الجديد: خريطة ما بعد العرب”، لم يغفل عن دور غزة كـ “حلقة وصل” بين القواعد الأمريكية في الخليج وبين التمدد الإسرائيلي في أفريقيا عبر سيناء، وهو ما يفسّر لماذا تُصر واشنطن على ربط أية خطة لإعادة إعمار القطاع بـالتهجير، وقبلها كانت تربط إعادة الإعمار بـ”نزع سلاح المقاومة”، كما جاء على لسان وزير الحرب الأمريكي لويد أوستن في تصريحٍ عام 2023: “لا يمكن أن تكون هناك سيادة فلسطينية على غزة دون ضمانات أمنية لإسرائيل”.

في خضم التصعيد الإسرائيلي والأمريكي الذي يلوّح بسيناريو تهجير سكان غزة، تبرز مقاربات عربية تهدف إلى امتصاص الضغط الدولي عبر طرح خطط بديلة لإعادة إعمار القطاع، إلا أن هذه المقاربات، التي تتضمن استبعاد حركة حماس وتفكيك جناحها العسكري، ليست سوى محاولة لترقيع واقع مشتعل، بل تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري والعربي بشكل عام.

حركة حماس تمثِّلُ حاجزًا منيعًا في مواجهة التوسع “الإسرائيلي”، فوجودها في غزة ليس مُجَـرّد وجود سياسي أَو عسكري، بل هو وجود استراتيجي يحمي الحدود المصرية والعربية من التمدد الصهيوني الذي لا يتوقف عند حدود 1967، بل يسعى إلى تحقيق حلم “إسرائيل الكبرى” الممتد من النيل إلى الخليج؛ أي أن استبعاد حماس يعني إزالة هذا الحاجز؛ مما يفتح الباب أمام “إسرائيل” لتعزيز سيطرتها على غزة، وربما الضفة الغربية أَيْـضًا، تمهيدًا لضمهما بشكل كامل.

كذلك من الناحية الاستراتيجية، تشكِّلُ غزة خط الدفاع الأول عن الأمن القومي المصري؛ فوجود قوة مقاومة مثل حماس يعيق التحَرّكات “الإسرائيلية” التي قد تهدّد الحدود المصرية، خَاصَّة في منطقة سيناء التي تشهد توترات مُستمرّة، واستبعاد حماس يعني تفريغ غزة من أية قوة قادرة على مواجهة التمدد الإسرائيلي؛ مما يعرض مصر لخطر مباشر يتمثل في زيادة النفوذ الإسرائيلي على حدودها الشرقية.

فما يُحاك خلف كواليس السياسة الدولية، خَاصَّة من قبل “إسرائيل” بدعم أمريكي مباشر، لم يعد مُجَـرّد تهديدات يمكن احتواؤها، بل هو مخطّط استراتيجي متكامل يستهدف إعادة رسم الخريطة الديموغرافية والسياسية للشرق الأوسط، تحت ذرائع أمنية زائفة بدءًا بتفكيك الوجود الفلسطيني في غزة والضفة الغربية على السواء؛ تمهيدًا لضمّهما إلى عداد الأراضي المحتلّة “إسرائيليًّا”، هذا المسار يتسارع في ظل الدعم غير المحدود الذي تتلقاه “إسرائيل”، سواء عبر صفقات الأسلحة الضخمة التي أبرمتها واشنطن، أَو عبر الغطاء السياسي الذي يحوّلها إلى قوة عسكرية لا تأبه بأية توازنات إقليمية.

إن الحديث عن “تهجير” سكان غزة هو سيناريو مُمنهج ومخطّط له بعناية، يندرج ضمن الرؤية الصهيونية لإقامة “إسرائيل الكبرى”، التي تتجاوز حدود 1948 و1967، لتمتد شرقًا حتى نهر النيل وجنوبًا نحو الخليج العربي، وَإذَا تحقّق هذا السيناريو الكارثي، فلن يقتصر خطره على الفلسطينيين وحدهم، بل سيمتد ليشعل المنطقة بأسرها، مهدّدا الأمن القومي العربي برمّته، ويفتح الباب أمام متغيرات جيوسياسية سيكون من المستحيل التراجع عنها لاحقًا.

 

غزة بعد التهجير.. قاعدة متقدمة للأمريكان ومخاطر بالجملة على مصر:

في حال نجح الكيان المحتلّ وأمريكا في تهجير سكان غزة والضفة واحتلالها كليًّا فَــإنَّ البديل الجاهز يبدو أكثر خطورة بتحويل القطاع إلى نقطة ارتكاز عسكرية أمريكية دائمة.

الحديث عن قاعدة أمريكية في غزة ليس مُجَـرّد تكهنات عابرة، بل فكرة نضجت على طاولة التخطيط الاستراتيجي منذ سنوات، وتجد اليوم فرصة مثالية للتنفيذ في ظل حالة التشرذم العربي والانشغال الداخلي للدول المحورية، فمنذ أن وضعت واشنطن يدها على الخليج عبر قواعدها المنتشرة في قطر والإمارات والبحرين، ومنذ أن أحكمت سيطرتها على العراق وسوريا عبر وجود عسكري مرن، بقيت هناك فجوة استراتيجية في جنوب شرق المتوسط، حَيثُ لم تستطع أمريكا تحقيق تموضع عسكري دائم في المنطقة الممتدة بين سيناء والنقب وُصُـولًا إلى البحر المتوسط.

وهنا يأتي الدور الجديد لغزة، كفرصة ذهبية لإنشاء نقطة عسكرية متقدمة تكون بمثابة “عصا التحكم” في قلب الشرق الأوسط.

إن وجود قاعدة أمريكية في غزة سيغيّرُ المعادلَةَ الأمنية لمصرَ بشكل جذري، فلطالما كانت سيناء تشكّل خَطَّ الدفاع الأول لمصر من الشرق، وهو ما أدركه الجيشُ المصري منذ عقود، حَيثُ خاض معاركَ دامية للحفاظ على هذه الأرض من أي وجود أجنبي، وَإذَا كان التحدي الإسرائيلي نفسَه قد خفت بعد اتّفاقية كامب ديفيد، فَــإنَّ دخولَ أمريكا على الخط كقوة عسكرية في المنطقة سيعيد خلطَ الأوراق بطريقة قد تجعل سيناء منطقة نفوذ أمريكي غير مباشر؛ فوجود قاعدة أمريكية على الحدود المصرية سيضع الجيش المصري في حالة مراقبة دائمة، حَيثُ ستكون هذه القاعدة مجهزة بأحدث تقنيات الاستطلاع والتجسس؛ مما يمنحُ واشنطن إمْكَانيةَ رصد كُـلّ التحَرّكات العسكرية المصرية، بل والتدخل في أية لحظة تحت ذرائع مختلفة، مثل “مكافحة الإرهاب” أَو “حماية المصالح الدولية”.

لكن الخطر لا يتوقف عند الحدود المصرية فقط، بل يمتد ليشمل المنظومة الأمنية العربية بأكملها، فمن المعروف أن الولايات المتحدة تستخدم قواعدها العسكرية ليس فقط لحماية حلفائها، بل لفرض معادلات جديدة تخدم أجنداتها السياسية والعسكرية.

الأخطر من ذلك، أن قاعدة أمريكية في غزة ستُستخدم كأدَاة ضغط على مصر في ملفات أُخرى حساسة، مثل ملف مياه النيل، الذي يشهد بالفعل تجاذبات مع إثيوبيا، فمن المعروف أن السياسة الأمريكية تقوم على استخدام أدوات النفوذ العسكري لتحقيق مكاسب استراتيجية أوسع، وفي هذه الحالة، فَــإنَّ أي تهجير لسكان غزة سيدفع أمريكا لعمل قاعدة عسكرية في خاصرة مصر الشمالية الشرقية؛ أي في غزة، وسيُضاف إلى قائمة الضغوط التي تمارسها واشنطن على القاهرة لإجبارها على تقديم تنازلات في ملفات أُخرى، سواءٌ أكانت سياسية، اقتصادية، أَو حتى تتعلق بالسيادة الإقليمية.

أما على المستوى الإقليمي، فَــإنَّ وجود قاعدة أمريكية في غزة سيعزز من هيمنة “إسرائيل” على المنطقة، حَيثُ ستصبح هذه القاعدة بمثابة درع أمني إضافي يحميها من أي تهديد مستقبلي، ويمنحها غطاءً دوليًّا لأية عمليات عسكرية تقوم بها تحت ذريعة “التنسيق الأمني مع الحلفاء”، ومن المتوقع أن يتم ربط هذه القاعدة بمنظومة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية؛ مما يجعلها جزءًا من شبكة الحماية الإسرائيلية – الأمريكية التي تهدف إلى تحصين الكيان الصهيوني ضد أية تهديدات قادمة من الشمال أَو الجنوب.

 

مشروع “الحج الإبراهيمي”.. رسم لنفوذ من نوع آخر:

“إسرائيل”، التي لن تكتفِ بتهجير السكان، سوف تمضي قدمًا في مشروع أكثر خطورة، مشروع لا يستهدف فقط الأرض، بل يستهدف الذاكرة الدينية والهُويات الروحية للمنطقة؛ فمنذ سنوات يجري التمهيد لفكرة “الحج الإبراهيمي”، التي تقدم مدينة الخليل كبديل أَو مكمل لمكة، حَيثُ يوجد مقام النبي إبراهيم وفقًا للسردية التوراتية، وهذا المخطّط الذي يحظى بدعم قوي من الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة، لا ينفصل عن مشروع تهويد الضفة الغربية، بل هو جزء منه؛ إذ يهدف إلى فرض سيادة دينية يهودية على المنطقة، وتحويلها إلى مركَزٍ ديني عالمي يجذب ملايين الحجاج من البروتستانت الداعمين لـ”إسرائيل”؛ مما يضفي شرعيةً دينية على المستوطنات ويجعل وجودها غير قابل للطعن.

مكة -التي كانت عبر التاريخ محور الوحدة الروحية للمسلمين- قد تصبح في المستقبل مُجَـرّد واحدة من عدة مراكز دينية، بعد أن يتم الترويج للخليل كوجهة حج عالمية تحت شعار التعددية الإبراهيمية، وهذا المشروع الذي يُنظر إليه على أنه تحَرّك ثقافي وديني، يحمل في جوهره أبعادًا جيوسياسية خطيرة، إذ إن تحويل الخليل إلى مركز للحج ليس مُجَـرّد خطوة رمزية، بل هو وسيلة لإعادة تعريف النفوذ الديني والسياسي في المنطقة، وَإذَا تمكّنت “إسرائيل” من فرض واقع جديد، حَيثُ يصبح الحج إلى الخليل مقبولًا دوليًّا، فَــإنَّ ذلك سيمهد الطريق أمام تدخلات غربية أوسع في شؤون المقدسات الإسلامية، بحجّـة حماية “الحقوق الدينية لجميع الأديان”، وهو ما قد يكون الخطوة الأولى نحو تدويل الحرمين الشريفين، أَو على الأقل تقليص الدور الحصري للسعوديّة في إدارتها.

ففي عام 2017، نشر معهد “السياسة اليهودية” في القدس دراسةً بعنوان “الخليل: القلب النابض لإسرائيل التوراتية”، دعت إلى “تحويل المدينة إلى مركز جذب عالمي للحجاج المسيحيين والإنجيليين، عبر تسويق مقام إبراهيم كبديلٍ رمزي للكعبة”، وهذه الفكرة استمدت زخمها من تصريحٍ لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو عام 2020 عندما قال: “الولايات المتحدة تعترف بالخليل كجزءٍ من التراث اليهودي المسيحي الذي يجب حمايته”، وهو نفس الخطاب الذي وجد صداه في تقرير لمركز “بيو” للأبحاث عام 2022، أشار إلى أن “68 % من الإنجيليين الأمريكيين يؤيدون بناء الهيكل الثالث مكان الأقصى”.

 التمويل الدولي لهذه المخطّطات ليس سرًّا، ففي عام 2021، كشفت وثائق بنك “جيه بي مورغان تشيس” عن تحويلات مالية بقيمة 2. 3 مليار دولار من منظمات صهيونية مسيحية إلى مستوطنات الضفة الغربية، تحت غطاء “دعم المشاريع الدينية”، وهذه الأموال، بحسب تحقيق أجرته “ذا إنترسبت” عام 2023، تُستخدم لشراء الأراضي الفلسطينية عبر وسطاء، وتأسيس بنية تحتية سياحية تروج للرواية التوراتية، والمفارقة أن هذه الاستراتيجية ناقشها المؤرخ الصهيوني إيلان بابه في كتابه “التطهير العِرقي لفلسطين” (2006)، حين كتب: “الصهيونية حوّلت التوراة إلى خريطة استعمارية، والوعود الدينية إلى ذريعة لسرقة الأرض”.

المشروع لا يتحَرّك في الفراغ، بل يحظى بدعم سياسي وإعلامي كبير في الغرب، شخصيات مثل مايك بنس وجاريد كوشنر لعبت دورًا رئيسيًّا في وضع الأسس لهذا المخطّط، حَيثُ تم الترويج للحج الإبراهيمي كجزء من اتّفاقيات التطبيع بين “إسرائيل” وبعض الدول العربية.

وعلى المستوى الإعلامي، بدأت مِنصاتٌ غربية كبرى بتقديم الخليل على أنها موقع ديني عالمي، والتركيز على أهميّة زيارتها كجزء من “التراث الإبراهيمي المشترك”، في محاولة لإضفاء شرعية على الاحتلال من بوابة الدين، وفي الوقت ذاته، تعمل “إسرائيل” على تسهيل وصول السياح المسيحيين إلى الخليل، وتوسيع البنية التحتية لاستيعاب أعداد متزايدة منهم؛ مما يجعلها في طريقها لأن تصبح مركزًا دينيًّا موازيًّا للقدس.

الخطوة التالية في هذا المشروع ستكون توسيع نطاق السيطرة “الإسرائيلية” على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس والخليل، وتحويل هذه الأماكن إلى مراكز دينية متعددة تخدم الأجندة الصهيونية، وَإذَا نجحت “إسرائيل” في ذلك، فَــإنَّها لن تكون قد غيَّرت فقط خارطة فلسطين، بل خارطة النفوذ الروحي للعالم الإسلامي، بحيث لم تعد مكة وحدَها قبلةً للمسلمين، بل أصبحت هناك “مكة أُخرى” تحت السيطرة الإسرائيلية، وهذا التغيير، الذي قد يبدو بعيدَ المدى، هو في الواقع أقربُ مما يتصور الكثيرون، وهو جزء من معركة طويلة تتجاوز الجغرافيا لتصل إلى قلب العقيدة والهُوية.

 

مشروعُ قناة المتوسط:

إذا نجحت “إسرائيلُ” والولايات المتحدة في فرض سيناريو تهجير سكان غزة، فَــإنَّ هذا لن يكون مُجَـرّد كارثة أُخرى تُضاف إلى سجل النكبات الفلسطينية، بل سيكون إعلانًا عن بداية مرحلة جديدة في إعادة تشكيل المنطقة اقتصاديًّا؛ إذ إن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة يمهد لتنفيذ مشاريع كبرى كانت مستحيلة في ظل وجود مليونَي فلسطيني في القطاع، وعلى رأسها مشروع شق قناة مائية تربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، في خطوة من شأنها أن تضعَ “إسرائيل” في موقع القوة الاقتصادية والجيوسياسية العليا، وتقلب موازين المنطقة بشكل جذري.

القناة المائية “الإسرائيلية”، التي يجري الحديث عنها منذ عقود، لم تكن مُجَـرّد مشروع نظري، بل كانت دومًا ضمن حسابات “إسرائيل الكبرى”؛ إذ تهدف إلى إيجاد بديل استراتيجي لقناة السويس المصرية، وتعزيز مكانة “إسرائيل” كمحور رئيسي للملاحة والتجارة الدولية.

هذه القناة، التي ستبدأ من خليج العقبة وتمر عبر أراضي النقب وُصُـولًا إلى البحر الأبيض المتوسط، ستكون بمثابة ضربة قاصمة للاقتصاد المصري، الذي يعتمد على قناة السويس كمصدر رئيسي للدخل القومي، وَإذَا كانت مصر قد نجحت في الحفاظ على مكانة قناة السويس لعقود، فَــإنَّ نجاح “إسرائيل” في تنفيذ مشروعها المائي الجديد سيعني خسارة مصر لعشرات المليارات من الدولارات سنويًّا، ما قد يؤدي إلى أزمة اقتصادية خانقة تُضعِف موقعها الجيوسياسي بشكل لم يسبق له مثيل.

تنفيذ هذا المشروع كان مستحيلًا في الماضي لعدة أسباب، أبرزها أن غزة كانت تقف كعائق جغرافي وديموغرافي يحول دون ربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط عبر الأراضي المحتلّة، ولكن إذَا ما تم تنفيذ المخطّط الأمريكي-الإسرائيلي القائم على تهجير سكان القطاع إلى سيناء أَو إلى مناطق أُخرى، فسيصبح القطاع أرضًا فارغة يمكن إعادة توظيفها ضمن المشاريع “الإسرائيلية” الكبرى، وبهذا الشكل ستتمكّن “إسرائيل” من شق القناة دون أية عوائق سكانية أَو مقاومة شعبيّة، وستتحول غزة من منطقة مأهولة بالفلسطينيين إلى بوابة إسرائيلية جديدة للملاحة العالمية.

المسألة هنا تتجاوز البُعد الاقتصادي إلى الأبعاد العسكرية والاستراتيجية؛ إذ إن هذه القناة في حال تم تنفيذها، ستمنح “إسرائيل” ميزة عسكرية غير مسبوقة، حَيثُ ستتمكّن من نشر قواعدها البحرية على طول القناة، ما سيمكنها من التحكم بالملاحة في البحرين الأحمر والمتوسط، ويمنحها القدرة على إغلاق أَو فتح الممر المائي وفقًا لمصالحها الأمنية والسياسية، وبهذا الشكل، لن تكون “إسرائيل” مُجَـرّد لاعب اقتصادي، بل قوة بحرية تمتلك القدرة على فرض شروطها على القوى الإقليمية والدولية.

من ناحية أُخرى، فَــإنَّ تنفيذ هذا المشروع يعني أن “إسرائيل” ستتحول إلى مركز رئيسي للطاقة في المنطقة، حَيثُ ستتمكّن من تصدير النفط والغاز القادم من الخليج العربي إلى الأسواق الأُورُوبية دون الحاجة إلى المرور عبر قناة السويس، وهذا السيناريو لا يعني فقط تقليصَ أهميّة مصر كممر استراتيجي للطاقة، بل يعني أَيْـضًا أن “إسرائيل” ستتمكّن من فرض سيطرتها على تجارة الطاقة العالمية، وتعزيز تحالفاتها مع الولايات المتحدة وأُورُوبا، مما يمنحها قوة اقتصادية وجيوسياسية تفوق بكثير ما تمتلكه اليوم.

وفي حال نجاح هذا المخطّط ستجد الدول العربية نفسَها أمام واقع جديد تصبح فيه “إسرائيل” لاعبًا اقتصاديًّا لا يمكن تجاوزه، بينما تتراجع مصر إلى موقع تابع في المعادلة الجيوسياسية، كما أن هذا المشروع قد يدفع العديد من الدول إلى التعامل المباشر مع “إسرائيل”؛ باعتبَارها المركز الجديد للتجارة والملاحة في المنطقة؛ مما قد يؤدي إلى تسارع عمليات التطبيع الاقتصادي والسياسي مع “إسرائيل” على حساب القضية الفلسطينية.

 

خيار وحيد للردع:

وَلهذا فَــإنَّ التحدي الذي تواجهه الدول العربية، وخَاصَّة مصر، لا يتعلق فقط بمواجهة تهجير الفلسطينيين، بل بمنع تنفيذ المشاريع “الإسرائيلية” التي تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الاقتصادية والسياسية للمنطقة لصالح الكيان الصهيوني.

التاريخ واضح؛ فالتنازل أمام القوة لا يؤدي إلا إلى مزيد من الإملاءات، والتعامل مع الاستعمار بمنطق التفاوض على حقوق مشروعة ليس سوى تفريط مُمنهج يؤدي في النهاية إلى محو القضية بأكملها.

ما تحتاجه المنطقة اليوم ليس حلولًا وسطية تكرّس الاحتلال، بل رؤية حقيقية لمواجهة الاستعمار الصهيوني، رؤية تقوم على تثبيت المعركة في قلبها الصحيح فالاحتلال هو المشكلة، والمواجهة هي الحل.

 لا يمكن لأي تحالف عربي أَو إسلامي أن يكون له وزن إذَا لم يكن قائمًا على دعم صريح للمقاومة الفلسطينية، ماديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، ورفض كُـلّ المسارات التي تهدف إلى تدجين غزة وتجريدها من عناصر القوة، والعدوّ يدرك جيِّدًا أن صراع الإرادات هو ما سيحسم المعركة؛ ولهذا فهو يضغط لإضعاف الإرادَة الشعبيّة قبل أن يحاول كسرَ المقاومة نفسها، وغزة التي انتفضت مرارًا رغم الحصار والحروب، لن تكون لقمةً سائغة لمشاريع إعادة التشكيل الإسرائيلية، ولن تكون أرضًا فارغة ليُعاد رسمُها وفقَ مقاسات الاحتلال.

اللحظة القادمة ليست اختبارا للمقاومة، فهي أثبتت قدرتها على الصمود في أقسى الظروف، بل هي اختبار للدول العربية والإسلامية وللنخب التي ما زالت تملك القرار، فهل سيستمر البعضُ في تقديم المبادرات العقيمة التي لا تُفضِي إلا إلى تقوية الاحتلال؟ أم سيكون هناك وعيٌ حقيقي بأن القضية الفلسطينية لن تُسترد إلا بالمقاومة الفاعلة، وبالتحَرّك على جميع الجبهات لإفشال المشاريع الصهيونية؟ التاريخ يُكتب اليوم، لكن الاختيار بين أن يُكتب بأيدينا أَو أن يُفرض علينا، لا يزال مفتوحًا.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com