قاعدة الأمن الأمريكي مقابل النفط السعوديّ.. هل ما زالت فاعلة؟
المسيرة- إبراهيم العنسي:
لماذا تصر الرياض على استمرار علاقتها الاستراتيجية القديمة مع واشنطن وقد مضى عليها ثمانية عقود رغم أن الظروف والأحوال لم تعد كما كانت عليه؟
أولويات أمريكا تتغير ونظرتها للعالم وخرائط تحالفاتها تتغير، وواقع وقوة أمريكا يتغير، وقد تغيَّرت كُـلُّ ملامح سياستها الناعمة، مع بدء حرب الخليج، إلى حقيقة تحاول أن تتقي السقوط بالهروب لنهب كُـلّ ما هو أمامها وفي متناول يدها، حَيثُ الشعور بالعجز والضعف يعبر عن ذاته في إطلاق اليد الأمريكية الخشنة اليوم أكثر من أي وقت مضى.
أمام السعوديّين هناك مؤشرات تؤكّـد أن علاقتها مع أمريكا لم تعد على ما يرام، ليس فقط؛ لأَنَّ أمريكا تسعى للمزيد من الابتزاز المفضوح للمال السعوديّ النفطي الذي هو ملك لشعب المملكة قبل غيره، بل لأَنَّ أمريكا لم تعد تلك القوة التي يركن إليها حكام المملكة، وقد كان هذا واضحًا في ظهور ملامح الضعف والقصور في إمْكَانيات أمريكا العسكرية التي تعول عليها الرياض لحفظ أمنها، وكضامن لغياب ردة الفعل المعارضة لعدائية السعوديّة بحق جيرانها ومحيطها ومنطقتها.
في الواقع أن قاعدة “الأمن مقابل النفط” التي اعتمدت عليها الرياض في علاقتها مع واشنطن لم تعد كذلك، لقد كان الغضب السعوديّ من سلبية الموقف الأمريكي بعد ضربات أرامكو، (التي جاءت في الواقع ردًّا على الحصار السعوديّ الأمريكي لليمن)، مؤشرًا على حقيقة النظرة الأمريكية الانتهازية للسعوديّة، حَيثُ كانت الرياض تعتقد أن واشنطن ستقيم الدنيا ولن تقعدها بعد استهدافها، لكن هذا لم يحدث.
هناك جملة أحداث تعزز فشل الرهان السعوديّ على هذه القاعدة.. يتذكر النظام السعوديّ تلويح أمريكا بالملف الحقوقي السعوديّ بما فيه اغتيال خاشقجي الذي كان بايدن قد استخدمه مع حملة ترشحه الأولى للرئاسة الأمريكية، وإن كان غاب بعد ذلك لكنه غياب مؤقت.
الرياض تتذكر كيف أحيا الأمريكيون ملف أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في العام 2016م، وبعد خمسة عشر عامًا على الحدث العالمي، أصدر الكونجرس الأمريكي قرارًا يحمل السعوديّة مسؤولية أحداث الحادي عشر وانهيار أبراج التجارة العالمية، وإعطاء الضحايا (حوالي ثلاثة آلاف شخص) الحق في رفع دعاوى قضائية ضد المملكة والمطالبة بالتعويضات.
هذه أوراق سيستمر رفعها كلما استدعت الحاجة لابتزاز أَو تهديد السعوديّة بها.
ثم إن طريقة أمريكا في تنفيذ قاعدة الأمن مقابل النفط أصبحت أكثر إحراجًا للمملكة؛ فهي اليوم تتم بصوت عال، همجي، تهديدي، وساخر، حَيثُ أصبح الابتزاز الأمريكي للنظام السعوديّ أعلى سقفًا، من خلال إلزامه بدفع قرابة ترليون ونصف ترليون دولار على نحو مهين، وأمام هذا الابتزاز الأمريكي فَــإنَّ القاعدة التي تحكم العلاقات السعوديّة الأمريكية قد اختل توازنها، فهي ليست على ما يرام، خَاصَّة بعد أن ظهرت مؤشرات الضعف العسكرية في منظومات الدفاع الأمريكية، وفي حاملات طائراتها (البعبع الذي كانت ترعب به العالم) للحد الذي يعمق القلق السعوديّ إلى مستوى غير مسبوق، فما كانت تراهن عليه المملكة من كفاءة السلاح الغربي، والأمريكي في المقدمة مخيبٌ وصادم للنظام السعوديّ، فعلى ماذا يمكن أن تعول الرياض، وقد تكشف الضعف الغربي في المنطقة، وفي استهداف اليمن المتراكم للعمق الصهيوني، وقد تجاوز كُـلّ منظومات العدوّ وبكل سهولة.
لقد فسّرت أحداثٌ مثل سحب أمريكا لمنظوماتها الدفاعية من الأراضي السعوديّة بعد أن كانت القيادة السعوديّة ترجعه إلى ابتزاز أمريكي، ليتضح أن واشنطن كانت بهذا الفعل تداري عن شركائها العرب ضعف منظوماتها التي كان الرهان عليها للحماية، وهو ضمانُ مواصلة الابتزاز الأمريكي للخليج الثري.
ومما يشير إلى ضعف قاعدة “الأمن مقابل النفط” أن الصين أصبحت في السنوات الأخيرة أكبر مشترٍ للنفط السعوديّ بدلًا عن الولايات المتحدة، حَيثُ هناك أرقام إنتاجية متصاعدة في الداخل والجوار الأمريكي، فهناك زيادة في الإنتاج المحلي في أمريكا من 10 ملايين برميل يوميًّا إلى 13.5 مليون برميل، وثانيًا ارتفاع صادرات كندا النفطية من 3 ملايين برميل يوميًّا إلى 4 ملايين برميل.
وفي الواقع، كان مسعى واشنطن وهذا ليس جديدًا، لتقليص وارداتها من النفط هدفًا منذ عقود؛ فالرئيس الأسبق بوش قال في خطاب شهير عن حالة الاتّحاد عام 2006 إن بلاده “مدمنة على النفط”، وحدّد هدفًا لاستبدال 75 % من واردات النفط السعوديّة ودول الشرق الأوسط بحلول عام 2025.
مع ذلك تستمر أحلام النظام السعوديّ في بقاء قاعدة المصالح الاستراتيجية بينها وبين أمريكا “النفط مقابل الأمن”، وإنجاز اتّفاق “أمني” تاريخي مع الولايات المتحدة، فهي ترى فيه ضمانة لاستمرار سياساتها في المنطقة، وهامشًا للحركة والمناورة، حَيثُ أقرب التحليلات الغربية تعطي استمرار الهيمنة والقوة الأمريكية العظمى، سنوات طويلة تتجاوز عقدًا أَو عقدين. هذا ما تراه السعوديّة مناسبًا للتعويل على المحور الأمريكي مع اللجوء لاستغلال تصاعد المنافسة الجيوسياسية العالمية بين الولايات المتحدة والصين، كحافز لتعزيز الشراكات الناشئة مع قوى غير غربية ضمن استراتيجية احتياطية لضمان مصالحها وعلى أمل أن هذا سيعزز دورها في النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب، والذي يتشكل اليوم بخطى بطيئة.