شمال فلسطين “خالٍ” وجنوب لبنان حُــــرّ.. الشهيد “نصر الله” يكسبُ تحدّي “العودة”
وقف العدوان على غزة ولبنان دونَ “الضفّة” لا يكفي لإعادة الغاصبين “المشرّدين”:
المسيرة: نوح جلّاس
“لن تستطيعوا أن تعيدوا سكانَ الشمال وافعلوا ما شئتم، هذا هو التحدي الكبير بيننا وبينكم.. السبيلُ الوحيدُ لإعادة سكان الشمال، هو وقفُ العدوان والحرب على أهل غزة والضفة الغربية، وبخلاف هذا فلا شيء”.
كانت هذه العبارة هي التحدي الأخير الذي أطلقه شهيد الإسلام والإنسانية القائد حسن نصر الله، قُبَيْلَ استشهاده بعشرة أَيَّـام في كلمة متلفزة؛ تعقيبًا على جريمة تفجير البيجرات وأجهزة الاتصالات اللاسلكية. ومع مرور نحو خمسة أشهر على ارتقاء روحه في السابع والعشرين من سبتمبر الفائت، فَــإنَّ هذا التحدي ما يزال قائمًا رغم توقف الجبهة اللبنانية منذ قرابة أربعة أشهر واستمرار وقف إطلاق النار في غزة؛ لينتصر “نصرُ الله” من تحت “الثرى” ومن فوق “الثريا”.
بين “الجنوب” و “الشمال”.. المنتصِرُ وكاسبُ الرهان:
ما يزال الغاصبون الذين فروا من مغتصبات شمالي فلسطين المحتلّة، مشردين في مختلف المدن الأُخرى في العمق المحتلّ، باستثناء البعض من الأسر التي عادت وتشكو الأوضاع هناك وتهدّد حكومة المجرم نتنياهو بالنزوح مجدّدًا على وقع الوضع الاقتصادي القاتم الذي يخيم على مغتصبات الشمال، وهو الأمر الذي حال دون عودة مئات الآلاف من النازحين الفارين الذين شرَّدهم حزب الله جراء عملياته البطولية التي نفَّذها طيلة أكثر من عام في إسناد طوفان الأقصى المباركة.
وعلى الرغم من توقف الجبهة اللبنانية باتّفاق التهدئة الموقَّع أواخر أُكتوبر الفائت، بقي الوضعُ في مغتصبات “مستوطنات” شمالي فلسطين المحتلّة كما هو خاليًا من الحياة، في وقت كان الجيشُ الصهيوني قد توغل قليلًا إلى بلداتِ لبنانَ الجنوبية، غير أنه ومع اللحظات الأولى لتنفيذ الاتّفاق عاد عشرات الآلاف من النازحين اللبنانيين إلى قراهم وبلداتهم مستبشرين بالنصر الجديد الذي يوازي انتصار “تموز”، عكس مغتصبي الشمال الفلسطيني الذين بقَوا في الشتات، متأثرين بالمخاوف الأمنية، لتستمرَّ منذ ذلك الحين معادلةُ الشهيد نصر الله في الثبات، فيما عجز العدوّ عن إعادة غاصبيه، حتى وجد نفسَه مجبَرًا على وقف العدوان ورفع الحصار عن غزة بتوقيع اتّفاق لوقف إطلاق النار بكامل شروطِ المقاومة الفلسطينية، والذي دخل حيز التنفيذ في التاسع عشر من يناير الماضي.
رضخ العدوّ الصهيوني ووقّع اتّفاق غزة وسعى بكل الطرق لإرجاع الغاصبين إلى مغتصبات الشمال بعد طمأنتهم وتكثيف جهوده لتخفيف وتيرة رفضهم العودة قبل تسوية أوضاعهم وتطبيع الحياة وترميم ما تركه حزبُ الله من رعب، لكن النتيجة ما تزال آخذةً في الثبات، والمغتصبات ما تزال في الممات، ومعادلة حزب الله كانت السقفَ الأعلى؛ فوقف العدوان على لبنانَ وغزةَ لا يكفي لإعادة الغاصبين قبل وقف الاعتداءات على الضفة الغربية، وهي الثلاثُ المرجعيات والمرتكزات التي بنى عليها الشهيدُ نصر الله التحديَ بينه وبين المجرم “نتنياهو” ووزير حربه آنذاك المجرم “يواف غالانت”.
واستمرار هذا التحدي لصالح شهيد الإنسانية يؤكّـد للعدو الصهيوني أن المعادلات التي ثبّتها أمين عام حزب الله آنذاك لا تسقط باستشهاد صاحبها، بل تبقى على الدوام تلاحقُ العدوّ حتى يرضخَ ويعلن خسارته التحدي، وهو الأمر المحتومُ في ظل رفض مئات الآلاف من الغاصبين “المستوطنين” العودةَ إلى مساكنهم في الشمال المحتلّ؛ جراء المخاوف الأمنية من عودة التصعيد في ظل لُغة الحرب الصهيونية وتصاعد الاعتداءات على الضفة الغربية، والتي قد تعيدُ العدوّ إلى نقطة الصفر وتهجير المزيد والمزيد من لفيفه القابعين في دائرة نيران المقاومة.
كما يواجه العدوّ الصهيوني أَيْـضًا مصاعبَ اقتصادية حالت دون إعادة النازحين إلى مساكنهم، كما وعد نتنياهو قبل أشهر، حَيثُ يحتاج العدوّ – بحسب تقاريرَ صهيونية – من 8 إلى 10 سنوات لإعادة تطبيع الحياة في مغتصبات الشمال التي دمّـرها حزب الله، ويحتاج العدوّ أَيْـضًا إلى مبالغَ مهولة لتعويض الغاصبين وإعانتهم إلى العودة وممارسة الحياة، بعد أن تكبدت خزينة العدوّ مليارات الدولارات لرعاية وإيلاء الغاصبين الفارين من الشمال، وكانت آخر إضافة في موازنة العام 2024 في شهر سبتمبر، عندما أجبرت ما تسمى وزارة مالية العدوّ على إضافة 900 مليون دولار إلى الموازنة؛ لمواجهة احتياجات النازحين الغاصبين، من سكنٍ داخل الفنادق والشقق السكنية، وكذلك الرعاية الاجتماعية والمعيشية في ظل تعطُّل عشرات الآلاف عن العمل وحرمانهم من وظائفهم ومرتباتهم.
وقد نشرت خلال الأيّام الماضية عديدُ وسائل الإعلام الصهيونية تقاريرَ عدة بشأن استمرار حالة الرعب في مغتصبات الشمال، وأرجأت ذلك إلى سببَين:- الأول يعود للوضع الاقتصادي القاتم، والثاني إلى المخاوف الأمنية الكبيرة من عودة التصعيد، على وقع انتهاكاتِ الجيش الإسرائيلي جنوبي لبنان وكذلك في الضفة الغربية. وهنا يجد العدوّ الصهيوني نفسَه أمام خيار وحيد، وهو وقف كامل الانتهاكات من الجنوب اللبنانية إلى قلب القدس، ليتمكّن من مدِّ جسر العبور مبدئيًّا أمام الغاصبين النازحين، وفي هذه الحالة يتأكّـدُ للجميع مَن هو الطرف الذي كسب التحدي، نتنياهو أم نصر الله الذي استشهد قبل خمسة أشهر.
“الترقيع” يولّد ثقوبَ هزائمَ مضاعفة:
المماطلة والتنصل واستمرار الانتهاكات والحلول الترقيعية لن يجديَ المجرم نتنياهو نفعًا، خُصُوصًا في ظل السخط الكبير في صفوف مغتصبي الشمال العائدين بنسبة قليلة جِـدًّا، حَيثُ أكّـدت وسائل إعلام صهيونية أن المشاركة في “الانتخابات المحلية” للبلدات والمجالس الإقليمية في الشمال المحتلّة كانت طفيفةً للغاية وبنسبة متدنية لم يسبق لها مثيل، معللةً هذا العزوف الانتخابي بسببين:- الأول خلو غالبية مغتصبات الشمال من السكان، والثاني السخط الكبير في صفوف من عادوا مؤخّرًا؛ بسَببِ أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية المأساوية وصيرورة تلك المغتصبات كمدن أشباح، مع العلم أن الذين عادوا إليها لا يتجاوز عددهم 40 ألفًا من أصل 300 ألف مغتصِب هارب، حسب ما ذكرت تقاريرُ صحفية “إسرائيلية”.
وأوضحت بيانات وتقارير “إسرائيلية” أن نسبة المشاركين في الانتخابات لم تتجاوز خانة الخمسين في المئة، وهذا أَيْـضًا يعكس صورة الفشل الإسرائيلي في تطبيع الحياة في الشمال المحتلّ حتى بعد رضوخه بوقف إطلاق النار في لبنان وغزة، خُصُوصًا مع استمرار الأزمات الاقتصادية المتتالية، والتي كان آخرها ارتفاع نسبة التضخم عن شهر يناير الفائت إلى نحو 4 %، وهذا السقوط الاقتصادي يكشف أَيْـضًا أن الضربات التي تعرض لها العدوّ أمنيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا لن يتعافى منها إلا بعد أمدٍ طويل.
وإزاء ذلك أجرت صحفٌ صهيونية استطلاعاتٍ مع عدد من الغاصبين النازحين وسطَ فلسطين المحتلّة الذين تركوا مغتصبات الشمال، وسألتهم عن سبب عدم عودتهم ومواصلة الحياة مجدّدًا من حَيثُ فرّوا، لكنهم أكّـدوا في تصريحاتهم، أن عدم جهوزية المغتصبات للسكن، والقلق الأمني المتواصل، وآثار الرعب التي تركها حزبُ الله ونصر الله، هي الأسباب الرئيسية لعدم عودتِهم.
وأكّـدوا أَيْـضًا في تصريحات نقلتها “يديعوت أحرونوت” أن هناك أعدادًا كبيرةً من الغاصبين النازحين يرفضون العودة في الوقت الراهن.
وعلى الرغم من أن العدوّ الصهيوني أجرى الانتخاباتِ بالتزامن مع انسحابات جديدة لقواته من جنوبي لبنان – كان الهدفُ منها رفع َمنسوب الطمأنة للغاصبين ضمن حلول نتنياهو الترقيعية – تكشف الصحيفة الصهيونية أن حالةَ الخوف والرفض للعودة إلى الشمال الفلسطيني المحتلّ تعكسُ التعقيدات الكبيرة التي تركتها نيران حزب الله.
ونقلت الصحيفة تصريحات عن محللها العسكري المدعو “يوسي يهوشع” تعقيبًا على هذا الجانب، والذي بدوره شكّك في قدرة حكومة المجرم نتنياهو على طمأنة النازحين الغاصبين بواسطة الانسحاب من بلدات لبنان الجنوبية، مؤكّـدًا أن فشل استعادة الأمن والوضع بشكل عام سيطيل أمدَ المعاناة الإسرائيلية في هذا المِلف، وهو الأمر الذي يزيد نصرَ الله انتصارًا في هذا التحدي.
لا حلول للعدو غير مرجعيات “نصر الله” المنتصر:
أما صحيفةُ “هآرتس” العبرية، والتي علَّقت على الشأن ذاته من زاوية تسليط الضوء على الحافلات الوافدة إلى مغتصبات الشمال، فقد أوضحت أن الحافلةَ الوحيدةَ التي مرت إلى المغتصبات الخالية كانت تحمل راكبًا واحدًا فقط (راكبة)، في تأكيد على انعدام كُـلّ مؤشرات العودة، وتصاعد مظاهر الفشل الصهيوني.
والأفظع من ذلك أن الصحيفة العبرية أوضحت أن الراكبة الوحيدة على تلك الحافلة التي مرت باتّجاه مغتصبة “المطلة”، كانت هي مراسلة الصحيفة التي تستقصي نسبةَ العودة إلى الشمال؛ أي أنه لا يوجد عائدون حتى في ظل انسحابات الجيش الإسرائيلي؛ ما يؤكّـد فشل كُـلّ خيارات نتنياهو أمام مرجعيات “نصر الله”.
وعرّجت “هآرتس” أَيْـضًا على المشهد في محطات القطار، وأوضحت أنه تم استئنافُ النشاط في خط رقم 20 من محطة الحافلات المركَزية في “كريات شمونة” إلى مغتصبة “المطلة”، مؤكّـدة أن المحطة ظلت فارغة تمامًا، وأن المناطق هناك ما تزالُ تعيش دمارًا واسع النطاق، في تأكيد جديد على حجم الضربات التي وجّهتها المقاومة الإسلامية اللبنانية، وانسداد كُـلّ آفاق الحلول أمام حكومة المجرم نتنياهو.
ونقلت عن مراسلتها أن المغتصبات في “كريات شمونة” مليئة بصور المرشحين للانتخابات ولكن من دون ناخبين، وكذلك تمتلئ الجدران بالأعلام الصفراء المتضامنة مع الأسرى الصهاينة، في إشارة إلى أن أسباب رفض العودة تفوقُ ما يتصوره المجرم نتنياهو؛ أي أن إصلاح الأوضاع الاقتصادية والأمنية والمعيشية – والذي لن يتحقّق إلا بتنازلات كبيرة لمجرم الحرب – لا يكفي لإعادة النازحين، حَيثُ يحتم عليه الرضوخ لتنفيذ كامل اتّفاق غزة وإعادة أسراه بصفقات تبادل سلمية حتى آخر أسير، وهذا يحتم على الكيان الرضوخ لكامل المطالب العادلة والمشروعة للمقاومة الفلسطينية، منها وقف الاعتداءات في الضفة.
كما نقلت الصحيفة أَيْـضًا عَمَّا يسمى “رئيس مجلس مستوطنة المطلة”، الصهيوني “ديفيد أزولاي”، قوله: إن “حكومة المجرم نتنياهو لا تكترث لما يجري”، مُضيفًا بالقول: “إنه أمر جنوني واقعُ المواصلات العامة في شمال “إسرائيل”، هناك خط مواصلات يمتد من كريات شمونة إلى المطلة، يسافر 6 أَو 7 مرات في اليوم، ولا يتوقف في أية محطة ولا يركبه أحد، لقد جاء وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، إلى هنا وأطلق الوعود التي تبخرت فور مغادرة المكان، وهو أمر مخيِّب للآمال”.
ويواصل حديثه لـ “هآرتس”: “لقد شاهد سموتريتش كُـلّ شيء في المطلة، وتجول من بيت إلى بيت، وشاهد الدمار، والأضرار، والهجران، والجرذان التي استولت على المنازل، ثم غادر، وكأن شيئًا لم يحدث”.
وأكّـد أن “الحكومة تتحدث عن الإعمار وإعادة النازحين، وكل هذا باسم صورة النصر، لا توجد هنا صورة انتصار، هناك الكثير من صور الدمار والخراب”.
ختامًا.. إن الأوضاع التي تعيشُها مناطقُ الشمال الفلسطيني المحتلّ والجنوب اللبناني الحُر، ومعها هذه التصريحات والإحصائيات، تكشف بحد ذاتها أن الشهيدَ حسن نصر الله لم يكسب التحدي فحسب، بل أسّس لاستمرارية هذا الانتصار لأطول فترة ممكنة تربك كُـلّ أوراق العدوّ الصهيوني، حتى وإن رضخ لكامل مرتكزات رهان “أبي هادي”، فَــإنَّ الآثارَ ستبقى لتلاحق مجرم الحرب نتنياهو وكيانَه بمزيد من الهزائم المدوّية، ويبقى “الأمين العام” كابوسًا يؤرّقُ مضاجعَ العدوّ، سواء تحت الثرى بجثمانه الطاهر وما اختزل من رسائلَ في يوم مواراته، أَو فوق الثريا بمنهجيته وإرثه وكلماته ورهاناته التي ستظلُّ هي الأعلى حتى السقوطِ الأخير للكيان المؤقَّت.