وداعاً يا نجماً مضيئاً في سماء المجاهدين

أمة الملك الخاشب

منذ ذلك اليوم المشؤوم المنكوب يوم الثامن والعشرين من أيلول سبتمبر 2024م والذي تم فيه إعلان بيان نعي السيد المجاهد المستبصر العالم الحسيني الحيدري السيد حسن نصر الله، وبقدر أوجاعنا وأحزاننا وصدمتنا جميعاً وعدم استيعابنا لفكرة أن هذا السيّد القائد رحل ولم يعد موجود بيننا بقدر تكذيبنا للخبر.. بقدر الدموع الحارقة التي ظلت تحرق المقل، فكلّما سمعنا صوته يتجلجل أو يهدد العدو أو ينصح أو يدعو أو يبكي على الإمام الحسين -عليه السلام- ويّذكر الأمة بمصيبته بتضحياته من أجل صلاح الأمة وبمظلوميته، بقدر العبرات الخانقة وبقدر مشاعر الغصة والحسرة والقهر التي رفضت أن تغادرنا، لكن بمجرد أن نلمح صورة السيد حسن هنا أوهناك أو تقع أنظارنا عليه في وسائل التواصل، أو نسمع صدى صوته يتردد في سيارة أو إذاعة أو هاتف حتى تتهيج الأحزان وتلتهب الجراح ونكتشف أن هذا السيد سكن في دواخلنا فعلاً، على صدى صوت محاضراته تربّينا ونشأنا وهذا ليس حالي فقط بل حال الأغلبية..

تعلمنّا من السيد حسن تفاصيل كربلاء الموجعة، من السيد حسن تعلمنا وفاء العباس بن علي، من السيد حسن تعلمنّا كيف كان صبر زينب وشجاعتها، من السيد حسن نشأنا على بطولات خالدة سطرها أبطال كربلاء ودروس عظيمة لكل الأجيال، وارتباط وثيق بالله عراه وثيقة وأركانه شديدة، لا تهزه العواصف ولا الحروب ولا التحدّيات، إيمان يجعل من الشخص كالإمام الحسين الذي قُتل كل أهله وذبح من وريده ولكنه ثابت لا يطلب سوى رضى الله والفوز بقربه ويردد بكل ثقة بالله تركت الخلق طرا في هواك وأيتمت العيال لكي أراك فلو قطعوني في الحب إرباً لما مال الفؤاد الى سواك، وتعلمنّا منه قولاً وعملاً أن حقيقة الإيمان بالله والارتباط به تجعله حتى لو صُبت عليه مئات الأطنان من القنابل والمتفجرات سيظل ثابتاً على موقفه عظيماً شامخاً مجاهداً، ما أعظمها من سيرة لا تختلف عن سيرة الإمام علي وتضحياته وبطولاته وشجاعته، سيرةً لا تختلف عن عزة وكرامة الإمام الحسين الذي رفع شعار هيهات منّا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، فنشعر جميعاً بعبرات تخنقنا، وحسرات تملأ أفئدتنا عندما نتذكر أننا فقدناه وخسرناه وفرّطت فيه الأمة بجهلها وغباءها، فعلى مثل السيد المجاهد التقي النقي الصادق الأصدق الشهيد الأقدس فلتبكِ البواكي، ولتراق الدموع من المآقي، فهذه من أعظم نكبات الأمة الإسلامية فعلاً أن تفقد قائداً مثله، مخطئ تماماً من يظن أن السيد حسن كان فقط أميناً عاماً لحزب الله أو قائداً للشيعة فقط، هذا القائد كان زعيماً لكل المسلمين سنةً وشيعةً بل لكل الأحرار في العالم حتى لو لم يكونوا مسلمين، لم يشهد العالم له في كل حياته الجهادية خطبةً واحدة فيها تحريض أو فيها دعوة لفتنة أو فيها احتقار بأي مذهب أو طائفة بل كان حريصاً دائماً على نشر الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي، ويحذّر من مخططات العدو في زرع الفتنة الداخلية، السيد حسن كان شخصية فريدة من نوعها وربما لا تتكرر عرف واجبه الجهادي والديني تجاه أمته فقام به على أكمل وجه، جاهد في الله خير جهاد على مدى أكثر من أربعين عاماً، نّكل بأعداء الله اليهود وحاربهم وقاد حزب الله بعد استشهاد أمينه السابق عبّاس الموسوي وأكمل مشوار الجهاد والمقاومة بكل اقتدار حتى عشقته الملايين، وجهّز مئات الآلاف من الأفراد يحملون فكره ومنهجه يبذلون الدماء رخيصة يحملون راية الإمام الحسين -عليه السلام-، يعرفون تماماً من هو عدوهم الأشد عداوةً للمسلمين، يعرفون جيداً منهم المتذبذبين، يعرفون ماهي أدوارهم ومسؤولياتهم في هذه الحياة، هم سادة المجاهدين في هذه الأرض كما سمّاهم الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه-.

في هذا المقال أشعر أن العبارات تتوه عن قلّمي وأشعر بأن الكلمات تضيع عن تعبيراتي وأشعر ولأول مرّة أن لغتي تخونني والمفردات تستحي من هذا المقام العظيم، فلا أدري من أين أبدأ ومن أين أختم وأي صفة من صفاته أتناول؟ مقام السيد حسن نصر الله الذي أكرمه الله وأيّما كرامة وجعل خاتمته الطيّبة على يد أعداء الله ورسوله وأعداء الإنسانية وهم اليهود قتلة الأنبياء ناقضي العهود والمواثيق من خانوا الله ورسوله وتطاولوا حتى على الله تعالى، فقد أختاره الله في عمر الثالثة والستين عمر النبي -صلوات الله عليه وآله- وعمر جده الإمام علي -عليه السلام- واستشهد في سبيل الله كما الإمام الحسين -عليه السلام- شهادةً خالدة ستبقى أثرها جيلاً بعد جيل ولن تُمحى من الذاكرة وستظل أصداء كلماته تتردد وتعّلم الأجيال كيف يكون انتصار الدم على السيف، كيف يكون الاستعداد لمواجهة العدو، السيد حسن الذي ظن الأعداء أنهم باغتياله قد نجحوا في إطفاء جذوة المقاومة وإضعافها ولكنهم لم يجدوا سوى مقاتلين أولي بأس شديد أجبروهم على طلب الهدنة وإيقاف الحرب بعد ما ذاقوا مرارة التنكيل في الحدود اللبنانية.

السيد حسن الذي لا يزال حيّاً في وجدان الملايين الذين هبّوا لتشييعه من كل حدب وصوب ومن كل أصقاع العالم، السيد حسن الذي ظن العدو أنه قضّى عليه وأنهاه ولكنه صُدم بأن رأى تلك الإرادة والقوة التي لا تقهر، ورأى السيد حسن متجسد من جديد يوم تشييعه وخاف العدو منه حتى وهو محمولاً على الأكتاف، فحاول افتعال المشاكل وإثارة الفتن والتوجيه للعملاء المتصهينين داخل الحكومة لافتعال المشاكل في مطار بيروت الدولي ومحاولة صد الزائرين الوافدين للمشاركة في التشييع ولكنهم أيضاً فشلوا وخابوا وتحطمّت أحلامهم المنحطة وشاءت إرادة الله أن تكرّم هذا الولّي التقي النقي وصفيه ورفيق دربه الوفي الأوفى هاشم صفي الدين في تشييع يدل على حسن الخاتمة وعلى محبة الله وعلى الفوز العظيم، تشييع أكرمه الله وأيّما كرامة، فهناك ثمة سر عجيب وغريب يهبه الله لخاصة أولياءه، فلم يكن التشييع فقط للوداع والدموع ولكن في التشييع ستتجدد العهود والمواثيق، وبعد التشييع ستنبعث الروح الجهادية من جديد وتجعل من تابع التشييع ومن شارك فيه ومن حلقت روحه الى هناك كأنه  وُلِدَ من جديد، فمن وقعت عيناه  على مقام قائد عظيم من ذرية النبي محمد -صلوات الله عليه وآله- لكأنه شخصية نسجتها خيالات المؤلفين الذين يصنعون أبطالاً كالأساطير الخرافية القديمة.

لكنه كان حقيقة دامغة ستظل موجودة، ولن تنطفئ ولن يخفت نورها مع الأيام والسنين، سيظل السيد حسن خالداً، روحه تحوم حولنا لتطمئن على كل محبيها، أكاد أجزم بذلك بل وأشعر بها قريبة ترعب الأعداء وتحنو على المحبين التائهين بعد فراقها وتَشُدُ من أزرهم ليكملوا الطريق.

أعذروني فكلماتي خانتني فعلاً وأشعر بأن المقال مبعثر وغير مرتب كأني لأول مرة أكتب مقالاً ولا عجب من ذلك فالحروف تخجل وتتنحي وتنكسر أمام عظمة قائد أحبه الله تعالى ورفع له ذكره في حياته وبعد استشهاده قائد أشعر أن ملامح وجهه تشبه الإمام علي ونور وجهه الوضاء كنور الأنبياء وعمامته السوداء كعمامة النبي -صلوات الله عليه وآله- كما روّت لنا كتب التاريخ، وأصبحت أتنقل من صفة لأخرى ومن كرامة لأخرى، حتى قصّرت كثيراً في وصف من سبقتنا أرواحنا إليه، واشتاقت له الجنّان وصلّت عليه ملائكة السماء ورحب به جده الحسين وأمه فاطمة الزهراء -عليهما السلام-.

السيّد الذي تعّجب حتى أعداءه من حجم محبيه ومن شوق وله ودموع الملايين في التشييع من مختلف المذاهب والطوائف، فوقف العدو حائراً بعد أن كان متجبراً ومتسائلاً في نفسه كيف لمثل هؤلاء أن يموتوا؟ العدو يخاف من الموت ويعشق الحياة ونحن قوم قادتنا يعشقون الشهادة ويرُوون تراب أوطانهم بدمائهم الزكية المطهرة، فويحكم يا أيها الأعداء أي الدماء قد سفكتم وأي كبد قد فريتم فانتظروا عواقب ما فعلتم وستندمون وأي ندم ولكم في التاريخ شواهد أن الدماء الطاهرة تنتصر على الأسلحة الغادرة وعلى التحالفات الغادرة وسأختم بما قاله السيد عبد الملك الحوثي -يحفظه الله- في رثاء هذا السيد: هنيئاً له الشهادة، هنيئاً له هذا الختام، والقربان إلى الله تعالى بروحه الزكيَّة، بعد مسيرةٍ عظيمةٍ من الجهاد في سبيل الله تعالى، بذل فيها جهده، وعمره، وكل طاقته وقدراته، لله وفي سبيل الله، نجماً مضيئاً في سماء المجاهدين، وقائداً عظيماً، ومباركاً وموفقاً حاملاً لراية الإسلام والجهاد، ومجسِّداً لقيم الإسلام وأخلاقه، وعزيزاً، شامخاً، ثابتاً، صابراً، شجاعاً، أبياً، مخلصاً، وصادقاً، والعاقبة للمتقين..

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com