لا استراتيجية.. لا تمويل.. لا مستقبل: البحرية الأمريكية في عصر التيه

 

المسيرة: كامل المعمري:

في الثامِنِ عشَرَ من مارس 2024، قدّمت وزارة الحربِ الأمريكية خُطَّتَها لبناء السفن البحرية للسنة المالية 2025 إلى الكونجرس، وهي خطة تكشف عن طموح عسكري ضخم يهدفُ إلى تعزيز الهيمنة البحرية الأمريكية في مواجهة تحديات “الخصوم” المتزايدة.

لكن تحليل هذه الخطة من منظورٍ عسكري يكشفُ عن سلسلة من التناقضات والضعف الهيكلي الذي يعصف بالبحرية الأمريكية؛ مما يثير تساؤلات جدية حول قدرتها على تحقيق أهدافها الاستراتيجية في ظل واقع يَعُجُّ بالتحديات الداخلية والخارجية، وفي مقدمتها التحدي الكبير الذي تمثّله الجبهة اليمنية.

الخُطَّةُ، التي تم تقييمُها في تقرير مكتب الميزانية بالكونجرس (CBO) الصادر في يناير 2025، تظهر سعيًا محمومًا لتوسيع الأسطول من 295 سفينة قتالية حَـاليًّا إلى 381 سفينة بحلول 2054، مع التركيز على توزيع القوة النارية على عدد أكبر من الوحدات البحرية، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن أزمة مالية وصناعية قد تعرِّضُ هذا المشروع الضخم للفشل، وتضع البحرية الأمريكية في موقف حرج أمام منافسيها العالميين.

من الناحية الاستراتيجية، تأتي هذه الخطة في سياق تصاعد التوترات مع قوى مثل الصين وروسيا، حَيثُ تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على تفوقها البحري كأدَاة رئيسية لفرض سيطرتها على المحيطات، وهي استراتيجية تتماشى مع رؤية الأمن القومي لعام 2022 التي تركز على مواجهة التهديدات الناشئة في المحيط الهادئ ومناطق أُخرى.

غير أن التحليل العسكري لهذه الخطة يكشف عن هشاشة في التخطيط، حَيثُ يتوقع أن ينخفض حجم الأسطول إلى 283 سفينة بحلول 2027؛ بسَببِ تقاعد السفن القديمة قبل أن تبدأ السفن الجديدة في الدخول إلى الخدمة، وهو تراجع مؤقت قد يفتح ثغرة استراتيجية يمكن للخصوم استغلالها، خَاصَّة في ظل تزايد القدرات البحرية لدول مثل الصين التي تعمل على تطوير أساطيلها بسرعة وكفاءة أكبر.

التكلفة المالية لهذه الخطة تُعد واحدة من أبرز نقاط الضعف التي تكشف عنها الوثائق. تقدر CBO أن متوسط التكلفة السنوية لبناء السفن سيصل إلى 40.1 مليار دولار على مدى ثلاثين عامًا، وهو رقم يتجاوز تقديرات البحرية البالغة 34.1 مليار دولار بنسبة 17 %؛ مما يشير إلى محاولاتٍ واضحة من البحرية للتقليلِ من حجم الأزمة المالية أمام الكونجرس والرأي العام.

 

زيادة في الميزانية:

هذه التكلفة تمثل زيادة بنسبة 46 % عن متوسط التمويل السنوي الذي تلقته البحرية خلال السنوات الخمس الماضية (27.5 مليار دولار)، وهي نسبة تكشف عن طموح غير واقعي في ظل الضغوط الاقتصادية التي تواجهها الولايات المتحدة، بما في ذلك الدين العام المتفاقم والحاجة إلى تمويل أولويات داخلية أُخرى.

الأكثر إثارة للقلق هو أن الخطة تتطلب زيادة الميزانية الإجمالية للبحرية من 255 مليار دولار في 2024 إلى 340 مليار دولار بحلول 2054م؛ أي بزيادة تقارب الثلث؛ لتغطية ليس فقط تكاليف البناء، بل أَيْـضًا التشغيل والصيانة وتطوير الطائرات والأسلحة. هذا الرقم الهائل يضع البحرية في مواجهة مباشرة مع الواقع الاقتصادي الأمريكي، حَيثُ يبدو من المستبعد أن يتمكّن الكونجرس من توفير هذا التمويل المُستمرّ في ظل الانقسامات السياسية والضغوط المالية المتزايدة.

من الناحية العملياتية، تتضمن الخطةُ شراءَ 364 سفينة جديدة، منها 293 سفينة قتالية و71 سفينة دعم لوجستي، بمعدل 12 سفينة سنويًّا، مع التركيز على السفن الأصغر والجيل الحالي بدلًا عن الرهان الكبير على التقنيات المستقبلية كما في خطة 2024. هذا التحول قد يبدو منطقيًّا من حَيثُ تقليل المخاطر التكنولوجية، لكنه يكشف أَيْـضًا عن تراجع في الثقة بقدرة الصناعة الأمريكية على تطوير أنظمة متطورة مثل الغواصات الهجومية من الجيل التالي (SSN (X)) أَو المدمّـرات المتقدمة (DDG (X)) في الوقت المناسب.

القاعدة الصناعية الأمريكية، التي تُعد العمود الفقري لتنفيذ هذه الخطة، تظهر كحلقة ضعيفة لا يمكن تجاهلها. التقرير يكشف أن أحواض بناء السفن تحتاج إلى زيادة إنتاجها بنسبة 50 % مقارنة بالمستويات الحالية لتلبية متطلبات الخطة، خَاصَّة في مجال الغواصات النووية التي تُعتبر ركيزة أَسَاسية في الاستراتيجية البحرية الأمريكية. لكن هذه الزيادة تبدو وهمية في ظل التأخيرات المزمنة التي تعاني منها البرامج الرئيسية، مثل غواصات كولومبيا الباليستية التي تتأخر بـ12-16 شهرًا، وغواصات فيرجينيا الهجومية التي تشهد تأخيرات تصل إلى 24-36 شهرًا، وحاملات الطائرات من طراز فورد التي تعاني من تأخيرات بين 18-26 شهرًا. هذه التأخيرات تكشف عن أزمة عميقة في القوى العاملة والموارد، حَيثُ تعاني الأحواض من نقص حاد في العمالة الماهرة وتراجع عدد الموردين، مع اعتماد 70 % من مكونات الغواصات على موردين وحيدين؛ مما يجعل سلسلة التوريد عرضة للانهيار في حالة أي تعطل.

 

 

محاولة يائسة لاستعادة الهيبة البحرية الأمريكية:

البحرية الأمريكية تعتزم استثمار 10 مليارات دولار لتحسين هذه القاعدة، لكن هذا المبلغ يبدو هزيلًا أمام حجم التحديات، خَاصَّة مع استمرار مشكلات الصيانة التي تجعل ثلث غواصات الهجوم خارج الخدمة حَـاليًّا؛ مما يقلل من القدرة الفعلية للأسطول.

كذلك فَــإنَّ برامج السفن الرئيسية تكشف عن مزيد من الفوضى والطموحات غير الواقعية. حاملات الطائرات من طراز فورد، التي تخطط البحرية لشراء 6 منها، تُقدر تكلفتها بـ16.5 مليار دولار لكل واحدة وفقًا لـCBO” “، مقارنة بـ15.3 مليار دولار، حسب البحرية، وهي أرقامٌ تعكسُ التضخم المُستمرّ وصُعوبة السيطرة على التكاليف في ظل تعقيدِ التصميمات الحديثة.

غواصات كولومبيا، التي تُعَدُّ جُزءًا من الثالوث النووي، من المقرّر شراء 10 منها بتكلفة 9.4 مليار دولار لكل واحدة، لكن التقرير يحذِّرُ من مخاطر التجاوز الكبير في التكاليف؛ بسَببِ التقنيات غير المسبوقة، مثل المفاعل النووي المصمم ليدوم 42 عامًا؛ مما قد يضاعفُ الأعباءَ المالية. الغواصات الهجومية، التي تشمل 59 غواصة من طرازَي فيرجينيا وSSN) (X، تواجه تحديًا إضافيًّا مع تأخير الأخيرة إلى 2040م؛ مما يكشف عن تراجع في القدرة على مواكبة التطور التكنولوجي، وهو ما قد يمنح الخصوم مثل روسيا والصين ميزة في سباق التسلح البحري.

المدمّـرات من طرازَي DDG-51) وDDG X)، التي يُخطط لشراء 51 منها، تشهد أَيْـضًا ارتفاعًا في التكاليف، حَيثُ تصل تكلفة DDG X)) إلى 4.4 مليار دولار لكل واحدة وفقًا لـCBO” “، مع تأخير محتمل في بدء الإنتاج إلى 2034 أَو أبعد؛ مما يعكس عدم اليقين في القدرة على تطوير جيل جديد من المقاتلات السطحية.

الفرقاطات من طراز FFG-62، التي يُخطط لشراء 81 منها، تعاني من مشكلات تصميمية وتأخيرات تصل إلى 36 شهرًا، مع تصاعد التكاليف إلى 1.4 مليار دولار لكل سفينة، وهي أزمة تكشف عن فشل في الاستفادة من التصاميم الأجنبية الموجودة مثل FREMM، حَيثُ تحولت الفرقاطة الأمريكية إلى مشروع معقد بعيد عن الأصل. سفن الحرب البرمائية، التي تشمل 25 سفينة كبيرة ومتوسطة و55 سفينة هبوط متوسطة (LSM)، تواجه عدم وضوح في التصميم؛ مما يزيد من المخاطر المالية والتنفيذية.

اتّفاقية AUKUS تضيف طبقة أُخرى من التعقيد، حَيثُ قد تؤدي خطة بيع 3-5 غواصات فيرجينيا لأستراليا إلى تقليص قوة الغواصات الأمريكية دون تعويض فوري، خَاصَّة مع عجز الصناعة عن زيادة الإنتاج إلى أكثر من 1.2 غواصة سنويًّا حَـاليًّا مقابل هدف 2 غواصة. هذا الوضع يكشف عن تناقض في السياسة الأمريكية التي تسعى لدعم حلفائها، بينما تضعف قدراتها الخَاصَّة؛ مما قد يعزِّزُ موقفَ الصين في المحيط الهادئ التي تراقب هذه التطورات بعين حذرة.

تقرير دائرة أبحاث الكونجرس الصادر في 31 يناير 2025، والمنشور عبر المعهد البحري الأمريكي في 7 فبراير بمثابة فضيحة مكتوبة تكشف عُرِيَّ البحرية الأمريكية أمام العالم. خطة بناء السفن للسنة المالية 2025، التي رُميت كورقة مقامرة على طاولة الكونجرس، تُظهِرُ بحرية تتظاهر بالقوة بينما تتهاوى تحت وطأةَ عجزِها، في إشارة إلى الهزيمة التي مُنِيَت بها البحرية الأمريكية أمام القوات المسلحة اليمنية.

 

موقف غامض لترامب:

المال هو السكين التي تطعن بها البحرية نفسها. ميزانية 2025 تطلب 32.4 مليار دولار لشراء 6 سفن فقط، وهو رقم هزيل مقارنة بـ10 أَو 11 سفينة سنويًّا اللازمة للوصول إلى 381 سفينة. لكن مكتب الميزانية بالكونجرس يُفجر القنبلة الحقيقية: التكلفة السنوية 40.1 مليار دولار على مدى 30 عامًا، وميزانية إجمالية يجب أن تصل إلى 340 مليار دولار بحلول 2054. هذه أرقام تُظهر بحريةً تتسوَّلُ من كونجرس منقسم، ومن اقتصاد يغرق في الديون، بينما تُحاول أن تُقنع الجميع بأنها لا تزال القوة العظمى. الحقيقة؟ هي لا تستطيع تحمُّلَ هذا العبء، وكل دولار تُنفقه هو نزيف جديد في جسد أُمَّـة تتظاهر بالقوة بينما تتفكك من الداخل.

في الميدان، البحرية عارية تمامًا. تقاعد 19 سفينة، 10 منها قبل نهاية عمرها، مقابل 6 سفن جديدة، هو دليل على فشل ذريع. التأخيرات تضرب كُـلّ شيء: غواصات فيرجينيا متأخرة 24-36 شهرًا، حاملات فورد بـ 18-26 شهرًا، فرقاطات FFG-62 بـ36 شهرًا. أحواض البناء تنهار، العمالة مفقودة، الموردون يتلاشون، و70 % من مكونات الغواصات تعتمد على مورد واحد، كمن يُراهن على حبل مشدود قد ينقطع في أية لحظة. طلب غواصة واحدة بدلًا عن اثنتين في 2025 هو اعتراف بالهزيمة، ومع AUKUS قد تفقد المزيد لأستراليا، تاركة أسطولها يتقلص بينما التهديدات تتضخم.

التقرير يُظهر كونجرس مشلولًا: موقف ترامب غامض، لا أحد يجرؤ على تبنِّي هدف 381 سفينة كسياسة رسمية، التكاليف ترتفع، الصناعة تعجز، والمركبات غير المأهولة مُجَـرّد كلام فارغ بلا خُطة أَو تكلفة واضحة. البحرية تُحاول أن تُغطِّي عورتَها بورق التين، لكن الريح تكشفُ كُـلّ شيء: أسطول يتقلص، قاعدة صناعية متداعية، وخطط طويلة الأمد تُشبه وعودًا فارغةً في وجه خصوم يبنون بسرعة وثقة عاليتَين.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com