سوريا ولبنان بين نيران العدوان الإسرائيلي وفتنة الحدود: العدوّ واحد.. والمعركة واحدة
المسيرة| عبد القوي السباعي
تشهد الساحة السورية اللبنانية تصعيدًا خطيرًا يعيد إلى الأذهان هشاشة الوضع الأمني في المنطقة، وسط تدخلات إقليمية ودولية تتقاطع مصالحها عند الحدود الشمالية للبنان والجنوبية لسوريا، وتكشف عن لعبةٍ معقدةٍ في خضم الفوضى الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة.
عمق المشهد يلخص خطورة الوضع الراهن فقد تكون الغارات الإسرائيلية على سوريا ولبنان، وسقوط الضحايا في البلدين، وتحَرّكات الجيش اللبناني في مقابل مجاميع مسلحة من مختلف الجنسيات على الحدود، تؤشر إلى أزمة تتجاوز الحدود الجغرافية وتصل إلى عمق السياسات الأمنية والعسكرية للجانبين.
في هذا التقرير نسلط الضوء بشكلٍ أكثر تحليلًا، وقراءةٍ عميقة لتداعيات الأحداث ومساراتها الميدانية التي تسعى إلى خلق مشهدٍ فوضوي يخدم بدرجةٍ أَسَاسيةٍ كيان العدوّ الصهيوني، وأجنداته في المنطقة، فالإمعان الصهيوني على استهداف البلدين والاشتباكات الحدودية، تضعنا أمام التساؤل الملح: “هل تنجح “تل أبيب” في تفجير الجبهة اللبنانية السورية؟”
الغارات الإسرائيلية على سوريا ولبنان: أدَاة للابتزاز الإقليمي
في تفاصيل المشهد، نفذت الطائرات الحربية الإسرائيلية 3 غاراتٍ على قواعد عسكريةٍ قرب مدينة “درعا” جنوبي سوريا، أسفرت عن ارتقاء شهيدان و19 جريحًا، وبحسب مراقبين فهذه الغارات ليست مُجَـرّد عدوان عابر، بل تأتي في إطار مشروعٍ إسرائيلي ثابت لإضعاف العمق الجنوبي السوري وتحويله إلى منطقة رخوة أمنيًّا.
لبنانيًّا وإمعانًا في خرقه لاتّفاقية وقف إطلاق النار، استشهد مواطن وأُصيب 3 بجروح، الاثنين، بغارةٍ لجيش العدوّ الإسرائيلي على بلدة “يحمر الشقيف” جنوبي لبنان.
كما تضررت إحدى المحال التجارية بالغارة واندلعت فيها النيران، وعملت فرق الدفاع المدني اللبناني والهيئة الصحية الإسلامية على إخماد النيران ونقل المصابين، وخلال شهر مارس الجاري، استشهد 11 مواطنًا لبنانيًّا وأُصيب 9 آخرين جراء اعتداءات العدوّ المتواصلة على لبنان.
ووفقًا للمعطيات الميدانية ورغم أن الغارات الصهيونية على البلدين متواصلة وكانت تأتي كروتينٍ يومي منذ أكثر من عام، إلا أن الأحداث الأخيرة المتمثلة بسقوط “نظام الأسد في سوريا وتوقيع الهدنة في لبنان”، باتت تؤكّـد عبثية استمرار الغارات مع انتفاء الذريعة الإسرائيلية، وتشير إلى عدم جدوائية مواصلتها للغارات وتلك الخروقات.
وبحسب المراقبين، فَــإنَّ إمعان الاحتلال في جرائمه يؤكّـد عدم الالتزام بكل الترتيبات التي صاغتها القوى الدولية والإقليمية لسوريا ما بعد “نظام الأسد”، ويسعى من خلال هذه الغارات والتوسع في الأرض السورية لابتزاز الدول الراعية لنظام دمشق الجديد من جهة، واختبار مصداقية هذا النظام في تحوله الكامل لخدمة المشروع الصهيوني العالمي من جهةٍ أُخرى.
كما أن المجازر الفظيعة التي لحقت بالسوريين “الطائفة العلوية”، والانتهاكات بحق “الدروز”، والاستهداف التركي المتكرّرة لـ”لأكراد”، وفقًا لمراقبين، لم تكن جميعها بمعزلٍ عن مخطّط صهيوني كبير يهدف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي السوري، وخلق عداءات ومعارك تستحيل بعدها اقامت “دولة سورية وطنية موحدة”، بل يتم تقسيمها على أَسَاس طائفي ومناطقي.
واللافت في التبرير الإسرائيلي للهجوم؛ هو تعليق وزير الحرب الصهيوني “إسرائيل كاتس”، الذي غلّف العدوان بطابع “حماية الطائفة الدرزية”، متذرعًا بواجب “حماية إخواننا الدروز في سوريا”، حَــدّ تعبيره، غير أن هذا الخطاب الطائفي، بحسب مراقبين، جاء ليفتت المجتمع السوري، ويكشف عن وجه آخر للمخطّط الإسرائيلي، الساعي إلى فرض واقع أمني جديد في سوريا، وتحويل “الدروز” إلى “منطقةٍ عازلة” تحت ذريعة الحماية.
وفي تحليل هذا الموقف، فَــإنَّه يؤشر إلى سياسةٍ استعماريةٍ جديدةٍ قديمة، تحاول “تل أبيب” من خلالها أخذ كعكتها من إسقاط النظام السوري السابق، بتحويل جنوب العاصمة والمحافظات والمناطق التي احتلتها إلى شريطٍ حدودي خاضع لنفوذها وسيطرتها، كما سبق وحصل في جنوب لبنان خلال فترة الاحتلال قبل التحرير عام 2000م.
من هنا، لا يمكن عزل العدوان الإسرائيلي عن مسار التقويض المُستمرّ للأمن القومي السوري، خَاصَّة وأن الغارات تمثل انتهاكًا واضحًا لاتّفاقية فك الاشتباك لعام 1974م، بل يرى مراقبون، أن النظام الجديد في دمشق هو من فتح الباب للعدو الإسرائيلي على مصراعيه، تارةً بصمته عن الاحتلال، وتارةً بمعالجة خاطئة لا تشبه معالجات الدولة.
أزمة الحدود اللبنانية السورية: التصعيد الأخطر
بالتوازي مع التصعيد الإسرائيلي، اندلع توتر غير مسبوقٍ على الحدود اللبنانية السورية، وأدى القصف الذي نفذته “هيئة تحرير الشام” باتّجاه بلدات لبنانية حدودية إلى ارتقاء 7 شهداء و52 جريحًا.
وفقًا للمعطيات، فَــإنَّ استهداف بلدة “حوش السيد علي” وبلدة “القصر” في قضاء “الهرمل” بالصواريخ، دفع الجيش اللبناني للرد، عبر تنفيذ غارات مركزة على مرابض مدفعية داخل الأراضي السورية، للمرة الأولى في تاريخ البلدين.
الأزمة هنا تتجاوز القصف والرد العسكري، فهي تعكس هشاشة الحدود الشرقية للبنان في ظل وجود جماعات مسلحة من مختلف الجنسيات تسرح وتمرح قرب الشريط الحدودي، وهو ما قد يدفع الجيش اللبناني لتوسيع قواعد الاشتباك، خَاصَّة مع وصول تعزيزات من الوحدات الخَاصَّة إلى المنطقة.
ويُظهر البيان العسكري اللبناني حرص الدولة على منع تكرار سيناريوهات أمنية قد تُشعل حربًا شاملة على الحدود الشرقية، لكن بالمقابل، فَــإنَّ الموقف السوري بدا متردّدًا، رغم الاتصالات الرسمية بين بيروت ودمشق، بل إن ثمة اتّهامات لبنانية بأن دمشق تغض الطرف عن نشاط المسلحين على مقربة من الحدود اللبنانية، وهو ما يستدعي تساؤلات عن أولويات القيادة السورية في هذا التوقيت، ولمصلحة من تعمل؟
لبنان وسوريا: وحدة المصير والتحدي الإسرائيلي المشترك
الخطير في المشهد، أن الاشتباك الحدودي يصرف أنظار الطرفين عن العدوّ المشترك؛ “إسرائيل”، في وقتٍ تتعرض فيه سوريا لغارات إسرائيلية مباشرة، وتُستنزف وتقضم حدودها الجنوبية، تتصاعد حدة التوتر على الحدود اللبنانية السورية، وهو ما يصب في مصلحة “تل أبيب” التي تجيد اللعب على التناقضات اللبنانية السورية.
الشعبان اللبناني والسوري، بحسب بيانات مختلفة من الدوائر السياسية اللبنانية الموجه إلى الرأي العام السوري، أنهما يتشأركان عدوًا واحدًا هو الاحتلال الإسرائيلي، ومن هنا تبرز الدعوات إلى “تصويب البوصلة” في مواجهة هذا الخطر الداهم.
ويرى مراقبون، أن الحرب الإعلامية والسياسية التي تسعى لتأجيج الفتنة بين بيروت ودمشق تخدم بلا شك الأجندة الصهيونية في تقسيم الساحات العربية وإشغالها عن قضاياها المركزية.
وأشاروا إلى أنه وفي الوقت الذي يصرح فيه “كاتس” من “جبل الشيخ” أن “الجيش الإسرائيلي باقٍ في سوريا إلى أجل غير مسمى”، تأتي الأزمة اللبنانية السورية الحدودية كهديةٍ مجانية لـ”تل أبيب”، التي لن تتردّد في استثمار أي شرخ بين الحليفين التاريخيين.
الموقف الرسمي اللبناني والسوري: تباين واضح في الأداء
في السياق، الرئيس اللبناني “جوزاف عون” اتخذ قرارًا سريعًا بتكليف الجيش اللبناني الرد على مصادر النيران السورية، في رسالةٍ واضحة أن لبنان لن يسمح بخرق سيادته تحت أي ذريعة، وفي المقابل، جاءت ردود دمشق الرسمية أقل حدة، وسط خطابٍ رسمي لا يزال حذرًا تجاه التصعيد الحدودي.
في مؤتمر “بروكسل”، تحدث وزير الخارجية السوري الجديد عن “انتهاك إسرائيلي لاتّفاقية 1974″، لكنه لم يتطرق مباشرةً إلى التوتر مع لبنان، وهو ما قد يُقرأ على أنه تفويت فرصة لتخفيف حدة الاحتقان مع الجار اللبناني.
وبحسب خبراء فَــإنَّ التباين بين “بيروت ودمشق”، إن لم تتم معالجته بسرعة عبر القنوات الدبلوماسية التي أكّـد الجيش اللبناني على استمرارها، قد يؤدي إلى اتساع رقعة الاشتباكات وتثبيت واقع حدودي جديد يحمل في طياته تهديدًا للأمن القومي للبلدين معًا.
رسائل إسرائيل الخفية: تحجيم سوريا وتطويق لبنان
في العمق، تحاول “إسرائيل” إرسال رسالة مزدوجة لكل من سوريا ولبنان؛ الأولى، أن الجنوب السوري سيبقى رهينة للغارات الإسرائيلية بحجّـة حماية “الدروز”، والثانية أن لبنان لن ينعم بالاستقرار على حدوده الشرقية في ظل الانكفاء السوري عن ضبط المسلحين قرب الحدود.
لكن الأخطر هو تحذير “كاتس” الواضح بأن جيشه “مستعد للبقاء في سوريا إلى أجل غير مسمى”، وهو ما يعد إعلانًا مبطنًا لسياسة قضم تدريجية للجغرافيا السورية.
هذا التصريح، يراه مراقبون أنه يستهدف كسر إرادَة الدولة السورية وشعبها من جهة، ويضع المقاومة اللبنانية في مواجهة مُستمرّة مع تحديات إضافية من الجهة الشرقية، بعدما كانت مشغولة تاريخيًّا بالجبهة الجنوبية مع فلسطين المحتلّة.
ومن نافلة القول: فَــإنَّ الأزمة الحالية ليست مُجَـرّد اشتباك حدودي عابر أَو غارة إسرائيلية معزولة، بل هي جزء من مشهدٍ معقدٍ، تتداخل فيه العوامل الطائفية والأمنية والإقليمية، مع المشروع التوسعي الإسرائيلي في المنطقة تمهيدًا لما يعتقده الصهاينة دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.
وعليه؛ المطلوب اليوم من القيادات اللبنانية والسورية إعادة التذكير بثوابت العداء المشترك للكيان الإسرائيلي، والعمل على تحصين الحدود ومنع استغلال الأعداء للفجوات الأمنية، والتصدي للفتنة الطائفية، كما أن الحفاظ على وحدة الدم والمصير بين الشعبين اللبناني والسوري هو الكفيل بإفشال محاولات الاحتلال وحلفائه في تغذية هذه الصراعات.