غزة لا تفاوض وحدَها تحت النار.. بل ترد وتتمسك بكرامتها مهما كلّف الثمن

 

المسيرة | خاص

في اليوم الـ 533 من حرب الإبادة، ومع أذان المغرب، كانت غزة تستعد للإفطار بعد يومٍ من الصيام؛ أرواحُ أهلها معلقة بالدعاء، وقلوبهم عامرة بالصبر، لكن صواريخ الاحتلال الصهيوني لم تمهلهم، فأمطرتهم غدرًا قبل أن تمتدَّ أيديهم إلى لقمةٍ واحدة، وتحولت الموائد إلى أشلاء، والجدران إلى رماد.

الإفطار في غزة على وقع القصف صار مشهدًا يوميًّا، ورُعبًا لا يتوقف، في الصباح والمساء، قذائف الموت تنهال على المنازل، وشلالات من الدماء تجري في كُـلّ مكان، وتزداد مع كُـلّ لحظة، ومع كُـلّ ذلك، تبقى العزيمة في قلوب الغزيين أقوى من كُـلّ آلة حرب؛ فهم صامدون رغم الفقدان والمعاناة، يسطّرون شجاعة لا مثيل لها.

في غزة، يُقتل الأطفال والنساء والرجال ويدفنون تحت الأنقاض، بينما يصم العالم آذانه، وبات الصمت اليوم خيانة وليس حيادًا، بل مشاركة في الجريمة، فغزة اليوم تقول للعالم: تحدثوا قبل أن يصبح صمتكم وصمة عارٍ أبدية.

 

العدوان الصهيوني المتجدد:

منذ فجر الثلاثاء، 18 مارس الجاري، تتواصل المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، بعدما خرقت حكومة المجرم “نتنياهو” اتّفاق وقف إطلاق النار مع المقاومة، والذي استمر 58 يومًا منذ 19 يناير 2025م، لتعلن بعدها استئناف العمليات البرية.

في تفاصيل المشهد؛ خلال الساعات الـ 24 الماضية، ارتقى 9 شهداء في قصف إسرائيلي استهدف منزلين في “حي التفاح” شرقي مدينة غزة، وأُصيب شخص برصاص قوات الاحتلال في منطقة “عزبة عبد ربه شرقي مخيم جباليا، شمالي القطاع”، وتعرّضت منطقة شرق “بلدة الفخاري شرقي مدينة خان يونس”، جنوبي قطاع غزة، لإطلاق نار من الآليات الإسرائيلية.

وقصفت مدفعية الاحتلال المناطق الغربية لشمال غزة، مستهدفة “بيت لاهيا، والسودانية، والكرامة”، ومنذ الصباح، تتعرض هذه المناطق لقصف متقطع أَدَّى إلى إصابات عدة بين الفلسطينيين، وفي وقتٍ سابق، أطلق الاحتلال “إنذارًا أخيرًا” للفلسطينيين في مناطق “السلاطين والكرامة والعودة”، مطالبًا السكان بالانتقال جنوبًا.

واستشهد ستة أطفال في قصف صهيوني استهدف شقة سكنية في “حي التفاح” بمدينة غزة، وأم وابنتها في قصفٍ على منزل لجأ إليه نازحون قرب “معصرة عبسان الكبيرة شرقي خان يونس”.

وأعلنت وزارة الصحة بغزة أن “130 شهيدًا و263 جريحًا وصلوا إلى مستشفيات قطاع غزة خلال 48 ساعة الماضية، موضحةً في بيانٍ لها، السبت، أن حصيلة الشهداء والإصابات منذ 18 مارس الجاري بلغت 634 شهيدًا، و1172 إصابة.

وأشَارَت إلى ارتفاع حصيلة حرب الإبادة على قطاع غزة منذ السابع من أُكتوبر 2023م، إلى 49747 شهيدًا و113213 جريحًا”، وذكرت أنه لا يزال عدد من الضحايا تحت الركام وفي الطرقات لا تستطيع الطواقم الوصول إليهم.

 

أهداف استراتيجية من العدوان خدمةً للمصالح الأمريكية:

في الإطار؛ تحدث مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط، “ستيف ويتكوف”، عن عدد من القضايا، شملت التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وقطاع غزة وإيران وتركيا والحرب في أوكرانيا، في مقابلة أجراها مع الإعلامي الأمريكي “تاكر كارلسون”.

وفي ربطه لمجمل الأحداث والمستجدات في المنطقة ولدى حديثه عن قطاع غزة، قال “ويتكوف”: إنّ “الطريقة الوحيدة للتعامل مع الوضع فيه هو ضمان ألا يتكرّر ما حصل لإسرائيل في الـ7 من أُكتوبر عام 2023م، مرةً أُخرى”.

وَأَضَـافَ أنّه “يجب نزع سلاح حركة حماس، وإجراء انتخابات حقيقية في القطاع”، فضلًا عن “ضرورة وجود قوة أمنية حقيقية تضمن لإسرائيل عدم وجود مشكلات مع حماس على المدى الطويل”، مؤكّـدًا أنّ اتّفاق وقف إطلاق النار في غزة “تضمن أمورًا كثيرةً تنمّ عن سوء فهم”، مُضيفًا أنّه “تم تصحيحها”.

أما بالنسبة لمستقبل القطاع، بعد استئناف الاحتلال حربه ضدّه بدعم أمريكي، فأكّـد ويتكوف أنّ “الولايات المتحدة ستحاول وضع خطط مختلفة لغزة”، موضحًا أنّ هذه الخطط قد تتضمن كلمة “دولتين”، أَو لا تتضمّنها”، مُشيرًا إلى أن “ما ستفعله بشأن غزة سيتضح أكثر خلال الأشهر الـ6 أَو الـ12 المقبلة”.

وتحدث “ويتكوف” عن السعوديّة، وولي العهد، “محمد بن سلمان”، واصفًا إياه بـ”القائد الرائع”، مُشيرًا في الوقت نفسه إلى وجود قلق بشأن فئة الشباب في بلاده، ونظرتهم إلى مجريات الأمور، مؤكّـدًا أنّ التوصل إلى حَـلّ في قطاع غزة “يمكّن الرياض من التطبيع مع إسرائيل”.

فيما يتعلق بالتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، أكّـد “ويتكوف” أنّ الرئيس الأمريكي، “ترامب”، “يريد تعزيز اتّفاقيات أبراهام”، معربًا عن اعتقاده باحتمال الإعلان عن انضمام دول جديدة إليها، موضحًا أنّ التطبيع “سيتم في كُـلّ مكان”، في حال القضاء على التهديد الذي تمثّله قوى المقاومة، مثل حزب الله وحماس وأنصار الله”، حَــدّ قوله.

 

انهيار الثقة والتآكل المجتمعي داخل الكيان:

وفيما تسعى حكومة الكيان الإسرائيلي لتحميل حماس مسؤولية فشل المفاوضات، رغم أن حماس أبدت مرونة في التعاطي مع مبادرة “ويتكوف”، التي تضمنت الإفراج عن خمسة أسرى مقابل مئات المعتقلين الفلسطينيين، إلا أن الاحتلال أفشل المبادرة بشنّه العدوان، متجاهلًا حتى وسطاءَه.

في السياق، خرج عشرات الآلاف من المستوطنين الصهاينة في تظاهرات حاشدة، في “تل أبيب”، السبت، رفضًا لسياسة حكومة “نتنياهو”، وللمطالبة بصفقة تبادل أسرى شاملة، واحتجاجًا على إقالة رئيس جهاز “الشاباك”، “رونين بار”؛ ودعمًا لقرار محكمة الاحتلال العليا، والتي أصدرت أمرًا مؤقتًا يُوقف إجراءات إقالة “بار” من منصبه.

وذكرت وسائل إعلام عبرية، أنّ هذه التظاهرة الأسبوعية تُعَدّ الأكبر والأعلى صوتًا والأكثر غضبًا من المعتاد، بحيث يهتف المتظاهرون ضد سياسات الحكومة، ويقرعون الطبول، ويهتفون “عار!”، عبر مكبرات الصوت.

واستقطبت احتجاجات طريق “بيغن”، هذا الأسبوع، آلاف المستوطنين، الذين ملأوا الطريق الممتد من شارعَي “كابلان” و”شاؤول هامليخ” تقريبًا؛ أي ما يقارب ضعف عدد المشاركين في الأسابيع الأخيرة، وفق موقع “والا” العبري.

وخلال التظاهرة، قال رئيس المعارضة الإسرائيلية، “يائير لابيد”: إنّه “إذا قرّرت حكومة الـ7 من أُكتوبر عدم الامتثال لحكم المحكمة، فَــإنَّها ستتحول، في تلك اللحظة، في اليوم نفسه، إلى حكومة خارجة عن القانون”، مُضيفًا، أنه “إذا حدث ذلك، فيجب على الحكومة بأكملها أن تتوقف؛ إذ إنّ النظام الوحيد، الذي لا يجوز له التوقف، هو جهاز الأمن”، مؤكّـدًا “أننا سنعارض أي نوع من العصيان، لكن كُـلّ شيء، بخلاف ذلك، يجب أن يتوقف”.

وقال: إنّ “الاقتصاد يجب أن يتوقف، والكنيست يجب أن يتوقف، والمحاكم يجب أن تتوقف، والسلطات المحلية يجب أن تتوقف، وليس فقط الجامعات يجب أن تتوقف، بل المدارس أيضًا”، مهدّدًا بأنّه “إذا كان من الممكن تنظيم تمرد ضريبي، فسننظم تمردًا ضريبيًّا”.

بدوره، قال “داني إلغارات”، شقيق الأسير الصهيوني “إيتسيك إلغارات”، الذي عادت جثته مؤخّرًا من غزة، لدفنه في منزله في كيبوتس “نير عوز”: إنّ “عدد الأسرى القتلى سيرتفع؛ بسَببِ استئناف القتال في غزة”، مُضيفًا أنّ “توجيهات نتنياهو هي التي قتلتهم”، وأنّه “يدير الأحداث، ويتصرف ضد مصلحة إسرائيل، فهو يريد الأسرى أمواتًا، صامتين، لا يُفصِحون عن التفاصيل”.

وفي وقت سابقٍ السبت، أدلى ممثلو عائلات الأسرى الإسرائيليين، ببيانٍ، على خلفية العودة إلى القتال في قطاع غزة، دعوا فيه إلى استئناف المفاوضات؛ مِن أجلِ إنجاز صفقة فورًا، مؤكّـدين أنّ “القتال قد يهدّد حياة الأسرى الأحياء والأسرى الذين قُتلوا”، وطالبوا حكومة الاحتلال بالعمل أولًا لإعادتهم جميعًا.

 

مقاومة غزة لا تساوم في الثوابت:

ورغم العدوان، تبقى المقاومة الفلسطينية صامدة، وفي الأيّام الأخيرة، قصفت كتائب القسام “تل أبيب وعسقلان”، برشقاتٍ صاروخية، وأكّـدت أنها لن تفاوض تحت النار، ولن تقبل بأي اتّفاق لا يضمن وقف العدوان ورفع الحصار وكرامة شعبها.

ويرى مراقبون، أن الحرب قد تطول أَو تتوسع إقليميًّا، لكن المؤكّـد أن المقاومةَ تستندُ إلى الحاضنة الشعبيّة وقوة الحق، بينما تراهن “إسرائيل” على الدبابة والدعم الأمريكي، ففي المشهد، غزة لا تفاوض وحدها تحت النار، بل ترد، وتتمسك بكرامتها مهما كلّف الثمن.

وفي الـ 48 الساعة الماضية دوّت صافرات الإنذار في مناطقَ متفرقة من الأراضي المحتلّة؛ ما أثارت ردودَ فعل متباينةً تعكسُ تصاعد التوتر بالنسبة لأهالي الأسرى، بحسب مراقبين، وهي دليلٌ على تخلي الدولة عن أبنائهم، وجنود الاحتياط يرونها كابوسًا يدفع بعضهم لرفض العودة للقتال.

ويراها البعض أنها لا تخدم حكومة “نتنياهو” رغم أنها تستغلها لنشر الخوف وتمرير سياساتها، إلا أن العلمانيين الصهاينة يعتبرونها مبرّرًا للاحتجاج على إعفاء “الحريديم” من التجنيد، بينما الحقوقيون يرونها نتيجة لفشل “نتنياهو” اقتصاديًّا، وتزيد الأعباء وتفاقم الغضب.

وعليه؛ فَــإنَّ المقاومةَ الفلسطينية في غزة أحدثت من خلال هذه العمليات، شرخًا داخل المكونات الصهيونية؛ ما جعل سياسيي المعارضة يستغلونها للهجوم على حكومة “نتنياهو”، بعد أن تعثرت المصادقة على الموازنة والميزانية العامة للدولة، وخلقت مزيدًا من الفوضى داخليًّا وخارجيًّا، ووفَّرت لإدارة “بايدن” فرصة لمهاجمة إدارة المعتوه “ترامب”.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com