فلسطين.. الأرقامُ والحروف
منصر هذيلي*
لماذا نهتمّ بتركيا وبإيران وبلبنان وبسوريا وبمصر وبالخليج؟ نهتمّ؛ لأَنَّنا نربط كُـلّ هذه الدّول وما يكون فيها بقضيّة رُبّينا باكرا جِـدًّا على أنّها قضية مركزيّة ورمزية وجوديّة. قضيّة فلسطين هذا يعني سؤال الاستعمار والصهيونيّة وعليه فهي قضيّتنا جميعًا عربا ومُسلمين وهي، إذَا دقّقنا، قضيّة الإنسانيّة جمعاء بهذا الطور التاريخي الحسّاس والخطير. أكثر من هذا اهتممنا خلال الفترة الماضية بأحداث أوكرانيا. هل تعوّدنا أن نهتمّ بأوكرانيا وغيرها من جغرافيات بعيدة؟ لا ولكن ربطنا بين قضيّة فلسطين وتحوّلات روسيا وأوكرانيا يجعنا نتابع ونهتمّ.
في خلفيّة هذا الاهتمام المتنقّل وعي مرير بأنّه ما عاد لنا أمل في دائرة عربيّة احتكرت على مدى عقود الحديث في فلسطين والتّفصيل في قضيّتها والمبادرة إلى حلول لها تبيّن لنا أنّها ليست حلولا في شيء. لماذا ينتظر العربي من إيران أَو من تركيا ما يُفترض أن ينتظره من مصر أولويًّا أَو من الأردن أَو من السعوديّة؟؛ لأَنَّه يائس من عروبته حكما ومعارضة.؛ لأَنَّ العرب، العرب المتصدّرين، خنعوا وخانوا ويسعون أكثر من غيرهم في طيّ صفحة فلسطين وقضيّتها التي هي قضيّتنا.
عندما أتابع الأزمة السّياسية الماثلة في مدن تركيا ما هو سؤالي؟ هل يعنيني بقاء أردوغان أَو رحيله؟ لا يعنيني مُطلقا. سؤالي: أي أثر على فلسطين؟ تفصيلا: ممّن تستفيد فلسطين حاكما في تركيا. هي لا تستفيد من أردوغان وبقطع النّظر عن حملات العلاقات العامّة تجاه الفلسطينيين من مظاهرات مساندة واستقبال قادة فلسطينيين وتقديم بعض المساعدات. ليس هناك سياسة فلسطينية لأردوغان. هناك بعض السّياسة بها. هو يهتمّ ببسط نفوذ في المنطقة العربيّة ويعلم عن رمزيّة فلسطين. يعلم أنّ فلسطين مفتاح مُفيد. ليس هناك سياسة فلسطينية صميمة؛ لأَنَّه لا استعداد تركيًّا للاصطدام بالإسرائيليين والأمريكيين؛ مِن أجلِ فلسطين. هذا الاصطدام مستحيل؛ لأَنَّ نظام المصالح الضخمة الذي يُبنى في تركيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يقوم على أَسَاس الشراكة النشيطة مع الصهاينة والغربيين. من يمرّ بمطار اسطنبول يرى بوضوح أنّ الصهاينة في بلدهم تمامًا عندما يكونون في تركيا ولقد مررت بهذا المطار مرّات ورأيت مرّات.
تركيا أطلسيّة ولا إشارة من مسؤول تركيّ واحد منذ الارتباط بالحلف أنّ تركيا يمكن أن ترى مصالحها خارج هذا الحلف. كُـلّ من يزور تركيا يندهش لضخامة البلد وتوالد المشاريع هناك. طبيعي الشركات العالمية تستثمر كَثيرًا في تركيا وطفرة الاستثمارات بدأت مع مجيء أردوغان. وعليه فالنهضة التركية لا تفسّر بعبقريّة أردوغان بقدر ما تفسّر بفتح المجال التركي للرأسمال الغربي. هذا بدوره يزيد ارتباط الأتراك بالغرب والصهاينة وعليه يزيد الزهد في قضية فلسطين بما هي قضية تطلب دفع أثمان وتضحيات. العملة التركية سلاح بيد من يفرض على أردوغان خطّة سير ليس فيها فلسطين ولا يمكن أن تكون فيها فلسطين. منظوميًّا، تركيا التي تبدو قويّة ضعيفة جِـدًّا في مستوى القرار الاستراتيجي وفي مستوى السًياسة الخارجية.
عرض الصينيون والروس منذ سنوات على أردوغان مُقترحات قد تغيّر تركيا منظوميًّا ورفض ببعض لياقة. بحساب الأرقام البارد للرّجل مبرّراته. علينا أن نعترف بأنّ الأرقام هي المحدّدة لوضع المجتمعات الحديثة وهي الحاكمة في مصائرها وهي صانعة الفوضى وهي الضامنة للاستقرار. أردوغان، كما غيره، عبد للأرقام ويحكم مجتمعا هو مركّب لتفعل فيه الأرقام كُـلّ الفعل. لماذا تصمت تركيا وينطق اليمن؟ ببساطة؛ لأَنَّ مجتمع اليمنيين “المتخلّف” ما زال محكوما بالحروف، حروف الأفكار والعقائد والمُثل والمبادئ والأعراف. الأرقام تُبرمج على القوّة أمّا الحروف فتُبرمج على الحقّ. ولكنّ تركيا تحتاج لاستعادة نفوذها العثماني القديم في المنطقة العربيّة اعتماد بعض الحروف. تعلم أنّنا مجتمعات وقع الحروف عليها وفيها ما زال صامدا. لهذا نرى أردوغان يرتّل القرآن ويصلّي جماعة في المسجد ويقود مظاهرات داعمة لفلسطين. هكذا تطلب الحروف ولكنّه وهو يُطعمنا هذه الحروف يسقي الصهاينة أرقاما. معلوم أنّ الشركات التركية بقيت تموّل الحريف الصهيوني أشهر الطوفان.
الإسلاميون العرب يبرعون في إخراج أردوغان الحروف إخراجا بديعا ولا يذكرون الأرقام البتّة. لا يفصّلون منظوميًّا في أمر تركيا ولا يُحرجونها بتصريح يُظهر تقصيرها. أكثر من ذلك هم صاروا قابلين بكلّ ما هو مقبول تركيًّا؛ لأَنَّ أردوغان يقبل به. أنبتت الأردوغانية جيلا من الإسلاميين العرب صار تنظيرهم بليبرالية وديموقراطية ومثلية وحديبية. تقريبًا، وبسبب أردوغان، ينقلبون على كُـلّ الأفكار التي قاموا عليها منذ الثلاثينيات وجذّروها عبر كُـلّ محطّات صراعهم من مصر إلى السودان إلى سوريا إلى الجزائر وتونس. لماذا؟؛ لأَنَّهم بلحظة هشاشتهم المعمّمة وبعد إخفاقاتهم المتحَرّكة استُدرجوا إلى المطبّ والمطب هو أردوغان. الآلاف من قيادات الإسلاميين المنفيين انتعشوا بعد عسر ونفي وملاحقة ببركة أردوغان.
الرّجل مستعينا بقطر أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف فكيف لا يردّون الجميل. بمحطّة سابقة كان أربكان هو الرّهان. بعدها فُرض أردوغان رهانا للإسلاميين الأتراك وعبرهم رهانا للإسلاميين العرب.
وبالنظر إلى صراعات أردوغان في المنطقة وشعوره بمنافسة إيرانيّة جادّة تحوّلنا من حركات إسلاميّة إلى حركات سنّية تبيع الحمقى سلعة طائفية. باع النظام الرسمي العربي الجمهور صدّام حسين زعيم عرب في حربه ضدّ الإيرانيين الفرس ويبيع الإسلاميون اليوم لذات الجمهور أردوغان زعيم سنّة يتصدّى للتمدّد الشيعي. تحوّلوا من حركة إسلامية إلى حركة سنية فأمويّة. عندما أستذكر مسيرة الإسلاميين، على الأقل وبالنسبة لي منذ منتصف السبعينيات، أخلُص إلى أنّهم في مستوى قياداتهم الماسكة حركة نفاق قبيح وكلّ نفاق قبيح ولكنّ النفاق المقدّس أقبح. استطاعت الصهيونية واستطاع الاستعمار توظيف كُـلّ الأوراق؛ مِن أجلِ إنفاذ خططه حتّى تلك التي بدت بيوم من الأيّام معادية للصهيونية والاستعمار. رغم الضرر الذي يسبّبه أردوغان لفلسطين ومستقبل الصراع مع الصهاينة ليس بوسعي ضمان أنّ الخير يقدم لفلسطين ذاتها من منافس وخصم أردوغان في شخص أوغلو. منظوميًّا قدر كُـلّ السّاسة الأتراك التنافس في تقديم الخدمات لأقوياء العالم وأثرياء العالم. المجتمع التركي يبحث عن الرّفاه والرّفاه يطلب المال ومعلوم من يملك المال وكيف الحصول عليه.
لأنّني أفكّر هكذا وأفكّك مشهدنا المعقّد هكذا أراهن على إيران. إذَا كانت فارسية فرهاني عليها وَإذَا كانت شيعية فرهاني عليها وحتّى إذَا تحوّلت هندوسية فرهاني يبقى عليها. ذلك أنّ هذا الرّهان منظوميّ تمامًا كاليأس من تركيا بعد أنظمة عرب. منذ 79 تبني إيران نفسها لتكون منظوميًّا بمواجهة الغرب الاستعماري والصهيونية. تربويًّا وفكريًّا وعقديًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا وديبلوماسيًّا هي تنظّم مؤسّساتها وتمرّن أجيالها على موقف لا لبس فيه من أمريكا و(إسرائيل). في المقابل، من يعجزون عن الحضور منظوميًّا بمواجهة الأعداء المُثبتين لا يجدون غير التنابز بالمذهب والعرق للتّبخيس والتّعطيل وتقديم الخدمة تلو الخدمة للطغاة والمستكبرين.
الخلاصة: من تورّط في الأرقام لا نصيب له من حروف وكلّنا متورّطون إلَّا من بقي به وفاء لبقيّة حروف. ألهاكم التكاثر حتّى زرتم المقابر. لا يُحسب تكاثر إلَّا بأرقام ولا مانع للموت غير الحروف. الإيمان، في جوهره، رهان على الحروف بزمن “جمع مال وعدّده”.
* كاتب تونسي