الهيمنة الأمريكية والمقاومة: قراءة في خطاب صنعاء

 

أنس القاضي

في سياق الصراع المُستمرّ بين المركز الإمبريالي والأطراف الواقعة تحت سطوته، يبرز خطاب الرئيس مهدي المشاط، بوصفه تحديًا مباشرًا للهيمنة الأمريكية في المنطقة. هذه المواجهة ليست مُجَـرّد ردّ فعل على قرارات سياسية ظرفية، بل هي انعكاس لبنية الصراع الطبقي على المستوى العالمي، حَيثُ تمارس الإمبريالية آلياتها القمعية لفرض التبعية، بينما تتشكل حركات المقاومة كردٍّ موضوعي على هذا القمع.

لا يمكن النظر إلى قرارات الإدارة الأمريكية تجاه اليمن بمعزل عن موقع الولايات المتحدة كقوة إمبريالية تسعى إلى إعادة إنتاج سيطرتها على النظام العالمي. العقوبات التي تفرضها واشنطن ليست سوى أدَاة من أدوات الحرب الاقتصادية التي تهدف إلى عرقلة القوى التي تخرج عن نطاق سيطرتها. وكما هو الحال مع العقوبات المفروضة على كوبا، فنزويلا، وإيران، فَــإنَّ الهدف النهائي هو تدمير أي نموذج مقاوم للهيمنة الأمريكية، سواءٌ أكان عسكريًّا، اقتصاديًّا، أَو حتى رمزيًّا.

الخطاب السياسي الصادر عن صنعاء يقرأ هذه الحقيقة بوضوح؛ إذ يربط بين العقوبات المفروضة عليها وبين محاولات واشنطن لحماية الكيان الصهيوني؛ باعتبَاره وكيلها الاستعماري في المنطقة.

العلاقة بين (إسرائيل) والولايات المتحدة ليست فقط تحالفًا استراتيجيًّا، بل هي علاقة بين قوة إمبريالية عالمية وقاعدة متقدمة لها داخل الشرق الأوسط، تستمد شرعيتها من استمرار العدوان الاستيطاني على الأرض الفلسطينية ومنع أي تهديد محتمل لهذه الهيمنة.

إنّ خطابَ المشاط لا يتحدَّثُ فقط عن العقوبات كإجراء قانوني، بل يفكك البنية الكاملة للمنظومة الإمبريالية، موضحًا كيف أنّ الولايات المتحدة لا تتوانى عن التضحية بمصالح الشعوب الأُخرى خدمةً لمصالحها الإمبريالية. يشير المشاط إلى أن اليمن ينسق مع “جهات تعتمد على الصادرات الأمريكية” للتخفيف من آثار العقوبات؛ فهو بذلك يشير إلى محاولة استخدام الاقتصاد كأدَاة مقاومة؛ مما يعكس وعيًا بأهميّة فكّ الارتباط بالنظام الاقتصادي الرأسمالي المهيمن، أَو على الأقل تقليل الاعتماد عليه.

وهذا يتماشى مع فكرة “التنمية المستقلة” التي نظّر لها اقتصاديون مثل سمير أمين، حَيثُ لا يمكن لأية دولة أَو حركة مقاومة أن تتحرّر سياسيًّا دون أن تمتلك الحدّ الأدنى من الاستقلال الاقتصادي. السياسة الأمريكية تجاه صنعاء هي امتداد لنفس النموذج الذي طبق ضد التجارب الاشتراكية في القرن العشرين، حَيثُ يتم تجويع الشعوب الثائرة، وفرض الحصار عليها، لخلق حالة من الانهيار الداخلي تدفعها إما إلى الخضوع، أَو إلى مواجهة شاملة لا تستطيع الاستمرار فيها على المدى البعيد.

من أبرز النقاط في خطاب المشاط هو استدعاء التاريخ كمصدر للشرعية السياسية؛ إذ يذكّر واشنطن بأنّ اليمن “كان ميدان الركلات الأخيرة للإمبراطوريات المتجبرة”، وهو استدعاء يحمل بُعدًا أيديولوجيًّا يعكس فهم الصراع كجُزءٍ من استمرارية تاريخية.

لا يعتبر التاريخُ مُجَـرّدَ سجلٍّ للأحداث، بل هو سجلّ لصراعات القوى الاجتماعية، وهو ما يبدو حاضرًا في هذا الخطاب الذي يضع المواجهة مع الولايات المتحدة ضمن سياق تاريخي طويل من مقاومة اليمن للهيمنة الخارجية.

هذا الاستدعاء للتاريخ هو أَيْـضًا محاولة لإنتاج وعي طبقي ووطني في آنٍ واحد، حَيثُ يتم تقديم الصراع ليس فقط على أنّه صراع بين دولتين، بل بين مشروع تحرّري ومشروع استعماري عالمي. وهذا يعكس وعيًا بأهميّة الأيديولوجيا في الحروب الحديثة، حَيثُ لم يعد الصراع يقتصر على المواجهة العسكرية، بل يمتد إلى الفضاء الرمزي والثقافي، وهو ما يتجلى في محاولة واشنطن فرض روايتها على العالم عبر أدواتها الإعلامية.

لم يقتصر خطاب المشاط على مهاجمة الولايات المتحدة، بل تضمّن أَيْـضًا تحذيرًا لمن أسماهم “المبتلين بمرض المسارعة”، في إشارة إلى الأنظمة العربية التي تسير في رَكْب التطبيع والتبعية.

ويمكن فهم هذا التحذير كجزء من صراع الطبقات الحاكمة ضد القوى المناهضة لها، حَيثُ تعتمد الأنظمة الرجعية على الولاء للإمبريالية للحفاظ على مصالحها؛ مما يجعل أية حركة مقاومة تهديدًا مباشرًا لها.

يقدّم خطاب صنعاء نموذجًا لخطاب مقاومة يتجاوز كونه مُجَـرّد ردّ فعل سياسي، ليصبح بيانًا أيديولوجيًّا في وجه الإمبريالية العالمية. هذا الخطاب يعكس وعيًا بأنّ المواجهة ليست مُجَـرّد صراع سياسي بين طرفين، بل هي جزء من الصراع العالمي بين الهيمنة الرأسمالية والقوى التي تسعى إلى التحرّر منها.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com