غزة في سياق المشروع الأمريكي-الإسرائيلي: قراءةٌ في مسارات الصراع وتداعياته

 

المسيرة | عبد القوي السباعي

ما يجري في غزة اليوم يشكل جزءًا من المشروع الأمريكي-الإسرائيلي الكبير الذي بدأ الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بتأسيسه خلال ولايته الأولى (2017-2021م)، حَيثُ لعب دورًا محوريًّا في إعادة تشكيل سياسات “واشنطن” تجاه القضية الفلسطينية، بما يخدم المصالح الإسرائيلية.

في لقاءٍ امتد لأكثر من ساعة مع شبكة “يونيفيجن”، (الشبكة الأمريكية الأكبر الموجهة لـ 60 مليون مواطن أمريكي)، صرَّح “ترامب” أنه لو كان رئيسًا لما شهدنا كُـلّ ما جرى ويجري في قطاع غزة، وأكّـد أن “إسرائيل” تخسر معركة الرأي العام العالمي، قائلًا: “أعتقد أن على إسرائيل أن تقوم بعمل أفضل في معركة الرأي العام، بصراحة؛ لأن الجانب الآخر يهزمهم على جبهة الرأي العام”.

وفي اليوم الأول لرئاسة “ترامب” الجديدة، في الـ 20 من يناير 2025م، أصدر قرارًا تنفيذيًا ألغى فيه العقوبات التي كانت إدارة “بايدن” فرضتها على جماعاتٍ وأفرادٍ من المستوطنين اليهود المتطرفين المتهمين بالتورط في أعمال عنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلّة.

وأفَاد البيت الأبيض أن “ترامب” “ألغى الأمر التنفيذي 14115 الصادر في 1 فبراير 2024م”، الذي سمح بفرض عقوبات معيّنة “على الأشخاص الذين يقوّضون السلام والأمن والاستقرار في الضفة الغربية”، وكان “بايدن” قد فرض عقوبات على العديد من الأفراد والكيانات الاستيطانية الإسرائيلية، بما في ذلك تجميد أصولهم في الولايات المتحدة ومنع الأمريكيين من التعامل معهم.

وبحسب مراقبين، يُعتبر قرار “ترامب” التنفيذي هذا امتدادًا لنهجه في إدارته الأولى تجاه المستوطنات؛ إذ تخلّت عام 2019م، عن الموقف الأمريكي التقليدي الذي يرى أن المستوطنات غير قانونية، قبل أن يعيد “بايدن” العمل بهذا الموقف، كما رفع ترامب تجميد إدارة سابقه لتوريد قنابل تزن 2000 رطل لإسرائيل، في الأيّام الأولى من رئاسته والتي تُقدَّرُ بملايين الدولارات.

في السياق، وبالنسبة إلى مستقبل قطاع غزة، أكّـد “مايك والتز”، مستشار الأمن القومي في إدارة “ترامب”، أن حماس لن تعود إلى حكم قطاع غزة، محذّرًا بالقول: “إذا خرقت حماس هذا الاتّفاق وتراجعت، فسندعم إسرائيل في القيام بما يتعين عليها القيام به”، ومُشيراً إلى أن من سيتولى السيطرة على القطاع في المستقبل “ربما قوة أمنية مدعومة من العرب، وربما عبر ترتيب فلسطيني”، حَــدّ تعبيره.

وبحسب مراقبين، ووفقاً لمخطّط “ترامب” فهذه الإجراءات لن تتم بالقوة العسكرية الصلبة بل ستنفذها القوة الأمريكية – الإسرائيلية الناعمة، من خلال زعزعة الداخل الفلسطيني وخلق مزيد من التوتر والاقتتال البيني والعمل على فصل المقاومة عن حاضنتها الشعبيّة، من خلال إحداثِ شرخٍ كبير داخل النسيج المجتمعي الفلسطيني.

وفيما يتعلقُ بالضفة الغربية، لا يمكن التقليل من خطورة رئاسة “ترامب” عليها، ليس لناحية رفع الحظر عن الاستيطان فيها فحسب، بل كذلك من خلال ضمِّ حوالي 60 % من مساحتها، كما اقترح في خطته “السلام؛ مِن أجلِ الازدهار، معتبرها رؤية لتحسين حياة الشعبَين الفلسطيني والإسرائيلي”، أَو كما عُرفت بـ “صفقة القرن”، أواخر يناير 2020م.

وفي أغسطُس 2024م، بعد نحو أسبوعين من لقائه “نتنياهو” في ولاية “فلوريدا”، قال “ترامب”: إن “مساحة إسرائيل صغيرة جِـدًّا على الخريطة، وينبغي التفكير في كيفية توسيعها”، وحتى قطاع غزة لم يكن في مأمنٍ من مخطّطات الضمّ، خَاصَّة أن “ترامب” كرّر حديثه عن تهجير سكان غزة إلى بلدان عربية ورغبته في استلام القطاع وتحويله إلى “ريفيرا سياحي”، وتحدث عن سواحل غزة المذهلة وموقعها الرائع، والتي ستكون “أفضل من موناكو”، إن أعيد بناؤها، حَــدّ زعمه.

ووفقاً لخبراء عسكريين، فإن تصريح “ترامب” بأن “معاناة غزة ستنتهي إذَا أطلقت حماس المحتجزين” يكشف إما عن فهمه السطحي للصراع وتعقيداته، وإما أنه تأكيد على شراكة إدارته مع “نتنياهو” في مخطّط القضاء على المقاومة في غزة ووضع خطوات ملموسة في لبنات مشروعه الخاص بالمنطقة ككل.

ويستعل “ترامب” حاجة غزة لوقف الحرب لتحقيق مكاسب تجارية، ما يعكس وجود نوايا حقيقية لتهجير سكانها وإعادة توظيفها جغرافيًا، وهذا الطرح ينسجم مع محاولات إسرائيلية سابقة لإفراغ القطاع من سكانه، مستغلة الحرب والضغط الاقتصادي كأدوات لتنفيذ المخطّط.

ولعل المظاهرات في “بيت لاهيا” مثلًا؛ استُغلّت سياسيًّا من الإعلام العربي الرسمي للترويج لانفصال المجتمع الفلسطيني عن المقاومة، وبطبيعة الحال فالثقافة العربية المطلقة ترى المعارضة دليل ضعف، بينما تُعدّ المعارضة داخل المجتمع الفلسطيني أمرًا طبيعيًا، غير أن الشعب الفلسطيني لن يسمح بأن تُستخدم معاناته لخدمة أهداف الاحتلال.

وفي سياق الحرب النفسية والدعاية التحريضية والموجهة ضد المقاومة، تتصدر وسائل الإعلام العربية المطبِّعة للنيل من المقاومة وتهويل الأحداث، تتهم المقاومة في غزة بالتسبب في الحرب وتتجاهل جرائم الاحتلال في الضفة، حَيثُ يجري فيها التهجير ونسف المخيمات، واقتحام المدن، والاغتيالات، رغم أن الفلسطينيين هناك لم يواجهوا الاحتلال.

في الأثناء، بدأ إعلام العدوّ يتحدث بفرح وحبور، ويطالب بتشجيع أهل غزة للخروج ضد حركة حماس، ويقولون: إن “هذه خطة رئيس الأركان الحالي “إيال زامير”، والتي تعتمد الضغط على أهل غزة، حتى التمرد على حركة حماس، وتتيح للعرب التوسل إلى “إسرائيل” كي توقف إطلاق النار.. وبعد إسقاط حكم حماس، ووقف إطلاق النار، تبدأ الخطوة التالية، وهي تهجير أهل غزة طوعاً أَو غصباً”.

ووفقًا لمراقبين، فهدف قيام الإعلام العبري والعربي التطبيعي بتضخيم هذه المظاهرات جاء لتشويه المقاومة رغم محدودية أعداد المشاركين، ومقارنةً بما يجري في الداخل الإسرائيلي التي شهدت مئات المظاهرات ضد المجرم “نتنياهو”، والتي يُنظر لها كأمر طبيعي، بينما يُنظر للاحتجاجات في غزة كدليل انهيار.

خبراء عسكريون يؤكّـدون أن نزع سلاح غزة لن يؤديَ إلى إقامة دولة فلسطينية أَو تقرير المصير، بل سيقود إلى التهجير؛ لأن “إسرائيل” ترفض إقامة الدولة الفلسطينية وتعمل على تهجير سكان غزة، كما أن تجربة “أوسلو” مع حركة “فتح ومنظمة التحرير” في نزع السلاح، والتفاوض لم تمنع استمرار الاستيطان، وتدعو حكومة الكيان لفرض سيادتها على الضفة، وهذا ما ترتكز عليه سياسات “نتنياهو وترامب” من خلال الضغط العسكري والخداع والمكر السياسي لإخضاع غزة.

وبحسب الخبراء، فما يجري في غزة يتعلق بنزع سلاح المقاومة تحت شعار “الرغيف مقابل البندقية”، حَيثُ يُطرح السلام مقابل التخلي عن القوة، والتجارب التاريخية تثبت أن الشعوب التي تخلت عن سلاحها تعرضت للذبح.

في السياق، يرى الخبراء أن “نتنياهو” يستغل أي اضطراب داخلي لتعطيل المفاوضات وإفشال جهود وقف العدوان على غزة، معتبرًا الحراك الداخلي فرصة لتنفيذ مخطّطاته، وأي محاولة لشق الصف الفلسطيني تكون خدمة لمصلحة الاحتلال، ما يستدعي التمسك بالوحدة والصمود، في ظل حرب الإبادة، حَيثُ يبقى الحذر والوعي والوحدة السلاح الأقوى لمواجهة مخطّطات العدوّ.

هذا المشروع الإسرائيلي والأمريكي يراه مراقبون بأنه مفضوح؛ إذ يقول بوضوح: “سلموا كُـلّ قطعة سلاح في المنطقة وجردوا أنفسكم من أية أدَاة قد تؤذي جنديًّا إسرائيليًّا خلال ممارسته للإبادة”.

ورغم ذلك، فأهالي غزة الذين صمدوا في وجه الحرب رغم معاناتهم وتفاوت مواقفهم من المقاومة، إلا أنهم يعتبرون المجاهدين جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني وقدموا التضحيات دفاعًا عن فلسطين، ولا يجوز وصفهم بالإرهاب أَو المطالبة بطردهم، لأن المشكلة الحقيقية هي الاحتلال، وليس المجاهدين، ويبقى أهل غزة خط الدفاع الأول عن القضية.

ويؤكّـد مراقبون أن جريمةَ الإبادة في غزة تتطلب مواجهتُها موقفًا عربيًا موحَّدًا، وأن تكرار رواية الاحتلال تُعد خيانة، فالاحتلال يقتل في غزة والضفة على حَــدٍّ سواء، والسبب هو وجود محتلّ ينكر حقوق الفلسطينيين، إضافة إلى تواطؤ بعض العرب وصمتهم عما يحدث في الضفة.

والدليل -وفقاً للمراقبين- فإن الاحتلال الإسرائيلي يعتبر كُـلّ الوجود الفلسطيني ذاته المشكلة، وليس المقاومة، فعمليات الهدم والتهجير القسري، مثل تهديده بهدم 93 مبنى في جنين بعد تدمير أكثر من 300 منزل، ليست رد فعل على المقاومة، بل جزءٌ من النزعة الاستيطانية التي تعد مكوّنًا أَسَاسيًّا في مشروعه الاستعماري.

ورغم وضوح هذه الحقيقة، لا زال البعض يصرُّ على لوم المقاومة وتبرئة الاحتلال، متجاهلًا أن آلة القمع الإسرائيلي المدعومة أمريكيًا تعمل بلا توقف، حتى في مناطق التنسيق الأمني؛ فما يحدث في “جنين” ليس حالة معزولة، بل نموذج لحقيقة واضحة، تؤكّـد أن الاحتلال لا يستهدف من يقاومه فقط، بل يستهدف الوجود الفلسطيني نفسه عبر الاقتحامات والعقوبات الجماعية، حتى في المناطق المفترض أنها تحت إدارة السلطة الفلسطينية.

في المحصلة، يراهن الجميع على سقوط مشروع الجهاد والمقاومة في غزة، غير أن الغلبةَ مكتوبةٌ له؛ لأن من ساروا عليه والتزموا بأمر الله في الإعداد والتجهيز، عند لحظة المواجهة، وطبق المجاهدون آيات الهجوم بدقة، ما تحقّق معه وعد الله بالنصر.

ومهما بطش العدوّ الإسرائيلي وحلفاؤره لن ينثنيَ أصحاب هذا المشروع العظيم عن مواصلة طريقهم لتحقيق قدر الله في وعد الآخرة وإلحاق الهزيمة بالعدوّ، رغم صعوبة المعركة، إلا أن النتيجة الحتمية هي النصرُ الموعود، وهذا ما تؤكّـد عليه المقاومة في غزة أنها لن تتنازلَ عن سلاحها ولن تخضع للمساومة.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com