النظامُ المعرفيُّ في المنهجية القُـرْآنية
عبدالملك العجري
يتّهِمُ السيدُ حسين الحوثي المناهجَ التُراثية- وعلى رأسها أصول الفقه – بالجناية على الدين والإساءة للقرآن عندما حوّلت القُـرْآن إلى نصوص ظنية قاصرة عن انتاج اليقين؛ وكونَ معظمِ نصوص القُـرْآن ظنيةً شكّل مدخلاً مناسباً لإحالة المهمة للمجتهد كخبير ومتعهّد رسمي يحمي النصوصَ وَيمنحُها دلالتَها ومعانيَها وأَصْبَـح دورُه محورياً في ضبط العلاقة بين الدال والمدلول ولا توجد ضوابُط أَوْ عِصمةٌ أخلاقية تضمَنُ عدَمَ تلاعُبِه بالنص بعد أن أَصْبَـح نصاً مفتوحاً على كُلّ الاحتمالات وكل مجتهد يحمِّلُها من المعاني ويقرأها من خلال وعيه الذاتي والفردي.
قضيةٌ مهمةٌ وجوهرية أكد عليها السيدُ حسين هي أن القُـرْآن ينتجُ نظامَه المعرفي الخاص أَوْ ما يسميه نواميسَ أَوْ سننَ الهداية في المنهجية القُـرْآنية ولا يمكن فهمُه من خلال مناهج تستمدُّ أصولَها من حقول معرفية أُخْــرَى كالمنطق والفلسفة التي أثّرت على بناء المناهج التراثية منذ عصر التدوين من ذلك هل القُـرْآن نص أم خطاب؟.
في محاضَرة له بعنوان (كيف نفهم القُـرْآن) يلفت أن القُـرْآن خطابٌ وليس نصاً فلسفياً أَوْ نظرياً للتأمل الديني من خلال آليات التأويل التراثي وَالمناهج المتعدد لقراءة النص، بل خطابٌ بما يعني الخطاب من عملية تواصلية تتضمن مرسلاً ورسالة ومتلقياً، الأضلاع الثلاثة في فهم الخطاب.
وخطابٌ عام للأمة “بلسان عربي مبين” من يعرف أساليبَ العرب في التخاطب يفهم القُـرْآن على حد السيد حسين في محاضرته (كيف نفهم القُـرْآن) وليس خطاباً موجهة لنخبة تتمتع بقدرات ذهنية ومعرفية تؤهّلها لتلقي الخطاب القُـرْآني وبتوسّطها يفسر للأمة كما حصل منذ عصر التدوين.
وأَكْثَر القضايا خطورةً هنا أنها تؤسِّس لسلطات مرجعية ثانوية تزيحُ السلطاتِ الأصلية، فالسلطة المرجعية لله صاحب الخطاب تنتقل للمفسر الخبير الذي يمتلكُ وحدَه سلطةَ تفسير النص والخطاب القُـرْآني يتحوّلُ لنَصٍّ طُقوسي للبركة وَالتفسير هو الذي يحتوي المعرفية الدينية.
وهو أَيْضاً خطابُ فعل أَوْ خطاب إرشاد وتوجيه أَوْ خطاب تعليمي والخطاب التعليمي أَوْ الارشادي بطبيعته خطاباً عملياً بيّناً لا يحتملُ اللبسَ يتلقى فيها المخاطَبُ رسالةً واضحةً، فهو خطابُ عمل وليس نصَّ رأي، وَبما أن القُـرْآن خطابُ هداية، خطاب ارشاد وتعليم، خطابٌ للفعل فلا يمكن أن يكونَ الخطابُ القُـرْآني مصدرَ سُوء الفهم؛ لأنه معيب في حق الله تعالى وفي حق الرسول أن يخاطبَنا بخطاب ملتبِس أَوْ يوجهنا للعمل بلغة لا نفهمها.
المتلقي على عهد النبي كان يسمعُ كلامَ الله وكلامَ النبي ليعملَ به أَوْ ليطبّقه في واقعه، أي أن اللهَ لم ينزل القُـرْآن كنص فلسفي للتأمل النظري يخضعُه القارئُ الخبيرُ لآليات التأويل ومناهج القراءة ذات المرجعات المتعددة والمتناقضة.
أما الاجتهاد بالمفهوم التراثي فهو عبارةٌ عن عملية تفاعلية بين النص الديني (القُـرْآن- السنة) والمجتهد، معزولةً عن مؤلفه (الله- الرسول) لاستكشاف الدلالات المتضمنة في النص الحول القُـرْآن لمدونة قانونية فردية للخلاص الأخروي وليس خطاب هداية لبناء أُمّة نموذجية.
يقول السيد حسين:
“اللهُ ليس كأي رئيس دولة، أَوْ رئيس مجلس نواب يعمل كتابَ قانون، فنحن نتداول هذا الكتاب ولا نبحَثُ عمن صدر منه، ولا يهمنا أمرَه، ما هذا الذي يحصلُ بالنسبة لدساتير الدنيا؟ دستور يصدر، أنت تراه وهو ليس فيه ما يشدُّك نحو مَن صاغه، وأنت في نفس الوقت ليس في ذهنك شيءٌ بالنسبة لمن صاغه, ربما قد مات، رُبَّما قد نفي، ربما في أيَّة حالة، ربما حتى لو ظلم هو لا يهمك أمره.”
والنصُّ القُـرْآني ونصوصُ السنة لا تكشفُ عن مقصود الله والرسول على أَسَـاس الوظيفة الاحالية للغة والارتباط الصريح بين الدال والمدلول فحسب، وليس كُلُّ مَن استجمع الشروط المادية التي تحددها أصول الفقه مؤهلاتٍ للاجتهاد واستنباط المعرفية الدينية من النصوص المقدّسة والعلاقة مع القُـرْآن ليست مجرد علاقة مع بناء نصي ونظْم وأُسْـلُـوب كما حصل في عصر التدوين معزولةً عن الله يقول “لو ترسخ في أذهاننا أن اللهَ شاهدٌ على كُلّ شيء حاضر في كُلّ شيء لتفادينا الكثير من الإشكالات.. “.
والشهودُ الالهي هنا ليس بالمعنى الوجودي بتأويل العرفانين (وحدة الوجود) إنما الشهودُ على المستوى الهديوي /المعرفي شهود الهداية باعْتبَار الحقيقة الدينية محتواه في الملأ الأعلى.